بلدي نيوز - (تركي مصطفى)
قد انتهيت من كتابة هذا الملف، والطائرات الروسية وتلك التابعة لنظام الأسد، ماتزال تحوم فوقي لتقصف بلدة عقيربات والقرى المتناثرة حولها، ومئات المدنيين تمنعهم الميليشيات الإيرانية من الخروج إلى مناطق آمنة، ونتلقى يوميا في المناطق الخاضعة لاتفاق "خفض التصعيد" عشرات الصواريخ والقنابل التي تنهال على البلدات والقرى الآهلة بالمدنيين، وتتناقل وسائل إعلامية مختلفة ما يجري من قتل وتدمير وتهجير على ضفاف وادي الفرات بالطائرات الأميركية وبمدفعية ميليشيات حزب (ب ي د) الكردي الذي يقود ميليشيات "قسد"، وميليشيات شيعية متعددة الجنسيات تدعمها دولة الملالي في طهران، والعالم المتمدن يتفرج على مذبحة شعب، دون رقيب أو حسيب، بعد أن وضع ساسة الغرب جميع معارضي الأسد في خندق الإرهاب.
تمهيد: يناقش هذا الملف كيف تراجع الغرب عن مطلب تنحي بشار الأسد في إطار المتغيرات الميدانية والاتجاهات السياسية التي أفرزت محطة آستانة بعد جنيف وأرادها الروس مقبرة للثورة السورية فتمخضت عن عملية سياسية أطلقتها واشنطن وموسكو في محطة هامبورغ وما انبثق عنها من تلاعب في الصراع السوري وتبدل أماكن اللاعبين، ونمهد لهذا النقاش باستعراض تحليلي موجز لمسار التطورات وأسباب تعطيل الغرب للعدالة وحقوق الإنسان التي صدعت الرؤوس والظروف التي أحاطت بهذه المتغيرات.
كما نتناول جوانب رئيسية من عورات العالم "المتحضر" التي أماطت الثورة السورية اللثام عنها، وانعكاسات ذلك على المجتمع السوري قبل كل شيء، وكذلك على المجتمعات الغربية، ويدرس الملف الاستراتيجية الغربية المتعجلة في التوصل لتسوية سياسية كما تريدها.
-مقدمة:
يجيء هذا الملف في الوقت الذي تكشر الوحوش عن أنيابها من خلال حملة الإبادة الجسدية التي تقض مضاجع المدنيين، فتحت أقدامهم تكتنز الثروات التي أسالت لعاب "الغرب الديمقراطي" الماضي في احتلاله لأرض الغير واستبدال شعب متجذر في أرضه بشعب آخر وثقافة أخرى، وذلك بالفناء الجسدي للسوريين الثائرين ضد الديكتاتورية وفق معايير "سوقية" لا تقيم للأخلاق وزنا.
في سياق هذه المحرقة، باتت سورية مسرحا لتمرين الطيارين التابعين لروسيا وللتحالف الذي تقوده واشنطن، ولنظام الأسد، ومختبرا عمليا للأسلحة الفتاكة من أم القنابل وأخواتها، إلى الصواريخ العابرة للقارات التي دمرت مدنا وأمصارا يعود تاريخ إعمارها إلى الألف الثالث قبل الميلاد.
" الإرهاب مقابل الدمار والخراب، والاحتلال مقابل الحضارة والديمقراطية" هذه المعادلة سوقها الغرب وحولها إلى ذريعة قانونية لتبرير القتل، واتخذ منها سياسة رسمية اتفق عليها ثالوث القتل(روسيا، والولايات المتحدة، والديكتاتورية وملحقاتها). كما أنها حرب فكرية يشنها المتحازبون، من خلال إعادة تركيب إيديولوجيا لتاريخ المنطقة، بما يخدم أهدافهم ومطامعهم، بإعادة تأويل عدد من التصورات المختلطة بين تأجيج الطائفيةوتعزيزها من جهة، والوعد بالحريات العامة من جهة ثانية، وذلك انطلاقا من ترويجهم لنبل مسعاهم الحضاري وإنسانيتهم، عن طريق الطائرات المتعطشة لإبادة ذاك الإنسان الأعزل بالتحالف مع نظام الأسد الإستبدادي، الذي سعى ولما يزل يسعى لفرز جيل من "الشبيحة" السماسرة، يصفقون لقتل أهلهم، ويعترفون بشرعية المحتل وأخلاقيته، ويدافعون عنه، ويقاتلون أهلهم في سبيل تحقيق مصالحه.
فكرة "الاحتلال الداخلي" أو إفراز جيل من الشبيحة سياسة متراكمة، اعتمدتها إيران, لتستغني مستقبلا عن جيشها، مثل حزب الله اللبناني الموطن، الإيراني الهوى والفكر والتوجه والأخلاق والعقل، وتابعتها الولايات المتحدة وروسيا من خلال إيجاد مرتزقة يتبنون فكر الساسة الغربيين المتعطشين للثروة والكنوز السورية على شاكلة شركة الهند البريطانية.
لعل ما يثير الانتباه، هذا التداخل بين كتلة المحتلين وبين نظام الأسد الاستبدادي، كيف يرفعون شعارات "الديمقراطية" ويطالبون برحيله، ويشاركونه وحلفيته إيران في جرائمه، واستباحة الدم السوري، ويحاولون إعادة تدويره، مثلما يزرع الطبيب الجراح الأعضاء الصناعية في الأجسام البشرية التي ترفضها باستمرار؟
لا جدال أن نظام الأسد، الذي استمر بمساعدة غربية (أميركية أولا ثم روسية ثانيا)، قد حقق الأهداف الاستراتيجية للغرب، ومعه إيران، لمنع المنطقة العربية من تحقيق تطلعاتها في الاستقلال الناجز، ولتخويف العرب المجاورين لإيران والبعيدين عنها، بهدف تحقيق المصالح الأمنية والإقتصادية لها ولحلفائها الأميركان والروس.
وكشف الوجه الحقيقي للغرب بعدما تراجعت عن مطالبها بتنحي الأسد ورحيله.
هذا التضاد في مفاهيم الرحيل والتنحي والتلاعب بالألفاظ كذيل الكلب، والحيوان، وعدم أولوية الرحيل يقف خلفه عدة عوامل لا تتصل بالجانب الإنساني من شعارات الديمقراطية والحريات العامة الزاكمة للأنوف، والصادعة للرؤوس، وإنما لأن الثورة في سنواتها الأولى تملك القدرة على القتال بعناد ونفس طويل، وكانت قيادتها المدنية والعسكرية تملك الإرادة والتصميم على المقاومة، ولم يجد الأسد وحلفاؤه في كل سورية الثائرة، خونة أو مرتزقة يتحالفون معهم في حربهم ضد السوريين.
وبعدما تيقن الأميركان ومعهم الغرب وروسيا من ذلك، أعادوا النظر في مخططاتهم العدوانية، وطالبوا بتنحي الأسد بدافع الواقع الميداني في ذاك الوقت، ومع تغير جغرافية الحرب الدائرة بين أطراف الصراع على وقع وتيرة التطورات المتتابعة عسكريا وسياسيا، التي تخللتها تحولات متلاحقة تبدلت فيها مساحات الاحتلال والتحرير بين مد واضح لصالح الأسد وشركائه، وجزر لقوى الثورة في المكان والاتجاه، ولدت أفكار ومخططات جديدة، تمايزت فيها مطامع القوى الدولية والإقليمية. وفي التفاصيل:
- تخبط الغرب بين تنحي الأسد، وتثبيته في السلطة:
قبل ست سنوات، وقف الرئيس الأميركي باراك أوباما في القاعة الرئيسية من البيت الأبيض، وطالب بتنحي الأسد، وكذلك طالبت لندن وباريس وغيرهما من دول الغرب، وكلما ازدادت المطالبة برحيله وتنحيه، ازداد عدوانية وإجراما ضد الشعب السوري الثائر؛ فاستخدام الكيماوي يعتبر خطا أحمر، فاستخدم الكيماوي في الغوطتين الشرقية والغربية، واستمر بذلك حتى بعد توقيعه على الاتفاقية التي لعبت إسرائيل دورا أساسيا في تجنيبه تهديد الولايات المتحدة، وروسيا باستخدام حق الفيتو، وبلغت حينها الإدانات الدولية مداها في الدعوة إلى تنحيه ومحاكمته دوليا، وقبل وبعد وصول ترامب الى السلطة، أشار الى دعوته للتنحي، وحينها استخدم الأسد السلاح الكيماوي في مدينة خان شيخون, واكتفى الرئيس ترامب بقصف مطار الشعيرات الذي أخطرت روسيا نظام الأسد مسبقا بإفراغه، وبات العالم يشاهد فيلما شبيها بتوم وجيري،
سنة ونيف مرت من عمر الثورة، والشعب يحتج وينتفض سلميا بوجه الأسد الذي استدعى إيران وميليشياتها لقتل الشعب السوري, وبعد فشله استجار بالروس الذين دمروا وحرقوا المدن والبلدات والقرى، وأسهموا في تهجير السوريين بهدن أشرفت على تنفيذها الأمم المتحدة.
كل هذه التطورات كانت تعني نتيجة واحدة هي "تثبيت الأسد في منصبه"، ويمكن إجمال كل ذلك بالتالي:
- عدم إيجاد البديل:
حانت عدة فرص للإطاحة بنظام الأسد قبل تغوله وحلفائه بالدم السوري، وقبل ظهور أي تنظيم مدرج على لوائح الإرهاب، لكن الولايات المتحدة مارست ضغوطا مضاعفة لمنع إسقاط الأسد بحجة إشاعة الفوضى، وسيطرة الإسلاميين، وانتشار الإرهاب.
- تعزيز التدخل الإيراني في سورية لمحاربة الإرهاب:
تجلى البعد العسكري الإيراني في سورية بمظاهر استقطاب متعددة لبنادق الميليشيات الطائفية المأجورة التي استقدمتها من لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها مما أدى إلى تعاظم النفوذ الإيراني في سورية وسيطرتها على قرار نظام الأسد من خلال انتشار تلك الميليشيات في غالبية المناطق السورية وقتالها ضد الشعب السوري تحت شعارات مذهبية، وارتكابها مجازر وحشية فاقت المجازر الصهيونية والنازية في قتل الأغيار، فاستولت على منطقة القصير بريف حمص الغربي وعلى غالبية الشريط الحدودي اللبناني السوري وعلى محيط العاصمة دمشق، وشاركت كذلك في معارك حلب وريفها، وحاولت شراء ذمم ميليشيات الشبيحة، لإضعاف جيش الأسد ولتكون يدها العسكرية الباطشة، هي العليا في سورية، وقد تغاضت إدارة باراك أوباما عن التدخّل الإيراني في سورية لتثبيت نظام الأسد وشجعتها على ذلك من خلال المفاوضات النووية التي كانت نتيجتها الإفراج عن أرصدة إيرانية مجمدة، استخدمتها طهران في دعم الأسد.
- واشنطن، والشراكة مع الروس في سورية:
يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التعامل مع القضية السورية بعقلية القيصر بهدف إعادة أمجاد بائدة بايديولوجيا مغايرة، بالتوافق مع الولايات المتحدة التي يصورها بعض القومجيين والممانعين بهزيمة واشنطن أمام الدب الروسي في الشرق الأوسط، في الوقت الذي بات فيه التنسيق الروسي- الاسرائيلي تنسيقا كاملا تضمهما غرفة عمليات مشتركة بالتعاون مع ايران، فالمحرك الإسرائيلي هو الضابط والضامن لمصالح واشنطن وروسيا في المنطقة، واللقاءات الروسية - الاسرائيلية السابقة للتدخل الروسي العسكري في سورية ترجمها وزير الخارجية الاسرائيلي الأسبق جوزيف ليبرمان بقوله: إن التنسيق الروسي الاسرائيلي في سورية يجري على مدار الساعة وسبعة أيام في الأسبوع".
وبما أن الولايات المتحدة شريك أصيل لإسرائيل، فالتدخل الروسي في سورية جاء بموافقة إسرائيلية ومباركة أميركية، واضعة روسيا نفسها "مقاولا" لواشنطن وتل أبيب عندما ضغطت على الأسد لتسليمه السلاح الكيماوي الاستراتيجي، وجاء اتفاق (كيري- لافروف) أشبه باتفاقية سايكس بيكو لتقاسم النفوذ والثروات، وتمزيق سورية بين الأميركان والروس في لعبة واضحة هي تبادل المصالح بين الطرفين عكستها التفاهمات التي أبرمت بين الروس وحكومة الرئيس الأميركي ترامب في اتفاق جنوب غربي سورية، وفي غرف منع التصادم العسكري على شكل شراكة متينة في الملف السوري، واتفاق على تخلي واشنطن عن مطالبتها بتنحي الأسد ولو إعلاميا مهما فعل.
- معارضة مرتهنة لأجندات خارجية:
تعاظم التدخل الإقليمي والدولي في الصراع السوري، بعد اصطفاف ايران الطائفي وميليشياتها إلى جانب نظام الأسد، ولم تخف دول عربية وذلك تركيا مع تباين رؤاهم حول المشهد السوري, مساندتهم للشعب السوري المناهض لبشار الأسد، وحاولت تلك الدول جمع الفصائل المتشرذمة، ونجحت مؤقتا في تشكيل تكتل الجبهة الشامية، وغيرها من التكتلات العسكرية التي لم تلبث أن انفرط عقدها نتيجة الخلاف بين الداعمين وانعكاسات ذلك على الفصائل، كما لعبت غرف الموم والموك التي شكلتها دول أصدقاء سورية دورا بارزا في تعميق الهوة بين الفصائل بتحريضها ضد بعضها، واقتصر دعمها على أسلحة دفاعية متوسطة، ورغم الحاجة للأسلحة المضادة للطيران إلا أن الولايات المتحدة رفضت ذلك بحجة وقوعها بأيدي الجماعات الإسلامية المتطرفة. فالداعم الإقليمي وتحوله إلى لاعب أساسي في المشهد الفصائلي رسخ عملية التجزئة في خطوة امتلاك القرار الوطني المستقل.
هذه الأسباب وغيرها كالغلو والتكفير، وشيوع مشاريع خارج الإطار الوطني للثورة، وغياب المرجعيات القضائية والقيادة المركزية الجامعة، كانت مقدمات لانهيارات وانكسارات عسكرية. وفي الطرف السياسي المعارض تفاقمت الهوة بين التيارات المتباينة، لتنشأ كيانات سياسية كالهيئة العامة للثورة السورية والمجلس الوطني السوري، وإئتلاف قوى الثورة، وصولا إلى المنصات المختلفة والدخيلة على المعارضة، والصراعات الناشبة بين حق التمثيل في المؤتمرات الدولية من دونه، والاستقطابات الإقليمية التي لعبت دورا سلبيا على المستويين السياسي والعسكري.
كل هذه العوامل أسهمت في تثبيت حكم الأسد وصرف النظر عن المطالبة برحيله خلال الفترة الانتقالية التي يتحدث عنها الروس والأميركان كل بحسب تفسيره لجنيف.
- الثورة تكشف عورة العالم "المتحضر":
تزامن خطاب الأسد الأخير مع الذكرى الرابعة لمجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية، وقبل أيام قليلة من هذا الخطاب ارتكب الأسد جريمة كيماوية في ذات المنطقة (جوبر) وسقط شهداء جلهم من الأطفال، وبين المجزرتين وقبلهما استخدم الأسد السلاح الكيماوي كالسارين والخردل والكلور في غالبية المناطق السورية الثائرة، وبدل أن يساق الأسد إلى العدالة الدولية، شرعن له الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما استخدام كافة الأسلحة المحرمة دوليا وغير المحرمة ضد الشعب السوري، وبالأخص المطالبين بالديمقراطية والحريات العامة، ومع انتقال ملف الكيماوي إلى ردهات الأمم المتحدة؛ فإن الروس ومعهم الإسرائيليين سجلا انتصارا كبيرا على القانون الدولي من خلال فكرة إسرائيل بنزع سلاحه الكيماوي، واستخدام موسكو لحق النقض الفيتو في كل ما يتعلق بجرائم الأسد الذي ظهر في خطابه الأخير مزهوا بعفو الغرب عن جرائمه من خلال تناوب تصريحاتهم بالتخلي عن مطالبته بالتنحي رغم توثيق جرائمه التي يندى لها جبين الإنسانية، وكان الروس بالتوافق مع الإدارة الأميركية نسفوا كل القرارات الدولية الصادرة عن مؤتمر جنيف، ونقل الملف برمته إلى آستانة موسكو ليتلاعبوا به وفق مصالحهم التي ترمي الى إعادة تدوير نظام الأسد وإشراك معارضة هزيلة يكون الأسد على رأسها.
وفي هذا السياق كشفت الثورة السورية حجم المأساة الدولية التي انهارت فيها أخلاقيات ووجدان العالم المتحضر الذي يرفع شعارات وهمية، كالإخاء والعدالة والمساواة، وهو الوالغ في دماء السوريين حتى الرقبة، ولعل استقالة اللجنة الخماسية الأممية المكلفة بالتحقيق في جرائم الحرب في سورية وعلى رأسها المسؤولة الأممية كارلا بونتي بعد تصريحاتها عن مسؤولية الأسد عن المجازر الكيماوية وغيرها، توضح المشهد بأبهى صوره عن أبشع حرب في التاريخ المعاصر ارتكبت فيها أشنع الجرائم دون عقاب، أو محاسبة أو رقابة، يتحمل وزرها عالم يدعي التحضر والتمدن.