الغارديان (ترجمة بلدي نيوز)
بعد خمس سنوات من الصراع في سوريا، ما زالت الأرقام تتحدث عن نفسها، فيقدر بأن أكثر من 400.000 شخص قد لقوا مصرعهم و11 مليون آخرين قد نزحوا من منازلهم ، وليس هناك من نهاية في الأفق لهذه الحرب .
ولكن إذا لم يكن هناك خلاف حول ضحايا هذه الحرب المعقدة، إلا أن الجدل يتزايد حول أفضل السبل لمساعدتهم، وحتماً يتحول التركيز إلى بعثة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، والتي يسمح لها فقط بالعمل في سورية بمباركة من الرئيس بشار الأسد.
فحكومة دمشق تقوم بتقييد عمل الأمم المتحدة ومع من ستعمل ، فهي تحتفظ بقائمة المنظمات الدولية والسورية "الموافق عليها"، ولا يمكن أن تعمل الأمم المتحدة مع منظمات ليست مدرجة بهذه القائمة .
وهنا تكمن معضلة للأمم المتحدة، والتي تقوم باستثمار مبالغ طائلة من المال في برامج تهدف إلى إنقاذ الأرواح، فبعد الاطلاع على آلاف الصفحات من الوثائق، والتحدث إلى عاملين في الأمم المتحدة وعمال الإغاثة، كشفت الغارديان العشرات من الصفقات التي من شأنها أن تثير تساؤلات جديدة حول دور الأمم المتحدة في سوريا، وحياديتها ! .
ففي دراسة ستنشر قريباً من قبل الأكاديمي الدكتور " رينود يندرز والذي شارك بعض النتائج التي توصل إليها مع صحيفة الجارديان البريطانية مما زاد من المخاوف المتعلقة بهذا الشأن ، كشفت الأرقام بان 900 مليون دولار أو ما يعادل " 688" مليون يورو من خطة الاستجابة للأمم المتحدة لعام 2015 أنفقت على مساعدات ضخت عبر دمشق، وتم التحكم بها إلى حد ما من قبل السلطات السورية.
الوثائق التي اطلعت عليها صحيفة الغارديان أيضاً وضحت استمرار الأمم المتحدة في السماح للحكومة السورية بإملاء ما إذا كانت المعونات يمكن تسليمها إلى مناطق معينة من البلاد ، بل إنها قيدت إلى أبعد من ذلك وحددت ما الذي سيتم توزيعه وعلى يد من !
وعلى الرغم من الدعاية التي واكبت قوافل الأمم المتحدة التي وصلت إلى العديد من الأماكن المحاصرة في الأشهر الأخيرة، إلا أنه من المعروف أن الحكومة السورية قد أزالت مواداً أساسية من المساعدات كحاضنات الأطفال ، كما ورفضت السماح لقوافل لاحقة من دخول بعض المناطق.
ومؤخراً تقطعت سبل الوصول إلى ما يقدر ب 300.000 مواطن في شرق حلب بسبب الحكومة والقوات المتحالفة معها، كم وأن الاتفاق على هدنة لمدة 48 ساعة للسماح للأمم المتحدة لإيصال المساعدات الإنسانية تمت إعاقته بسبب الجمود المتعلق بأي الطرق في المدينة سوف يستعمل لإيصال المساعدات .
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحكومة السورية تقر بشكل روتيني تشريعات تهدف إلى تثبيط عمل الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الأخرى - مثل فرض حظر على استيراد أي بضائع من تركيا، والإصرار على أن الأدوية يجب شراؤها من داخل سوريا، والسماح لعدد محدود من المنظمات غير الحكومية والشركات المحلية للعمل داخل البلاد والتي يتم تشغيلها من قبل المقربين من الأسد.
فعلى سبيل المثال، تمت صياغة خطة الاستجابة الإنسانية 2016 بين الامم المتحدة في دمشق والحكومة السورية، من دون تدخل من المنظمات غير الحكومية التي تقدم المساعدات عبر الحدود إلى مناطق من البلاد لا يمكن للأمم المتحدة أن تصل إليها ، كما أعطيت الحكومة السورية الإذن لإزالة كل ما يشير إلى الحصار والعنف كسبب للنزوح!
وقال عاملون في الأمم المتحدة لصحيفة الجارديان بأن عملية التفاوض بين الأمم المتحدة والحكومة السورية لخطة عام 2017 قد بدأت ، لكنهم لا يتوقعون تغييرا كبيراً في العملية أو في النتيجة.
وفي استجابة لصحيفة الغارديان، أوضحت ثماني وكالات للأمم المتحدة بالتفصيل لماذا كان عليهم العمل مع الحكومة السورية، وأصروا على أنهم لديهم أنظمة امتثال صارمة ، وأضافوا بأن لديهم فقط توجيه واضح بعدم التعامل فقط مع شخصيات مدرجة في قوائم عقوبات الامم المتحدة ، ومع ذلك، لا توجد مثل هذه العقوبات على سوريا، وخاصة أن بعض المطلعين في الأمم المتحدة قد اعترفوا بانهم لا يرغبون بالعمل ضد الأسد خوفاً من تعرضهم للطرد من البلاد تماماً، فقبل عامين، تركت المنظمة الغير حكومية " ميرسي كوربس " دمشق بعد تهديدات من الحكومة السورية .
عقود الأمم المتحدة مع جهات محظورة دولياً:
وبحسب تحقيق الصحيفة في مئات العقود التي منحتها الأمم المتحدة منذ بدء الصراع عام 2011، أصبحت القرارات المستمرة التي اضطرت الأمم المتحدة لاتخاذها مكشوفة لأول مرة.
وأظهر التحقيق أن الأمم المتحدة دفعت ما يزيد عن 13 مليون دولار للحكومة السورية لتطوير قطاع الزراعة، على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي، حظر التجارة مع الوزارات المعنية خوفاً من الطريقة التي سيتم فيها إنفاق المال.
بينما دفعت الأمم المتحدة على الأقل 4 ملايين لمزود الوقود المملوك للدولة، الذي يخضع أيضاً لقائمة عقوبات الاتحاد الأوروبي.
ووفقا لما جاء في تقرير صحيفة الغارديان، فقد أنفقت منظمة الصحة العالمية أكثر من 5 ملايين دولار لدعم بنك الدم الوطني السوري، إلا أنه واقع ضمن سيطرة وزارة الدفاع التابعة للأسد.
وأشارت الوثائق التي اطلعت عليها الصحيفة إلى أن الأموال المنفقة على إمدادات الدم أتت مباشرة من متبرعين يفرضون عقوبات اقتصادية على الحكومة السورية، من ضمنهم المملكة المتحدة.
وأظهرت الوثائق أن منظمة الصحة العالمية كانت قلقة للغاية، مما إذا كانت إمدادات الدم تصل لأولئك الذين يحتاجونها أم أنها ستوجه إلى الجيش أولاً.
كما أفادت الوثائق التي اطلعت عليها الصحيفة أن “وكالتين تابعتين للأمم المتحدة اشتركتا مع الأمانة السورية للتنمية، وهي مؤسسة أنشأتها وتترأسها زوجة الرئيس أسماء الأسد” موضحة أن الوكالتين انفقتا نحو 8.3 مليون دولار. وتعد أسماء الأسد ضمن نطاق عقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
ولفتت “الغارديان” إلى أن اليونيسيف دفعت أكثر من ربع مليون دولار لجمعية البستان التي يملكها ويديرها رامي مخلوف أغنى رجل في سوريا، وهو قريب وصديق الأسد، وربطت جمعيته بعدة ميليشيات مؤيدة لنظام الأسد.
ويدير مخلوف أيضا شبكة الهواتف المحمولة “سوريا تل” التي دفعت لها الأمم المتحدة على الأقل 700 ألف دولار في الأعوام الأخيرة. يذكر أن الأمم المتحدة وضعت مخلوف على قائمة العقوبات، في حين وُصف من قبل دبلوماسيين أمريكيين بـ ”رمز الفساد”.
وخلصت الصحيفة إلى أن مختلف أقسام الأمم المتحدة، منحت عقوداً لشركات تدار من قبل أفراد مشمولين ضمن العقوبات أو مرتبطين بهم.
وعلى صعيد متصل، أظهرت تحليلات الأمم المتحدة لوثائق مشترياتها الخاصة أن وكالاتها أجرت معاملات مع ما لا يقل عن 258 شركة سورية أخرى، دافعةً مبالغ مرتفعة تصل ما بين 54 – 36 مليون دولار وأخرى منخفضة نسبياً تصل إلى 30 ألف دولار، في حين أن العديد من هذه الشركات تملك روابط مع الأسد أو الأشخاص القريبين منه.
تبريرات الأمم المتحدة:
وفي معرض الدفاع عن قراراتها، قالت الأمم المتحدة إن أعمال الإغاثة التي قامت بها ساهمت حتى الآن بإنقاذ حياة ملايين الأشخاص، في الوقت الذي تجادل فيه بأن عليها التعاون مع النظام من أجل العمل في سوريا.
وبررت الأمم المتحدة ادعاءها بالإشارة إلى حجزها لمندوبيها وموظفيها في فندق فور سيزونز في دمشق الذي يعد أكثر الأماكن أمنا في العاصمة السورية لمكوث أعضاء الأمم المتحدة فيه.
فدفعت وكالات الأمم المتحدة أكثر من تسعة ملايين دولار للفندق في الفترة ما بين عام 2014-2015 الذي تملك وزارة السياحة السورية المحظور التعاون معها ضمن عقوبات الاتحاد الأوروبي ثلثه !
إلى ذلك، أشار أحد المتحدثين باسم الأمم المتحدة إلى أن “العمل في سوريا مع دخول الأزمة السورية عامها السادس، يجعل العاملين في المجال الإنساني مجبرين على اتخاذ قرارات صعبة، عندما تواجَه بضرورة الاختيار بين شراء سلع وخدمات من شركات تابعة للحكومة أو ترك المدنيين دون مساعدات منقذة لحياتهم يصبح الخيار واضحا”، منوها إلى أن “واجبنا هو خدمة المدنيين المحتاجين”.
وفي الوقت الذي تشير فيه الأمم المتحدة إلى أنها غير مجبرة على الانصياع لعقوبات الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، هي مجبرة فقط على الالتزام بعقوبات الأمم المتحدة.
انصياع الأمم المتحدة لشروط حكومة الأسد
وعبر أحد المسؤولين في الأمم المتحدة لصحيفة الغارديان عن عدم ارتياح بعض وكالاتها من قبضة حكومة الأسد على جهود الإغاثة، وقال المسؤول الذي عمل على نطاق واسع داخل سوريا إنه “على الرغم من أن العمل داخل البلاد يشكل تحدياً، إلا أن موقف الأمم المتحدة كان مخيباً للآمال”.
بينما لفت مسؤول آخر إلى أن جميع الصراعات ترفق بظروف عمل صعبة إلا أن الوضع في سوريا لا يحدث في مكان آخر.
وأوضح مسؤول مختلف في الأمم المتحدة ممن عملوا في دمشق في بدايات الصراع لصحيفة الغارديان أن “الفريق الدولي للأمم المتحدة أدرك منذ الأيام الأولى للصراع أن كلا من الحكومة وقائمة المنظمات المحلية المصرح للأمم المتحدة بالتعاون معها، لا تليق بأسس العمل الإنساني من الاستقلالية والحيادية والنزاهة".
وقال المسؤول إن “الأمم المتحدة تجاهلت هذه المعايير لتلبية مطالب قيادة الحكومة بالاستجابة الإنسانية، وهذا ما مهد لتورطها مع الكيانات المرتبطة بشكل وثيق مع الحكومة”.
بينما تشير بعض المصادر إلى “ثقافة صمت” مقلقة فيما يتعلق بالعمل الداخلي لعمل الأمم المتحدة في دمشق.
من جهة أخرى، دعا الدكتور رينود ليندرز المتخصص في دراسات الحرب بجامعة كينغز في لندن ،الأمم المتحدة إلى “إعادة التفكير في استراتيجيتها لأنها أصبحت مقربة جداً لنظام الأسد”.
وقال ليندرز لـ”الغارديان” إن “مسؤولي الأمم المتحدة يعتبرون أنه بالنظر إلى الوقائع المعقدة والخطيرة التي يتوقع من الوكالة تقديم الإغاثة والمساعدات بوجودها، تصبح بعض التنازلات والاستجابة لمطالب الحكومة أمورًا حتمية، إلا أن العملية الإدارية التقليدية المزعومة للأمم المتحدة دفعتها لاقتراب مقلق من النظام”.
وألمح ليندرز إلى أن “وكالات الأمم المتحدة دفعت عقود شراء مربحة لأعوان النظام السوري المعروفين بتمويل الممارسات القمعية والوحشية التي تسببت بحاجة البلاد للعديد من الاحتياجات الإنسانية “
وفي مقابلات أجراها المتخصص البريطاني مع عمال إغاثة مستقلين لغايات دراسة واقع الحال في سوريا، أشار إلى أن العديد من مسؤولي الأمم المتحدة أظهروا علامات واضحة لمتلازمة ستوكهولم، المعروفة بتعاطف الأشخاص وولائهم لمن أساء إليهم.
ووقعت خمس وخمسون منظمة إنسانية ومنظمة مجتمع مدني، تقريراً أشار إلى أن الأمم المتحدة استسلمت للمطالب بعدم تقديم المساعدات في المناطق الواقعة ضمن سيطرة المعارضة، مساهمة بذلك بوفاة آلاف المدنيين.
وختمت صحيفة الغارديان تقريرها بالقول إن “حكومة الأسد تحكمت بالمساعدات من خلال التهديد المباشر للأمم المتحدة بسحب الإذن بعملها داخل سوريا”، مؤكدة أن “الحكومة السورية استخدمت هذا التهديد باستمرار للتحكم بـ أين وكيف ومن تستطيع الأمم المتحدة تسليم الإغاثة الإنسانية لهم”.