بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
في أوج مراحل الحرب السورية في سبتمبر/أيلول عام 2015، شن سرب من الطيران الروسي هجوما بالصواريخ والقنابل ضد المناطق الآهلة بالسكان في ريفي حلب الجنوبي وحمص الشمالي، وتناقلت وسائل الإعلام العالمية حينها ما عرف بـ"التدخل العسكري الروسي" المباشر في الصراع السوري واستند هذا التدخل، على استراتيجية جيوسياسية مدروسة لدعم نظام الأسد من خلال قوات عسكرية مباشرة، بعد تقييم فشل الميليشيات الإيرانية في وقف تقدم فصائل الثورة في الشمال الغربي من البلاد وبالأخص منطقة سهل الغاب وجبال الساحل السوري، حيث أوشك نظام الأسد أواخر عام 2015 على الانهيار إذ كان يترنّح تحت ضربات فصائل الثورة السورية التي شكلت تهديدا حقيقيا لمعقل النظام الرئيسي، وهي منطقة حيوية له ولحلفائه، فضلا عن المنافذ البحرية والجوية التي تعتمد عليها روسيا للوصول إلى سوريا والعمل على توسيعها، وبسط سيطرتها على الوضع بشكل عام. وعلى نطاق أوسع، يبدو أن روسيا ملتزمة بممارسة نفوذها في الشرق الأوسط، حيث توفر لها سوريا فرصة لتحقيق هدفها.
هو إذاً الدور الروسي يأتي في سياق التداخلات والتَدخُلات الدولية في سياق المصالح الاستراتيجية الكبرى لمختلف أطراف الصراع في مسارات القضية السورية وتعقيداتها؛ فالتدخل الروسي في سوريا، هو تَدخُل استراتيجي أولا وأخيرا، حيث تُريد روسيا استعادة دورها في المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في أوائل تسعينات القرن الماضي، وكذلك استرجاع أمجادها.
ومع انضمام روسيا إلى أطراف الصراع المستنزَفة في سوريا، أخذت الحرب شكلا من أشكال المحرقة، من خلال القصف المكثف الذي كانت تقوم به الطائرات الروسية على القرى والبلدات السورية بذريعة "محاربة الإرهاب"، ثم تنوعت أساليب تلك الحرب لتتخذ شكل العمليات العسكرية البرية لقوات الجيش الروسي، وميليشيات فاغنر، وأخرى تدريبية واستشارية مسنودة بطائرات القصف، إلى جانب وجود دبابات القتال الروسية من طراز "تي -90" التي أشرف عليها جهاز المخابرات الحربية الروسية المرتبط بالرئيس بوتين شخصيا.
في تلك الفترة راجت مقولة أن "قاسم سليماني" تمكن من إقناع روسيا التي كانت مترددة في البداية للتدخل العسكري المباشر في سوريا خشية الموقف الأميركي، ولكن الواقع أثبت لاحقا أن إدارة الرئيس الأميركي الأسبق "باراك أوباما" لم تكن عاجزة عن منع التدخل الروسي، كما لا يمكن توصيف موقف "أوباما" بأنه استدراج روسيا إلى حرب شبيهة بالتجربة الأفغانية، لأنه كان بإمكان الإدارة الأميركية إمداد فصائل الثورة بسلاح متطور خصوصاً ضد الطائرات، لذلك بدت واشتطن غير مُستعجلة للوصول إلى تسوية القضية السورية، بل عملت على استدامة الصراع واستنزاف كافة الأطراف الفاعلة. وكذلك بدت الأهداف الاستراتيجية الأميركية متطابقة مع الأهداف الروسية فيما يتعلق بالتخلص من فائض حركات الإسلام الراديكالية، لذلك اشتركت روسيا والولايات المتحدة في المذبحة السورية تحت عنوان الحرب على "الإرهاب".
لسنا هنا بصدد تقييم الأهداف الاستراتيجية لأطراف الصراع الفاعلة، ولا حتى تحليل واستقراء وقائع ما قد يجري في المستقبل القريب والبعيد على هذا الاتجاه، إذ أن المعركة لم تنتهِ بعد، ولكننا نحاول قراءة ملامح التطورات السياسية الناظمة للعلاقة الروسية مع نظام الأسد وإيران خلال الأشهر القليلة الماضية وتداعيات ذلك على صعيد تبعية الأسد لبوتين.
باعتبار أننا اقتربنا من اللحظة التي قد يقال فيها كل شيء، ومن ذلك: التطور الخطير الماثل في المناكفات العائلية بين "آل الأسد ومخلوف"، واقتراب أطراف الصراع الفاعلة "روسيا وإيران" من النزاع ومن ثم بلورة موقف تدعمه واشنطن لتحويل سوريا المفيدة برمتها من الحضن الإيراني الروسي المشترك إلى أن تكون روسية بالمطلق. ويمكننا رصد مؤشرات ذلك بالتالي:
الأسد التابع
استقوى الأسد بإيران ومن ثم اعتمد على روسيا للفتك بالشعب السوري، وكان يأمل في إقناع روسيا لمنحه صواريخ s300"، "تكون بمثابة حائط دفاعي، ودرعا واقيا لنظامه وبالأخص ميليشيات حلفائه الإيرانيين التي كانت في الغالب عرضة للطيران الإسرائيلي، الذي يشن هجماته المتتالية دون رادع مجدٍ، أرضي أو جوي. وهنا، يذكرنا الهجوم الأميركي على قاعدة الشعيرات الجوية -إثر استخدام الأسد الأسلحة الكيماوية- بواسطة صواريخ كروز (توماهوك)، بمدى تبعية الأسد لروسيا، وأن الأسلحة الروسية الجديدة لم تكن مفاجئة بحسب -وليد المعلم- للدول المتحالفة التي ستقوم بهجوم ضد النظام، وتبين أن تلك الأسلحة لا يمتلك قرار تشغيلها إلا الروس الحاكمين الفعليين لكل مفاصل الحياة بما فيها القرار العسكري والسياسي والاقتصادي للمناطق الخاضعة لنظام الأسد، إذ بات وجودهم احتلال عسكري مباشر.
حيث تدرك روسيا حالة الجموح الساذج في ادعاء الأسد الزعامة وهو يحاول تقديم نفسه كقائد وطني، بينما هو على النقيض من ذلك تماما، فالمجازر التي ارتكبها تؤكد عدم قدرته على التعايش مع من يختلفون معه طائفة وحزبا ورأيا، وكان قد اعترض جيفري على إعادة تعويم الأسد، وهي إشارة لروسيا باستحالة الاستثمار بشخص الأسد تحت أي مبرر. لذلك تحاول موسكو العمل على إعادة هيكلة جيشه وجهازه الأمني، حيث باتت موسكو تأخذ في الحسبان أن سوريا ما بعد 2011 ليست كما قبله، وأنّها لن تستطيع تنفيذ أجندتها الخاصة من خلال شراء الولاءات والذمم، وباعتبار استراتيجيتها مبنية على أن الجيش والأجهزة الأمنية محور السلطة القوية، فقد عمدت إلى محاولة إصلاح البنية العسكرية للنظام الذي يقدر تعداده بداية العام 2018 بحوالي (25) ألف، فيما تفيد التقديرات بأن عدد الميليشيات المحلية المدعومة من إيران تجاوزت (200) ألف، يرأسهم عشرات من أمراء الحرب، شكلوا سلطة داخل سلطة الأسد ولذلك فقد عمد الروس إلى محاولة إدماج تلك الميليشيات بقوات الأسد لإحكام السيطرة على البلاد، وكواجهة لاحتلالهم، تضمن مصالحها على المدى البعيد، وهذه المحاولة تعود لسنوات كثيرة لإضفاء صفة المركزية على سلطة الأسد العسكرية، ليتسنى للكرملين ممارسة نفوذه السياسي من خلالها، لكن من الناحية العملية، فشلت روسيا في هذا الاتجاه لسببين:
ـ الأول، افتقار الميليشيات العسكرية التي تعمل روسيا معها داخل سوريا كـ"الفرقة 25" التي يقودها العقيد سهيل الحسن، أو الميليشيات العشائرية التي يتزعمها "تركي البو حمد، وغازي إبراهيم الدير، وسليمان الشواخ" وغيرهم إلى الانضباط العسكري المؤسساتي.
ـ الثاني، العقبة الكبيرة التي تواجه روسيا هو الوجود العسكري الإيراني الواسع في سوريا، والذي تتحمل موسكو الجزء الأكبر من المسؤولية في بناء تلك الترسانة العسكرية الإيرانية. لذلك لجأت إلى محاولة الإصلاح العسكري لأهداف تشير إلى الحد من قوة طهران الإقليمية، وبذلك تكسب ود المحور الدولي المعادي للهيمنة الإيرانية على المنطقة، فضلا عن عملية ربط مراكز النفوذ المحلي بقاعدة حميميم لتحقيق أهداف الكرملين دون منازع.
وهذا ما دفع الكرملين بعد زيارة جواد ظريف إلى دمشق ولقائه بالأسد إلى رفع الغطاء عن الميليشيات الإيرانية في سوريا، والتعامل مع القصف الإسرائيلي بالتساهل، أو التواطؤ، بما يضمن مصالحها في الهيمنة على السلطة في دمشق.
الاقتراب من انفضاض الشراكة
تمكن نظام الأسد بفضل الدعم الروسي اللامحدود بين عامي "2015- 2020" من استعادة مناطق واسعة على حساب تقليص مساحة المناطق المحررة وتلك الواقعة تحت سيطرة "داعش"، حيث لم يبق للنظام، قبل الدعم الروسي المفتوح، إلا الربع من مساحة سورية البالغة نحو 180 ألف كيلومتر مربع، إذ كان تنظيم "داعش" يسيطر على نصفها، فيما تسيطر المعارضة السورية على الباقي. كان الروس حريصون على نظام الأسد، باعتباره ركيزة نفوذهم في سوريا، ولهذا عملت الآلة العسكرية الروسية على تدمير سوريا لإعادة قوات النظام إلى مناطق واسعة من البلاد. ولا تزال هذه الآلة جاهزة لإخضاع آخر معقل للمعارضة، وهو محافظة إدلب، والتي تخضع الآن لاتفاق موسكو الأخير الآيل للسقوط بأي لحظة، إذ يصر الروس على عودة "مؤسسات النظام"، ولو شكليا، إلى هذه المنطقة. إلا أن روسيا تسعى لأن تكون أهدافها مقدمة على جميع أطراف الصراع المحلية أو على الأقل عديمة التقاطع مع مصالح الأسد في حال اعتراض الأخير على الأهداف الاستراتيجية لموسكو.
الآن وبعدما تحقق للروس ما تحقق من ترسيخ لنفوذهم، تناولت وسائل الإعلام الروسية منذ أبريل/ نيسان الماضي، انتقادات لاذعة موجهة إلى شخص بشار الأسد، جرى نشرها في وسائل الإعلام المقربة من "يفغيني بريغوزين"، رجل الأعمال الروسي المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والمالك لميليشيا "فاغنر" التي تقاتل مجموعات كبيرة منها في سوريا، وقد انتقدت تلك المقالات فساد نظام الأسد، بعد انكشاف خبر اللوحة التي اشتراها بشار لزوجته مقابل ثلاثين مليون دولار. فيما يعجز عن سداد القروض الروسية المستحقة بقيمة 3 مليارات دولار، في إشارة إلى نمط حياة البذخ التي يعيشها الأسد، كدليل على توافر الأموال لدى نظامه. وكانت "وكالة الأنباء الفيدرالية" الروسية في تقريرها الأول الذي حمل توقيع ميخائيل تسيبلاييف، وصف الوضع الاقتصادي في سوريا حاليا بالسلبي للغاية.
وأشار إلى أن "عدم توفر الظروف للشراكة بين روسيا وسوريا إلى ارتفاع مستوى الفساد في المستويات السياسية العليا".
وعزا التقرير ما يحدث في سوريا إلى "مخططات الفساد في الحكومة"، وذهب إلى القول أن "بشار الأسد يسيطر على الوضع بشكل ضعيف على الأرض، والسلطة في سوريا تابعة بالكامل لجهاز بيروقراطي".
وبثت قناة "روسيا اليوم" حلقة من برنامج "قصارى القول" قدمها الإعلامي "سلام مسافر"، واستضاف خلالها فراس طلاس، وهو ابن وزير الدفاع السوري "مصطفى طلاس".
وتحدث "طلاس" خلال المقابلة عن تراكم الثروة في يد عائلة الأسد، ودور خال الأسد محمد مخلوف في إدارة مشاريع وأموال، وتحديدا بعد حرب تشرين 1973، وتدفق الأموال الخليجية على الخزينة السورية تحت شعار دعم الصمود، واتهم طلاس، خلال المقابلة، محمد مخلوف والد رامي، بالاستعانة بخبراء من لبنان وبريطانيا، لتأسيس إمبراطورية مالية استندت إلى مبيعات النفط.
من هنا، استغلت موسكو الخلافات داخل عائلة "مخلوف الأسد" في زيادة نفوذها، وممارسة مزيد من الضغوط من أجل فرض المشروع الروسي بعدما امتلكت أدوات قوية ضاغطة لترسيخ نفوذها على النظام.
وبالنتيجة، لا يمكن للأسد تجاوز الثقل العلني للإيرانيين في كيان نظامه، فالميليشيات الإيرانية منتشرة في كل مفاصله، وعلى كل جبهاته، وعلى مشارف قصره. وليس ببعيد عن قصره وحاضنته يتمترس الروس بقوتهم الجوية، وتحالفهم مع "إسرائيل"، وتفهمهم للمطالب الأميركية بطرد الإيرانيين مما يشير إلى تشظي تحالفهم الذي كان قائما لقتل السوريين، باسم تمكين "الأسد الحائر" بين المطالب الروسية، والمشروع الإيراني، ويبقى السؤال الكبير؛ هل اقترب انقلاب بوتين على الأسد؟