بلدي نيوز - (تركي المصطفى)
مقدمة
لعل من أهم أسئلة اللحظة التي يثيرها متابعو الشأن السوري، هي لماذا تختلف قراءة بنود اتفاق "سوتشي" الذي أبرمه الأتراك والروس أخيراً حول إدلب، من أجل نزع فتيل الحرب، ولماذا لم تنجل آليات تطبيقه على الأرض، وما هي حدود المنطقة منزوعة السلاح، ومستقبل إدارتها، وهل تخص طرف المعارضة فقط، أم تشمل المناطق الشطرية مع النظام، وما مدى قدرة أطراف الصراع على تطبيق هذا الاتفاق؟.
قد يكون غير مقبول لدى البعض ما يذهب إليه مفسرو الاتفاق، لكنه ليس رجمًا بالغيب، بل توقع يستند إلى تجارب ووقائع قريبة وماثلة في هذا المنحى، تؤيد هذا التوقع أو ذاك، فمن كان يظن أن غوطة دمشق أو درعا أو ريف حمص الشمالي سيصبح حديقة للروس وللأسد وإيران يلهون فيها بعدما ذاقوا منها الويل خلال ثمان سنوات من الحرب الجارية في سوريا، إن أسئلة حول ما أسلفنا وما سنطرحه الآن، تجعلنا أمام أجوبة مرعبة أو مقنعة.
من هنا، يبرر الذين يدعون إلى القبول بالبند الأهم من "سوتشي" والمتمثل بالمنطقة منزوعة السلاح، بأنه لا يعني بالضرورة القبول بالاستراتيجية الروسية، بل يجنب 4 ملايين سوري في المنطقة المحررة المذبحة، ويشكل سببا قويا للمطالبة بما احتله الروس من سوريا ولو بعد حين، فيما يذهب الرافضون لسوتشي إلى أن ما تقوم به روسيا خدعة تريد من خلالها تمرير الاتفاق لاستدراج فصائل المعارضة إلى القبول به، والتوقيع عليه، ثم تقوم بنقض ما لا يتفق مع مصالحها، لأنها منذ احتلالها سوريا قبل ثلاثة أعوام، لا تتعامل مع المعارضين للأسد وفق مبادىء قانونية سواء دولية أو هي من استصدرتها باعتبارها دولة لا تطالها مبادىء قانونية، ولا تلزمها قرارات دولية، وكل ما تبديه من تراجعات ظاهرية قبل بلوغ هدف من أهدافها المرحلية لا يتعدى أن يكون تراجعا في التكتيك ضمن إطار الاستراتيجية العامة التي رسمتها لنفسها في سوريا.
استراتيجية تنفيذ المنطقة منزوعة السلاح
إن المداولات والنقاشات التي دارت بين الدول الضامنة لمناطق خفض التصعيد، أفضت إلى اتفاق سوتشي بين تركيا وروسيا، في السابع عشر من شهر سبتمبر أيلول الجاري، الذي كان من أبرز بنوده:
منطقة منزوعة السلاح
نصّ اتفاق "سوتشي" على بناء منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 - 20 كيلومتراً، وإقرار الخطوط المحددة للمنطقة منزوعة السلاح عبر مزيد من المشاورات، والتخلص من جميع الجماعات الإرهابية الراديكالية داخل هذه المنطقة، بحلول 15 أكتوبر (تشرين الأول)، وسحب جميع الدبابات وقاذفات الصواريخ المتعددة والمدفعية ومدافع الهاون الخاصة بالأطراف المتقاتلة، بحلول 10 أكتوبر 2018، وستقوم القوات المسلحة التركية والشرطة العسكرية الخاصة بالقوات المسلحة التابعة للاتحاد الروسي، بدوريات منسقة وجهود مراقبة باستخدام طائرات من دون طيار، على امتداد حدود المنطقة منزوعة التسليح، إضافة إلى العمل على ضمان حرية حركة السكان المحليين والبضائع، واستعادة الصلات التجارية والاقتصادية.
أسباب الرفض والقبول بالمنطقة منزوعة السلاح
بعد صدور اتفاق "سوتشي"؛ رفضته بعض الفصائل ورحبّت به أخرى بشروط، وقبلته فصائل على إطلاقه دون قيد وشرط ما دام ضامنه الحليف التركي، وإن رفض أو قبول الفصائل لسوتشي محق في معسكر الرافضين، لأنه يميل لاستراتيجية الروس كل الميل، وقبوله في معسكر المرحبين له مبرراته، وأما قبول نظام الأسد وترحيبه بسوتشي فهو نوع من المناورة الخبيثة التي اعتاد نظام الأسد عليها في كل زمان ومكان، ويتضح تباين الرؤى حول المنطقة المنزوعة السلاح بين أطراف الصراع وفق أسباب الرفض والقبول الآتية:
ــ إخراج السلاح الثقيل من المنطقة منزوعة السلاح
ترمي روسيا من خلال تطبيق بند المنطقة منزوعة السلاح للسيطرة والتحكم بالمناطق الشطرية بين المعارضة ونظام الأسد وتأمينها من التهديدات المختلفة من خلال نزع أو إبعاد خطر السلاح الثقيل للفصائل بكافة أنواعه عن المدن والبلدات التي يسيطر عليها النظام، والواقعة في المدى المجدي للطائرات المسيّرة التي تستهدف قاعدة حميميم إن صدقت رواية الروس، ولراجمات الصواريخ ومدافع الميدان نوع 130 ملم، والتي تصل قذائفها إلى حدود 30 كم، وهذا يعني أن البلدات المحاذية لخط الجبهة ابتداء من ريف اللاذقية وانتهاء بريف حلب الشمالي، ستكون ضمن مناطق نزع السلاح والمحددة ضمن الـ20 كم، ومما يؤكد نيّة نظام الأسد وضع عراقيل تحول دون تطبيق الاتفاق، هو ما صرح به نائب وزير خارجية نظام الأسد، فيصل المقداد في قوله: "كما انتصرنا في كل بقعة من بقاع سورية، سننتصر في إدلب، والرسالة واضحة جداً لكل من يعنيه الأمر، بمعنى "نحن قادمون إلى إدلب حرباً أو سلماً".
فيما قلّل حسام سلامة القيادي في "الجبهة الوطنية للتحرير" من أهمية هذا البند المتعلق بالمنطقة منزوعة السلاح، حيث قال: إنها "تمتد على نحو 7 كم من الأراضي المحررة على طول خط الجبهة إلى خلف تلك المنطقة، ونحن متواجدون فيها ولن نخرج منها، والمطلوب وفق الاتفاق التركي – الروسي، إخراج السلاح الثقيل فقط من المنطقة، بينما نحن لا نضع سلاحنا الثقيل في مناطق التماس مع النظام بالأصل، وسيكون السلاح الثقيل في الداخل فقط".
وهذا ما أكّدت عليه غالبية فصائل المعارضة المسلّحة التي ستقبل بتنفيذ اتفاق "سوتشي"، مشيرةً إلى أنّ سحب السلاح الثقيل من المنطقة منزوعة السلاح "لن يكون مشكلة" بالنسبة لها، "كونه يتموضع بعيداً عن جبهات القتال"، ولا تحتفظ بالسلاح الثقيل بالقرب من الجبهات، والذي يبعد عشرات الكيلومترات عن خطوط الجبهة ويتم جلبه لساحة القتال قبل ساعات فقط من بدء أية معركة، لذلك لا يوجد لدى الفصائل ما تسحبه من خط الجبهة، بحسب ما صرّح به بعض قادة الفصائل.
ومع ذلك؛ يشير هذا البند إلى تعرية الفصائل من قدراتها العسكرية الدفاعية والهجومية الرادعة لأي عدوان، فيما سيؤمن قواعد قوات الأسد والميليشيات الإيرانية المتربصة بالمنطقة منزوعة السلاح، بانتظار الوقت المناسب للانقضاض عليها وابتلاعها.
ــ الاختلاف حول حدود المنطقة منزوعة السلاح
إنّ الغموض الذي يكتنف المنطقة منزوعة السلاح زادت محاذيره مع التصريح التركي الذي يضع كل متابع أمام منطقة ظلام معلوماتي، بعدما أعلنت وزارة الدفاع التركية عن عقد اجتماعات مع وفد روسي، جرى فيها تحديد حدود منطقة منزوعة السلاح بمحافظة إدلب، وجاء ذلك في بيان صادر عن الوزارة، توضيحاً لبنود اتفاق "سوتشي"، وأشار البيان إلى عقد اجتماعات مع وفد روسي بين 19 سبتمبر/ أيلول الحالي و21 منه، حول أسس اتفاق "سوتشي"، وأكد أنه "جرى تحديد حدود المنطقة التي سيتم تطهيرها من الأسلحة في إدلب، خلال الاجتماع مع الوفد الروسي، مع مراعاة خصائص البنية الجغرافية والمناطق السكنية".
وهذا الإعلان يعتبر امتدادا لتفسير البند الرابع المتعلق بالمنطقة منزوعة السلاح، والذي يجعل المتابعين يثيرون عدة أسئلة متصلة حول مساحة هذه المنطقة، من أين تبدأ الــ" 20" كيلو من خط المواجهة لكل طرف، أم تنحصر في المنطقة المحررة؟ إذا كانت الثانية فمعنى ذلك إخراج ثلثي المناطق المحررة من دائرة الصراع، أي كل ما يلي الطرق الرئيسية المشار إليها بالاتفاق والرابطة بين حلب – اللاذقية، وحلب – حماة.
فيما أكدت مصادر معارضة أن هناك تراجعاً للخلف حسب المسافة المحددة من جانب فصائل المعارضة المسلحة، ونظام الأسد على حدّ سواء.
ــ إبعاد الفصائل "الجهادية" من المنطقة منزوعة السلاح
يقتضي ما سبق إبعاد التنظيمات "الجهادية" من المنطقة منزوعة السلاح، بسلاحها الثقيل والخفيف معاً بشكل كامل ونهائي.
وكان فصيل "حراس الدين" قد شبّه في بيانه قبل أيام، اتفاق "سوتشي" باتفاق "دايتون" الذي أنهى الحرب في يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن الماضي، معلنا رفضه تسليم سلاحه، ورفضت فصائل مسلحة عدة الاتفاق كــ "أنصار التوحيد، وأنصار الدين، وأنصار الله، وتجمع الفرقان، وجند القوقاز" التي رفضت الانسحاب من خطوط التماس مع قوات نظام الأسد، الممتدة من جسر الشغور إلى ريف إدلب الشرقي مروراً بريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي الشرقي.
أما "هيئة تحرير الشام" أبرز فصيل عسكري في شمال غربي سورية، فلم تُصدر موقفاً رسمياً إزاء الاتفاق، ولكنها تملك من المرونة السياسية ما يجعلها تتعاطى إيجابيا مع التطورات السياسية، في محاولة تجنبها صداما داميا مع الأتراك الذين يعملون على استبعاد المواجهة العسكرية المكلفة ضد هذه الفصائل من خلال إيجاد مخرج يجنبها العمل العسكري، كتغيير الاسم أو إعادة التشكل ضمن تكتلات جديدة.
وبالتالي فإن "هيئة تحرير الشام" تستطيع وحدها تشكيل تهديد حقيقي على اتفاق إدلب، ولكنها ليست ساذجة للدخول في مواجهة عسكرية مع تركيا، وفي هذا السياق أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أول أمس الثلاثاء، أنّ "المجموعات الراديكالية بدأت بالخروج" من المنطقة منزوعة السلاح في إدلب، مما يشير إلى توصل أنقرة لتفاهم مع الفصائل "الراديكالية" التي كانت ترفض الخروج من المنطقة منزوعة السلاح.
ــ إبقاء جيش الأسد وميليشيات إيران على حدود المنطقة منزوعة السلاح
إن بقاء ميليشيات الأسد وإيران في الجانب المقابل للمنطقة المحررة، يعني إحكامها السيطرة على مناطق واسعة بطول 250كم بشكل نصف قوس، تمتد من ريف اللاذقية حتى ريف حلب الغربي بما في ذلك ريفي حماة الشمالي وحلب الجنوبي، وفي هذا السياق، نشرت وكالة "الأناضول" (انفوغراف) بيانياً يوضح انتشار من سمتهم بـ "الإرهابيين" المدعومين من إيران في محيط إدلب، مشيرة إلى أن "إيران تواصل دعمها للنظام السوري بأكثر من 120 ألف مقاتل إرهابي أجنبي، ينتمون لـ 22 مجموعة قتالية، في حين تم رصد 232 نقطة تنتشر فيها المجموعات بمحيط إدلب.
المسؤولية التركية في المنطقة منزوعة السلاح
إن أبسط أخلاقيات الحرب والسياسة تلزم تركيا بإخطار فصائل المعارضة قبل دعوتها للانسحاب من المنطقة منزوعة السلاح لتوضيح حدود هذه المنطقة، ومن سيديرها ومن سيحميها، وألا تقبل الفصائل بتطبيق بنود الاتفاق دون وفاء الأتراك بتعهداتهم، ولكن على ما يبدو أن تركيا تحرص على ألا تفقد نفوذها في سوريا، وبالأخص محافظة إدلب المشاطرة لحدودها، والتي في حال وقوع عدوان روسي عليها ستواجه موجات نزوح جديدة تثقل كاهلها اقتصادياً واجتماعياً، لذلك تعمل على تثبيت المنطقة العازلة بالتحرك دبلوماسيا لتأمين دعم أممي يرسي السلام في منطقة إدلب ومحيطها، تزامنا مع سعيها لإيجاد حل سياسي لتسوية وضع "هيئة تحرير الشام" ضمن إطار تشكيل "جبهة تحرير سوريا"، أو أي صيغة توافقية تمنع العدوان الروسي وأحلافه من تبرير عدوانهم بذريعة "محاربة الإرهاب".
من هنا تعمل تركيا على تطبيق بنود "سوتشي" من خلال استعدادها للدفاع عن مكتسباتها في سوريا، وتكثيف حضورها العسكري على خطوط المنطقة العازلة في نقاط المراقبة المواجهة لنقاط القوات الروسية، وتلك التابعة لميليشيات إيران والأسد، يحدوها في ذلك حرص روسيا على مصالحها المشتركة مع تركيا، علاوة على الموقف الدولي الرافض للحرب الشاملة على إدلب.
استراتيجية الصراع في المنطقة منزوعة السلاح
ستعمل روسيا وأحلافها في قادم الأيام على بث الفوضى في المناطق المحررة، وبالأخص في المنطقة العازلة، مستغلة غياب الاستراتيجيات والخطط التي تضطلع بإدارة هذه المناطق، وهي استراتيجيات يجري إعدادها وتوفير أدواتها قبل الشروع بأي عمل عسكري ينتج واقعا جديدا في تلك المناطق، وذلك على نحو ما أُتبع في درعا، وقبل ذلك في الغوطة الشرقية، وينصب تركيز هذه الاستراتيجيات على المجالات كافة، وبالأخص المجال الإعلامي، وتمتلك روسيا أساليب متنوعة تمكنها من القيام بالأفعال التخريبية التي يغلب عليها المباغتة والتنوع وشدة التأثير.
فبعد اتفاق "سوتشي" تمركزت قوات نظام الأسد وميليشيات إيران في المناطق المفترض أنها ستكون منزوعة السلاح، وأخذت في قصف المناطق المتاخمة، فيما اضطلعت خلايا أخرى تحت مسميات مختلفة بإثارة الفوضى في إدلب ومحيطها.
ولعلّ أشد ما يركز عليه الروس لبث الفوضى في المناطق المحررة؛ الشروخ العميقة في الصف المعارض وتعدد الفصائل المسلحة فيه، واختلاف توجهاتها الأيديولوجية، ورؤيتها المتباينة حول ماهية المنطقة منزوعة السلاح.
ورغم تعارض توجهات وأهداف فصائل المعارضة فيما بينها، إلا أنها تثابر لإفشال أي مسعى روسي يجعل من إدلب نسخة أخرى من درعا وغوطة دمشق، في الهيمنة على المنطقة واستنساخ قوى داخلية مناوئة لها، لتبدو هذه الفصائل كما لو أنها تقاتل في جبهتين؛ جبهة مواجهة الاستراتيجية الروسية، وجبهة مواجهة بعضها بعضا إلى إن تتمكن تركيا من إعادة هيكلتها ضمن إطار عسكري موحد.