Atlantic council - ترجمة بلدي نيوز
في عام 2003 قامت القوات الأمريكية بنجاح بالاستيلاء على بغداد، والإطاحة بالنظام العراقي، ولكن من دون الاستفادة من خطة تثبيت المدنية والعسكرية في "اليوم اللاحق"، والنتائج لذلك: احتلال فوضوي، تمرد شرس، وانسحاب سابق لأوانه للولايات المتحدة من العراق في عام 2011، والظهور اللاحق لتنظيم "داعش" الإرهابي، بالإضافة للكثير غيرها من خيبات الأمل، ليبيا 2011 (ولمرة أخرى فشل تطبيق خطة الاستقرار)، سوريا 2011 وحتى هذا اليوم، هي ردة الفعل على العراق، هي الآن وقود الخطابة لأولئك الذين يدافعون اليوم عن وجهات نظرهم، بوجوب تطبيق بعض أساليب فك الارتباط الأمريكي عن الشرق الأوسط.
إن عجز كل من تلك السياسات كان له أسبابه المعينة، حيث كان لكل من تلك السياسات "كتّابها" المحددون، بينما لم تكن تلك السياسات محصلة أي إجماع لمؤسسة السياسة الخارجية، فقد تضمن بعضها استبعاد بعض الخبراء الفعليين، في حين لم تبد أي منها الفشل المحتم للعمليات العسكرية الأمريكية وغيرها من تدرجات المشاركة السياسية الأمريكية في العالم العربي، في الواقع، إن إعلام الكويت في عام 1991 كان قد أظهر التفوق الأمريكي بشقّيه الدبلوماسي والعسكري في المنطقة بكونه من الدرجة الأولى، وبعد 13 عاماً من الفوضى في العراق، والتي تخللتها انتكاسات أخرى، يبدو بأنها استطاعت إقناع بعض الأمريكيين بأن الولايات المتحدة ببساطة لا تستطيع فعل أي شيء صحيح في الشرق الأوسط، وبالتالي يجب أن ترحل.
إن الأزمة التي نواجهها اليوم في الحكومات المريضة والتنظيمات الإرهابية القوية التي نشأت في منطقة الشرق الأوسط، كلها دولية في نطاقها، إذ إنها تؤرق السياسة في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، كأزمة المهاجرين القادمين من سوريا وشمال أفريقيا، وظهور الإرهابيين الذين يقومون بالأعمال الوحشية الجماعية، إن ذلك التصرف الطائش، الغير مدروس في عام 2003 كان له عواقبه غير المتوقعة وغير المرغوب بها، تلك العواقب الفعلية والمؤسفة جداً.
لقد تم تكرار خطأ العراق لعام 2003، في سيناريو مماثل في ليبيا في عام 2011، من خلال سحب القوات المتهور من العراق في عام 2011، وتجميد فكرة مواجهة المستبد السوري والمسؤول عن جرائم القتل الجماعي، إن هذا أيضا لصحيح ومؤسف حقاً، بينما يصرّح مدير وكالة الاستخبارات المركزية بأن تنظيم "داعش" الإرهابي، في كل من سوريا والعراق، هو نتاج فشل الإدارة الأمريكية في كلا البلدين، إذ أن ذلك التنظيم يحاول الآن وبشدة، القيام بما فعله منذ وقت ليس ببعيد في كل باريس وبروكسل، داخل حدود الولايات المتحدة، هو إن اختلاق جسر وهمي يستطيع إيصالنا للإجابة على هذا التحدي؟
وحتى في أذهان أولئك الذين يقترحون فك الارتباط الأمريكي بالشرق الأوسط، لربما كانت الكلمة تلك بحد ذاتها، ذات معنى ضيق جداً، فعلى سبيل لمثال، إن كان السيد ترامب لا يعرف ذلك الآن، فعلى مستشاري السياسة الخارجية الخاصين به، اطلاعه على الأهمية الحيوية للعالم الاقتصادي، وبالتالي الاقتصاد الأمريكي بشكل خاص، وبأن موارد الطاقة الأمريكية تمر الآن عبر مضيق هرمز، وأن الضرورة التي لا مفر منها هو أن على القوات البحرية الأمريكية، أخذ زمام القيادة في منطقة الشرق الأوسط، في سبيل الحفاظ على هذا التدفق.
وعلى أي رئيس أميركي كان، أن يأخذ بعين الاعتبار خطر الإرهابيين الكبير، على الأمن الوطني والمواطنين الأمريكيين والدبلوماسيين ورجال الأعمال والسياح المتواجدون فعليا في المنطقة، ومن المؤكد بأنه ليس هنالك من رئيس أمريكي يستطيع عزل العلاقات القديمة والعميقة مع أي من الحلفاء في الشرق الأوسط، إذ أن أمريكا ليست بقوية بوجودها وحدها.
إن فك الارتباط الأمريكي مع الشرق الأوسط، لربما يعني إبعاد الولايات المتحدة، عسكرياً ودبلوماسياً، عن الصراعات المتأججة في كل من العراق وسوريا وليبيا وغيرها، ومن "بناء الدولة" بمعنى تقديم الجهود الاستشارية المكثفة المترافقة مع توطيد الأمن والمساعدة الاقتصادية، قد تكون تلك الفلسفة التوجيهية شيئاً من منطق ترك الصراعات في المنطقة لتحرق نفسها، بينما تحافظ الولايات المتحدة على مسافة آمنة من الفاعلين الأصليين بصراعاتهم القديمة الجذور.
إن جوانب السياسة الأمريكية اتجاه سوريا على مدى السنوات الخمس الماضية، وعلى وجه الخصوص بقرار عدم تقديم أي حماية للمدنيين السوريين من سياسات حكومتهم الوحشية من القتل الجماعي والإرهاب الدموي، تشكل محاكمة جزئية في ترشح الإدارة الأمريكية لفك ارتباطها بصراعات الشرق الأوسط، لكل ما لهذه الكلمة من معنى، بينما يحول صعود تنظيم "داعش" الإرهابي، وأزمة الهجرة بتلك الأعداد الهائلة، بعدم التبشير بالخير من تلك التجربة.
إن فك الارتباط عن سوريا سيكون أكثر اكتمالاً إذا ما تم إيقاف تلك الجهود الدبلوماسية التي يقودها الآن وزير الخارجية الأمريكية جون كيري لإنهاء الحرب في البلاد، إلى جانب وقف المساعدات الإنسانية للاجئين، وهذا من شأنه أن يفاقم من ذلك الوضع المحفوف بالمخاطر بالفعل بالنسبة للسوريين، وجيرانهم من حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، وفي نهاية المطاف للولايات المتحدة بنفسها.
إن الفوضى السائدة في أماكن مثل سوريا وليبيا والعراق، واليمن (بالإضافة إلى ذكريات العراق في عام 2003 والمستمرة حتى الوقت الحاضر) تقوم بإقناع بعض الأميركيين بأن الدور الوحيد الحكيم الذي تستطيع الولايات المتحدة العمل به، هو الابتعاد عن المنطقة ، بينما لا يزال الفشل الأميركي في منطقة الشرق الأوسط يعود لسياسيين معينين، وأسباب وظروف محدّدة، وأي بحث عبثي عن الأساس الواقعي لما تفعله الولايات المتحدة في هذه المنطقة المضطربة من العالم، سوف يخلص إلى أن سياستها في الابتعاد تتحول إلى كارثة.
لقد كان هذا، هو جوهر الجدل الرئيسي لإدارة أوباما، ضد أي خطوات عسكرية من شأنها أن تعقد، أو تخفف، أو تحبط من عمليات القتل الجماعي الذي يقوم به بشار الأسد في سوريا، إذ أن قيامنا بفعل أي شيء عسكري على الإطلاق لحماية المدنيين، وتقويض قدرة تنظيم داعش في الحصول على المجندين، تجعلنا نقف على منحدر زلق قد يقودنا في نهاية المطاف، للتدخل الكامل والاجتياح والاحتلال، وتكرار ما حل بنا في العراق.
إن قرع الطبول الخطابية هذه، تستطيع فعل أي شيء عدا إقناع الشركاء الإقليميين بأن واشنطن لا تسعى فعلاً للتخلي عنهم لصالح شكل من أشكال تشارك الجوار لإيران العدوانية والمهيمنة، بينما عرض بعض الناخبين الأميركيين والأوروبيين فك الارتباط مع الشرق، والذين رأوا فيه بأن: الشرق الأوسط يعاني من مرض عضال ميؤوس منه، عليهم أن لا يقتربوا منه.
لم يكن الرئيس أوباما ومستشاريه يعنون حرفياً ما كانوا قد قالوه وصرّحوا به، إذ أنه الآن وبعد كل شيء، القوات الأمريكية اليوم، موجودة فعلياً وعلى أرض الواقع في كل من العراق وشرقي سوريا، بينما كانت الحجج في الحفاظ على المسافة وتلك التصريحات بأننا: 'نخشى بأن سورية منحدر زلق'، وبتدخلنا سوى أن نزيد الأمر سوءا'،'هذه ضغائن قديمة.... هي تصريحات كانت مخصصة حصراً لدعم سوريا الأسد.
في الواقع، وفي هذا السياق تحديداً لقد كان لدى إدارة أوباما، فائدة سياسية كبرى، إذ أنها وضعت على رأس أولوياتها الإقليمية، فرصة الحصول على صفقة نووية مع إيران، بينما كانت أهم الأمور السلبية هي عدم مواجهة المستبد السوري، وأعطى أوباما مبررات لاختلاق الكثير من الأعذار المعاد تدويرها منذ تسعينيات القرن المنصرم، وذلك عندما نفت الولايات المتحدة ولمدة طويلة حدوث إبادة جماعية في البلقان، ولكن هذه السلبية نفسها وعلى مدى السنوات الخمس الماضية من الحرب الدامية في سوريا والتي يشنها النظام السوري ضد المدنيين العزل، كان عليها أن تتجنب إغضاب إيران بأي شكل كان، البلد الذي استثمر أقصى إمكانياته لأجل بقاء نظام الأسد.
ولا تزال عبارات كـ"قل لي كيف سينتهي الأمر"، "لا توجد ملائكة في سوريا"، "سينتهي بنا الأمر في نهاية المطاف بامتلاك المكان"، ذات تأثير قوي في فعاليتها المحدودة بغرضها النفعي، في حين عززت المفاهيم الافتراضية للعديد من الأميركيين بأن: ما يحدث في سورية لأمر فظيع حقاً، ولكن هذا الأمر ليس من شأننا، لدينا مشاكلنا الخاصة لنهتمّ بها، دعوا الرب ليحسن ترتيب هذا الأمر.
هل لنا أن نتصور، مع ذلك، بأن كل من في الغرب والشرق يجهل ما يحدث في سوريا، العراق، وليبيا أو أنها ليست بمشكلتنا؟ هل نعتقد حقا أن هنالك قلعة ما، خندق، وجسر متحرك يفصلنا عنهم؟ هل اعتدنا وشركاءنا الغربيين على القول "افعلوا ما يحلوا لكم، فقط أعلمونا عندما تنتهون؟"، هل نحن مرتاحون بصعود الإرهابيين الدوليين ليملؤوا ذلك الفراغ الذي تركناه بتنحينا؟ أليس هنالك أي عواقب دولية لأولئك الذين أفرغوا بلدان كاملة من سكانها؟ هل حقاً جعل الخلافات تتجه نحو الأفضل في ذلك الجزء المضطرب من العالم يفوق قدرات الأميركيين وشركائهم في حلف الأطلسي؟ أيجب استبدال شعار أمريكا القومي، من مئتان وأربعون سنة نحو الاستقلال، إلى "ليس هنالك من شيء نستطيع فعله!!
إن الرئيس الأمريكي المقبل، سواء أشاء أم أبى، سيكون له أو لها يد كاملة ممدودة نحو الشرق الأوسط، مشغولة في تفاصيله، في حين أن نقطة البداية في الحصول على أي شيء صحيح، هو رفض ذلك الاقتراح المدّعي بأننا سنقوم دائما بفعل الشيء الخاطئ، إذ ان الفشل في العراق في عام 2003، وسوريا وليبيا في عام 2011، لا يفترض على الولايات المتحدة بأنها لا تستطيع القيام بفعل أي شيء صحيح في الشرق الأوسط، إذ أن تلك الإخفاقات كانت ذات أسباب معينة، وكتّاب محدّدين لمرحلة محدّدة، فقط كتلك الحملة الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية الناجحة ببراعة، والتي أدت إلى تحرير الكويت في عام 1991.
إن القول بأننا مقدرون بالفشل، هو تغيير حقيقي لرسالة ومعنى التجربة الأمريكية، ومن الناحية العملية فإذا قمنا بإدارة ظهورنا لما يحدث في الشرق الأوسط، تاركين زمر الإرهابيين وكتلة القتلة الديكتاتوريين في الشرق الأوسط يفعلون ما يشاؤون، فنحن نقوم بفعل خطأ كبير قد يلقي بمخاطره وعواقبه على كاهلنا، إذ أن ما يحدث في الشرق الأوسط، لن يبقى في الشرق الأوسط.