الشرق الأوسط - (ترجمة بلدي نيوز)
في حين كان الجميع يتحدّث عن دخول القوات التركيّة إلى بلدة جرابلس الحدودية في شمال سوريا، كانت الصفقة القذرة في محيط العاصمة دمشق تدخل مرحلتها الختاميّة، فقد كانت ضاحية داريا الدمشقيّة والتي عانت شتّى أنواع المآسي المفروضة عليها لسنوات طويلة، تُسلَّم تسليم الأضاحي إلى نظام بشار الأسد والميليشيّات الداعمة له، وذلك بتواطؤ دوليّ تحت علم الأمم المتحدّة، ووسط تجاهل عربي ودولي فظيع.
حدث هذا على أرض ما كانت تُسمّى ذات يوم بالجمهورية العربية السورية، ولكن وفي مكان آخر -في مدينة جنيف السويسرية، تابع وزيرا الخارجيّة الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، تفاهمهما وراء أعمدة من الدخان والتضليل، ومن أجل جعل خدعتهم معقولة لم ينسى أيّ منهما زعمه بأنه :"لا تزال هنالك نقاط خلاف"، وأن لا تطابق حتّى في مواقف الدولتين إزاء سوريا.
في الواقع فإن ما حدث، ويحدث، وسيحدث، في جنيف لم يعد يُفاجِئُ أو يُقنِعُ أيّ مراقبٍ جادّ عايش تطوّرات ما يحدث في سوريا منذ أكثر من خمس سنوات، وشهد التحوّلات التي حدثت هناك بفعل التواطؤ الدولي والقمع الدموي المُستمرّ والذي يسعى لفرض "حلّ عسكري"، والذي قام بتحويل الانتفاضة الشعبية العفوية المعتدلة إلى تلك الحرب الطائفيّة والإقليميّة التي قامت بفتح باب الحرب الهادفة إلى اقتلاع وطرد العرب السنّة من كل من العراق وسوريا.
-نقطة التحوّل:
إنّ المظاهرة الشعبيّة الحاشدة في مدينة حماه خلال صيف عام 2011، كانت المفصل الحاسم، إذ وأمام مئات الآلاف من المتظاهرين في المدينة التي شنّ عليها النظام ذاته في عام 1982 حربًا شرسة دمويّة، راح ضحيّتها أكثر من 40 ألف مدنيّ خلال أقل من شهر، كان من المتوقّع أن يصاب النظام بالذعر، ويشعر بالقلق والتهديد الحقيقي لوجوده، قبل أن يتّخذ القرار بشن حربه التدميرية، ولكن وهذه المرة على كل منطقة ومدينة تتحدّى أو تثور على حكمه وسلطته، وبالفعل وكما شاهدنا منذ ذلك الحين، فقد اعتمد النظام أو أولئك الذين يتّخذون قرارات الحرب عنه، استراتيجية تتألف من ثلاثة أجزاء:
أولاً: استدعاء الميليشيّات الطائفيّة الشيعيّة "غير السورية" للقتال بجانب النظام، تلك الميليشيّات "المُكلّفة شرعيّاً" والمقاتلة بأوامر عسكريّة من الولي الفقيه في إيران.
ثانياً: استخدام "الطابور الخامس" من السنة المتطرّفين أو أولئك الذين يزعمون أنهم يقاتلون من أجل السنة، وذلك عقب إطلاقهم من سجونه أو مخابئه التي تعلم بأمرها أجهزة استخبارات الأسد، حيث كان من بين أولئك عملاء لتلك الأجهزة، وذلك لتفجير الثورة من الداخل عبر حرف توجّهها ومسارها السّلمي والمنفتح، نحو تحويل المعارضة بعيداً عن الاعتدال والوسائل السّلمية للعداء والمواجهة الطائفيّة الصّارخة.
ثالثاً: استغلال فكرة "تحالف الأقلّيات" والذي كان أصلاً احتياطيّ النّظام المُدّخَر لوقت الحاجة، وبالفعل فقد لعب بعض كبار رجال الدين المسيحيين السوريين وغير السوريين، دوراً كبيراً بتحريض الحكومات الغربية ضد الثورة، حيث صرّح أحدهم إبان زيارة له لأوروبا، منذ الأشهر الأولى للثورة، بما معناه: "لربّما يكون نظام الأسد سيّئاً وفاسداً، ولكنه يظلّ أقلَّ سوءاً من البديل الذي ستجيئ به الثورة".
لقد أوصلتنا بالفعل هذه الاستراتيجية المُتّبعة إلى الكارثة السياسيّة والإنسانيّة التي نشهدها اليوم، إذ أنّ الميليشيّات الطائفيّة الشيعيّة حالت مؤقّتاً دون انهيار نظام الأسد، كما هيّأت الأرض لردّ الفعل الطائفيّ المُضاد والذي أضعف بمرور الوقت، ثمّ همّش التيارات الوطنيّة والليبراليّة المعتدلة داخل الثّورة، ومع استمرار نظام الأسد بدسّ زمر المتشدّدين، والذين قاموا مراراً بالتحريض المذهبي والديني ضدّ الغرب، تأمنّت الذريعة المناسبة للدول الغربية، ليس فقط لتجاهل الثورة السورية فحسب، بل حتى بمنعها من حماية نفسها وشعبها، إمّا برفض تسليمها أي سلاح دفاعي نوعي قد يكون فعّالاً، أو برفضها لتوفير أي "ملاذات آمنة" ومناطق حظر طيران حتى هذه اللحظة.
الخطط الجيوسياسيّة:
في خضمّ ما يحدث الآن، تواصل كلّ من روسيا وإيران تنفيذ خطط الجغرافيّة السياسيّة لكل منهما في أجزاء أخرى من سوريا، وخاصة في دمشق وضواحيها، وذلك من خلال ارتكابهم لمجازر التطهير الديني والمذهبي والعرقي، والذي يستهدف بشكل رئيسي العرب السنّة وذلك بمباركة أميركية ودولية.
إن كلام السيد كيري في جنيف بالأمس عن "تحقيقه" وشريكه لافروف "تقدّماً في المسار نحو الأمام"، في مجال تجديد الهدنة والخطط الإنسانية، وعن إنجازهما لمعظم المباحثات التقنية المؤدية إلى "عقد مفاوضات بشأن كيفيّة إنهاء الحرب"، يمكن وصفه بالتّضليل المضحك المبكي، وإذا ما كان كيري لا يزال متوهّماً بأنه قادر على بيع السوريين -على الأقل- "أكذوبة" وجود نيّة أميركيّة حقيقيّة لإنهاء معاناتهم ومحنتهم، وإيجاد "الحل السياسي" الوهمي، فلربما يجب عليه أن يعلم بأن السوريون يعلمون علم اليقين:
أولاً: بأن واشنطن في خلال ما تبقّى من فترة رئاسة باراك أوباما لن تختلف مع روسيا وإيران مطلقاً، في حين أنها كانت هي التي تراجعت من قبل حتّى عن "خطوطها الحمراء" التي وضعتها بنفسها فيما يخصّ استخدام الأسلحة الكيميائيّة، وذلك على الرغم من وجود الدلائل بتورط الأسد.
ثانياً: أن واشنطن رفضت منذ البداية إسقاط بشار الأسد بالقوة، ومن ثم وبعد توفّر الذّريعة المناسبة بظهور تنظيم الدولة، انكشفت وجهة نظرها الحقيقيّة التي تكاد تكون متشابهةً تمامًا مع كلّ من الروس والإيرانييّن، وذلك بالتركيز على "مكافحة الإرهاب"، -الإرهاب السنّي، حصرًا-.
ثالثاً: أن ليس هنالك أيّ جدّية في الموقف الأميركي، سواء أكان ذلك على صعيد الدّعم العسكري أو الدّعم السياسي للثورة السوريّة، وذلك بدليل الصّمت المُريب الحاليّ في جبهات الجنوب السوري، في مقابل تشكيل واشنطن لميليشيات مفتعلة تتألف من الأكراد الذين يتبعون لأحزاب يشتبه بعلاقاتها مع نظام الأسد بنفسه، وذلك مع تخصيص "واجهات" عربيّة وتركمانيّة في جبهات الشمال.
رابعاً: إن التغيير العلنيّ الوحيد الذي طرأ على موقف واشنطن إزاء الثورة السوريّة خلال السنوات الخمس الأخيرة، كان اقترابها المفاجئ والمستمرّ من رؤية وتوجّهات موسكو، وحتى عندما قرّرت روسيا الانخراط في العمل العسكري المباشر دعمًا للأسد في سوريا.
وخامساً: أن أيّ كلام عن أيّ "حلّ سياسي" لن يكون ذو أيّ معنى مع استمرار الأعمال العسكرية، وبالأخص تلك العمليّات الجويّة، في حين يواصل نظام الأسد وحلفائه من الروس والإيرانيين وعملاءهم على الأرض جرائم "التغيير الديموغرافي"، والتي كانت أحدثها في داريّا.
إن ما حدث في داريّا خطير حقّاً، إنّه أمر خطير جدًا، لأن مصير سوريّا يقرّره مصير دمشق، ومصير دمشق تقرّره جبهات الجنوب المجمّدة ومسرحيات جنيف التفاوضية البائسة والرّخيصة.
-إياد أبو شقرا: الصحفي منذ عام 1973 في صحيفة النهار اللبنانيّة، انضم لجريدة الشرق الأوسط في المملكة المتحدة في عام 1979، كما شغل عدّة مناصب منها: محرّر أول، مدير التحرير، ورئيس وحدة البحوث، فضلاً عن كونه كاتب عمود منتظم في الصحيفة، ويملك العديد من الأعمال المنشورة، بما في ذلك الكتب، والمقالات السياسيّة المتخصّصة.