بلدي نيوز - (تركي مصطفى)
عندما تمكن تنظيم "الدولة" من اجتياح مدينتي الرقة والموصل، وسيطر على غالبية محافظتي صلاح الدين والأنبار، وأجزاء واسعة من المدن والبلدات السورية المحررة، شرع بانتهاج "العنف المفرط" عبر التوسع والتمدد في المنطقة ذات الأغلبية العربية السنية، مستفيدا من حالة استنزاف الجيش السوري الحر، الذي أنهكته حرب مدمرة شنها نظام الأسد وإيران، وكذلك من حالة الفراغ العسكري العراقي الذي اقتصر على ميليشيات شيعية همها النهب والنفوذ والولاء لإيران.
بعد إعلان التنظيم دولة "الخلافة"، تشكل تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة، تحت مدعى محاربة الإرهاب، بمساعدة وحدات عسكرية برية من الحشد الشيعي العراقي وقوات كردية، وميليشيات شيعية إيرانية، فاستهدفت الطائرات الحربية الروسية والأميركية، المدن والبلدات العربية السنية بكافة أنواع الأسلحة المحرمة دوليا وتدميرها على رؤوس أهلها، بتهمة احتضان التنظيم في تلك المناطق.
في هذا الاتجاه، يعطي محللون سياسيون وعسكريون متابعون لنشأة التنظيم وتمدده ثم انكماشه؛ تفسيرات سطحية تقف عند هوامش الصراع الدامي، من دون الولوج إلى عمق القضية وجوهرها، نظرا لتركيزهم على ممارسات التنظيم في مناطق سيطرته، وهذا ما كان يريده التنظيم من خلال آلته الإعلامية، ولأن الغوص العميق والصريح في قضايا حساسة كالطائفية والمذهبية والعرقية تثير مشاكل اجتماعية شائكة، لذلك تغيب الحقائق أو تُغيب، ليبقى تناول الموضوع في حيز تفسير الحالة القائمة أي الإرهاب ومحاربته، والتخلص منه بالحسم العسكري.
ما يجب أن يشار إليه لفهم ما يدور اليوم، من دماء تسيل على ضفاف الفرات، وقبلها ما جرى في الموصل، وتوسع للميليشيات الشيعية الإيرانية، وتلك الكردية، أن خطيئة كبرى ارتكبتها الولايات المتحدة وما تزال في مواجهة التنظيم، عندما استدعت الروح المذهبية الشيعية في هذه المواجهة، وكذلك تحريكها العنصرية الكردية الممثلة بحزب العمال الكردستاني، المختنق بقوميته الانتهازية الضيقة التي لا تمثل الروح الكردية الحقيقية، فأوهن زج هذا النفير المذهبي العصبوي المعبأ دينيا وقوميا في المواجهةً من شعارات "عدالة الحرب" التي أعلنتها الولايات المتحدة، ورددها الطائفيون بعد استهلاك شعارات "المقاومة" التي تبدأ بعبارة "الموت لأميركا، الشيطان الأكبر".
أمام مشهد السعار الطائفي، استطاع التنظيم في مراحل الصراع تسجيل نقاط فوز ثمينة، عندما أعلن أنه يواجه الحشود والمجاميع الشيعية لإثبات دفاعه عن الدين والعرض، وراحت مفخخاته تضرب محيطه المعادي ومخالبه تغتال حتى مناصريه، المعترضين على ايديولوجيته بتهمة الردة أو الصحوات، حتى طغت روح العداء على المنطقة، وعلت نبرة التطرف عند كل الأطراف ذات المشاريع المتصارعة، وبات كل من يقف في طرقات المتحاربين "إرهابي، رافضي، تكفيري، ناصبي، مرتد"، تغذيها وتزيد من لهيبها منابر إعلامية بائسة لتتحول المنطقة برمتها إلى بركان من الأحقاد والضغائن والويلات.
كل هذا الاحتراب الجاري، لم يكن ليحدث لولا توجه مراكز دوائر القرار الدولي بإيعاز من الولايات المتحدة، إلى منع قيام نظم ديمقراطية وطنية مستقلة القرار، تهدد مصالح الدول الغربية في هذه المنطقة الحيوية، التي شهدت انفجارات ثورية بوجه الأنظمة الديكتاتورية، وجاءت الفرصة مواتية لضرب الشيعة بالسنة، وأيضا تحت يافطة الإرهاب والحرب ضد الإرهاب.
ويبدو السؤال الغائب الحاضر، يضغط بقوة باحثا عن إجابة صريحة وجوهرية، لماذا اعتمد الغرب في حربه ضد الإرهاب على مجاميع الحشود الشيعية الموالية لإيران، المتمثل بالقاعدة وتنظيم الدولة، وترك فصائل المقاومة العراقية والفصائل الثورية السورية تنهش بعضها بعضا؟
لعل جزئيات البحث تجيب على هذا التساؤل الذي هو لب القضية وأساس الصراع في المنطقة.
أخيرا، هل يعني انكماش تنظيم الدولة وتقلصه بعد الاستطالة والتمدد بداية النهاية لتفككه وانهياره والتخلص منه بالحسم العسكري، وإن حدث ذلك فما مصير الآلاف من مقاتليه الذين يحملون عقيدة مؤدلجة، وخبرة عسكرية كبيرة واجهوا فيها آلة الدمار على مدار سنوات طويلة من القتال في أفغانستان والعراق وسورية؟ وفي التفاصيل:
- تنظيم الدولة (النشأة وظروف التأسيس)
مراحل متدرجة مر بها "تنظيم الدولة" بدءا من إعلان "أبو مصعب الزرقاوي" تأسيس "جماعة التوحيد والجهاد في بلاد الرافدين" ثم بيعته أسامة بن لادن، ليتحول الاسم إلى "تنظيم القاعدة والجهاد في بلاد الرافدين"، ثم "الدولة الإسلامية في العراق"، وأخيرا "دولة الخلافة".
يعتبر تنظيم الدولة أول الحركات الجهادية التي خرجت من عباءة القاعدة، وحققت تجمعاً واسعاً من مختلف التيارات الراديكالية الإسلامية، فيما بقي تنظيم القاعدة محافظا على استراتيجية مناخ الثمانينات إيديولوجيا، مما أدخله في صراع مسلح ضد التنظيم المنشق، بعد براءة أيمن الظواهري من قفزة البغدادي.
عرف تنظيم الدولة ثلاث شخصيات (أبو حمزة المهاجر، وأبو عمر البغدادي، وأبو بكر البغدادي). قتل اثنان منهم إثر غارة أميركية على مخبئهما في محافظة صلاح الدين بالقرب من تكريت عام 2010م، ليتولى أبو بكر البغدادي قيادة "الدولة".
شهدت فترة "المهاجر" الذي أسس "دولة العراق الإسلامية" بأمرة أبو عمر البغدادي استراتيجيتين متلازمتين، الأولى: محاربة القوات الأميركية في العراق بصفتها دولة احتلال، ومعها الشيعة كحاضنة لهذا الاحتلال، ومحاربين ضد السنة، والثانية: توحيد الفصائل السنية بكل تياراتها بالقوة المسلحة.
جراء ذلك النهج الذي اعتمده المهاجر تشكلت "الصحوات العشائرية السنية"، بدعم من الولايات المتحدة، وهي التي حاربتها طويلا، وتمكنت من دحر التنظيم والتضييق عليه، حتى اقتصر وجوده على صحراء الأنبار وبعض المناطق النائية الأخرى.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، باتت الظروف مناسبة لأبي بكر البغدادي لتنفيذ مشروعه الخاص في منطقة باتت على شفير الانفجار الكبير، فاستقطب عشرات الجهاديين في تنظيمه منتهجا سياسة صلبة.
ظروف التأسيس
يملك الشعب العربي في سورية والعراق عواطف متباينة، إزاء ما يواجهه في سورية من حرب إبادة شنها نظام الأسد، ضد الاحتجاجات الشعبية بكل ما يملك من ترسانة عسكرية كانت معدة لمواجهة إسرائيل، وفي العراق أبدى الشعب هناك مقاومة شرسة ضد المحتل الأميركي الذي أطلق يد الميليشيات الشيعية ضد المكون السني لتعيث دمارا وخرابا في المنطقة السنية، تزامن ذلك مع اعلان "بول بريمر" المندوب الأميركي في العراق حل الجيش العراقي، ليفتح الأبواب أمام صراع محموم يغذيه تاريخ مليء بالأحقاد والضغائن الدفينة.
في سورية والعراق، اجتمع التاريخ بكل تفاصيله في جغرافية الصراع الدائر بين شعب يتوق للحرية، واستبداد يتمسك بالسلطة، وبدل التوافق على نظام حكم ديمقراطي عادل يخضع لسلطة القانون، انفرطت سورية كالعراق، وتهاوت وحدتها السياسية الهشة بطريقة دموية مأساوية على شكل اختناق طائفي مقيت لتلتهب النار الخامدة تحت الرماد التي أضرمتها مدفعية وطائرات الأسد، وحلفائه في بغداد بعد أن أيقظ الجميع التاريخ الثأري الذي ولد الانفجار الكبير، لتتطاير شظاياه في كل الاتجاهات.
في هذه الظروف ترعرع تنظيم الدولة، وراح يتمدد شمالا ويمينا وشرقا وغربا.
- أسباب تمدد تنظيم الدولة:
إذا أردنا البحث بعمق عن حقائق تمدد تنظيم الدولة في كل من سورية العراق وبقع جغرافية أخرى متباعدة، لابد من الذهاب أولا إلى الحسينيات الشيعية المتناثرة على طول الخط العمراني الشيعي في العراق، وفي دمشق، ولبنان لنستمع الى أناشيد وأهازيج الردح واللطم والنواح والتوعد بذبح النواصب أي السنة، هذه الأهازيج المختنقة بالتاريخ تحمل في طبقات أصوات المنشدين سلوك الطائفيين الحاقدين الذي تتناقله القنوات الشيعية التحريضية، ليلتقط صداها ويردده نوري المالكي رئيس حكومة العراق حينذاك (حليف الأميركان وعميل إيران). المختنق بطائفيته التي استدعاها لتعبئة شيعة العراق لتحقيق مآرب سياسية تخصه وحده، ففي إحدى خطاباته أعلن بأن ما يحدث من مواجهة بين "الحشد الشيعي" وتنظيم الدولة "داعش" هو أن الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد والحسين لم ينته، لا يزال موجودا، مواجهة بين أنصار يزيد وأنصار الحسين، الجريمة التي ارتكبت بحق الحسين لم تنته، لقد أعدوا العدة لاستهداف زائري مقام الحسين، وتخرب أجواء الزيارة.
وفي دمشق تحول جيش النظام إلى جيش يدين بالولاء للطائفة العلوية، ويقوده ضباط علويون ارتكبوا مجازر طائفية متعددة من مجزرة البيضا في بانياس إلى مجازر دمشق وحمص وريف حلب، وغيرها من المدن والقرى السنية، التي نالها العقاب جراء مطالبة الشعب بالحرية وتداول السلطة.
هذا الخطاب الطائفي المقترن بالجرائم، يحمل في تضاعيفه الإقصاء السياسي والتمييز الطائفي على أساس الهوية الدينية، وتحكم إيران بالقرار السياسي، والتعامل مع العراق كضيعة إيرانية، وكذلك احتلال سورية بعد وصول عشرات الآلاف من الميليشيات الشيعية الموالية إيديولوجيا لنظام الملالي في طهران.
وهذا الاستبداد والإقصاء، والممارسات الطائفية أوجد الأرض الخصبة المشبعة بالأفكار الصلبة المتشددة ليستوعب تنظيم الدولة آلاف الشباب في صفوفه لمواجهة الحرب الطائفية التي أعلنها حكام دمشق وبغداد برعاية إيرانية، وهذا أحد أهم أسباب تمدد تنظيم الدولة.
- استطالة التنظيم وتمدده جغرافيا، وعوامل انكماشه:
في تلك الظروف المتواصلة من الصراع، ابتلع التنظيم أربع محافظات (الرقة، دير الزور) في سورية، و(الموصل، الرمادي) في العراق، وبسط سيطرته على ثلث مساحة سورية، وعلى غالبية إقليم الأنبار العراقي، واستولى على شريط حدودي مع تركيا، وآخر مع الأردن وفلسطين المحتلة، وبايعته العديد من التنظيمات الجهادية في قارتي إفريقيا وآسيا، وتحول إلى تنظيم عسكري عالي الكفاءة، ولكن السؤال الباحث عن إجابة، لماذا انحسر التنظيم وتقلصت به الجغرافية بعد خسارته في العراق وسورية، ولم يتمكن من الحفاظ على حدوده؟
يمكن إجمال الإجابة بعدة عوامل هي:
ـ العامل السياسي، بناء دولة غير معترف بها:
واجه التنظيم مشكلة كبيرة بعد إعلان دولته في العام 2014م مصحوبا بخطاب معادي لكل الدول في العالم، أدخله في صراع مفتوح مع دول الجوار، ومع مجموعة الدول الفاعلة دوليا، التي تمكنت من تشكيل تحالف عسكري دولي لمحاربته، اعتمادا على دول إقليمية تحركها مصالح متشابكة، الميليشيات الإيرانية سيطرت على ريفي حلب الشرقي والرقة الجنوبي ولا تزال المعارك جارية في البادية السورية، فيما قام "الحشد الشيعي" بالاستيلاء على مدينة الموصل بعد تدميرها من التحالف، وحصره في مناطق ضيقة في تلعفر وغربي الأنبار. ولم يتبق من حدود "دولة الخلافة" سوى ولاية دير الزور، والمنطقة الممتدة من ريف حماة الشرقي، وأطراف محافظة حمص الشمالية الشرقية عبر شريط لا يتجاوز عرضه مسافة 50 كم.
2- التخبط والتوحش في إدارة المناطق:
تمكن التنظيم بعد سيطرته على مساحات جغرافية شاسعة في العراق وسورية، فرض إرادته وسلطته وقوانينه في مجتمع رزح طيلة نصف قرن تحت نير الفقر وغلاء الأسعار وتدني مستوى المعيشة، وإلغاء مشاركته في الحياة السياسية، وما يتصل بذلك من ملاحقات أمنية، وسار التنظيم على ذات المشهد الدرامتيكي وذلك بالتخلص من القادة العسكريين وناشطي الثورة المدنيين، وأما فصائل الجيش الحر والمجاميع القبلية التي تصدت له فقد تعرضت لمذابح جماعية، وانهارت أمام مقاتلي التنظيم، بينما سلمت بعضها دون قتال، واختصر التنظيم احتكار السلاح بجنوده الذين يصولون ويجولون ممارسين أعمالا سيادية بالقوة المفرطة.
الآن، وبعد أن تخلص التنظيم من خصومه المحليين، وتحوله إلى سلطة "دولة" بدأت تواجهه مشكلات اجتماعية كبيرة بعد اطلاق جملة من القوانين، من يخالفها يلاقي عقوبة بحسب نوع المخالفة، لذلك دوما تجد الأهالي يتعرضون في الأسواق العامة لعقوبة الجلد التي تبدأ من التدخين إلى حمل السلاح إلى نقد سلوكية العناصر، وفي الآونة الأخيرة بعد انكماشه وتقلصه فرض التجنيد الإجباري، وبات يعتمد أسلوب القوة لترهيب الناس وإخضاعهم لسلطانه، وكانت أكبر المشاكل التي واجهته، مشكلة الأقليات الدينية والطائفية، وبذلك فإن أسلوب التنظيم في ممارسة السلطة، وحجم المظالم التي ارتكبها ونفور الحاضنة الشعبية منه جراء هذه الممارسة، حولت المناطق الخاضعة لسيطرته أشد كراهية له مما أفقده لعنصر تمدده الأهم بخسارة الحاضنة الأهلية.
- عوامل أخرى
افتقد التنظيم لموارده المالية المتنوعة بعد خسارته مراكز الطاقة التي لم يتبق منها إلا تجارته مع نظام الأسد عبر البادية السورية، كما فقد كل المعابر الحدودية مع تركيا والأردن والعراق، وانخفضت نسبة هجرة الشباب الى "دولة الخلافة" نتيجة الإجراءات القانونية المتشددة التي اتخذتها دول أوربية عديدة لمنع هجرة شبابها إلى التنظيم، ومن ثم الوقوع في أحضانه، مما أفقده أبرز العناصر البشرية التي كان يعتمد عليها، ومع خسارة خطوط إمداده التي كان يسيطر عليها، انعكس ذلك سلبا على تحركاته الميدانية، ولم يتوقف الأمر عند قطع الإمدادات أو الدعم المالي عن التنظيم فقط، ولكن العمليات العسكرية الجوية والبرية أفقدته العشرات من قادته، وبات ذلك من أبرز الأسباب الرئيسية لانكماشه وتراجعه ميدانيا.
- مصير التنظيم:
من المبكر الحديث عن انهيار تنظيم الدولة وهزيمته عسكريا، رغم مؤشرات اندحاره عاجلا أو آجلا، فطالما بقيت الأسباب التي أنجبت التنظيم قائمة، كأحد محركات الصراع في المنطقة، والمتمثلة في إطلاق يد الميليشيات الشيعية الإيرانية بشعاراتها الطائفية، وتلك الكردية بأحلامها القومية، واستمرار بقاء الأنظمة الديكتاتورية في سدة الحكم مع كل جرائمها الشنيعة، وتغليب الغرب مصالحه الخاصة على مصلحة الشعوب الأخرى بدوافع تاريخية ثأرية نفعية، بات الفصل في الصراع القائم تتحكم به القوة، لا اجراءات العدالة في وقت تراجعت فيه سلطة ما يسمى بالشرعية الدولية.
من هنا، ستبقى المنطقة أشبه ببراميل من البارود ستنفجر تباعا، مع ولادة تنظيم آخر سيكون تنظيم الدولة قياسا له أكثر رحمة وأقل تطرفا.