بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
تشهد المنطقة العربية تطورات متلاحقة تجسدها قفزات فجائية في السياسة الأميركية اتجاه القضايا العاصفة في الشرق الملتهب منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض, وما أحدثته زيارته إلى المملكة العربية السعودية ولقاؤه بزعماء وقادة العرب والمسلمين من تغير قواعد ووسائل المواجهات الناتجة عن تعاظم الانزلاقات الخطيرة في الساحة الإقليمية والدولية, مما فرض على الجميع إعادة ترتيب المنطقة استعدادا لترجمة واقعية لتوجهات السياسة الأميركية الجديدة وحلفائها التقليديين بعد انسحاب إدارة الرئيس باراك أوباما من المنطقة تاركة لروسيا وإيران إشغال الفراغ الأميركي.
مقدمة
تستعرض هذه الورقة وصفا موجزا للتحولات السياسية الجديدة وتداعياتها على الثورة السورية, والحرب التي تعصف بالبلاد, والوضع الميداني كإفراز لقرارات الآستانة مع رصد الموقف الأميركي من إيران وميليشياتها وحليفها الأسد, وآفاق القادم بين كل ما يشهده المسرح السوري من تفاعلات, وما يستلزم من الثورة السورية ترميم تصدعاتها وجسر فجواتها مع اقتراب الاستحقاقات الدولية.
تحولات السياسة الأميركية وانعكاسها على الثورة السورية
يمكن اتخاذ إعلان الرياض منطلقا لاستعراض التطورات السياسية في إطار تحولات ترامب المهمة بخلاف حملته الانتخابية, واختيار فريق عمله المناهض للدين الإسلامي والمسلمين, والتي تجسدت باتخاذ قرارات منع دخول المواطنين من بعض البلدان الإسلامية إلى الولايات المتحدة فأوقفها القضاء الأميركي لانتهاك الدستور.
وقف الرئيس ترامب في العاصمة الرياض أمام حشد من القادة العرب والمسلمين واصفا الإسلام بأنه من أعظم الديانات في العالم, يعد هذا وغيره من التطورات تغيرا في خطاب ترامب ومرده إلى متانة المؤسسات الأميركية بأبعادها الاستراتيجية العميقة, التي كبحت جماح ترامب الواصل إلى البيت الأبيض في ظل ظروف محلية عكستها تطورات دولية, وتلاحقه اتهامات في عرقلة التحقيقات الفيدرالية وعلاقاته المشبوهة مع روسيا وحملات ضاغطة تصفه بعدم أهليته للرئاسة, والأخطر من ذلك استهانته بالأمن القومي وسجالاته مع الإعلام والاستخبارات, فأجبرته مراكز النفوذ الأميركية على تنازلات في خطابه وقراراته مشهرة سيف العزل في وجهه حال تجاوزه ثوابت السياسة الأميركية, ومنحته حرية العمل بعقليته البراغماتية التجارية القادرة على عقد صفقات كبرى في الأسواق السياسية, وفضاءات الاقتصاد, ليأتي لقاء الرياض فرصة ثمينة لإنقاذه ضمن محاور استراتيجية في إطار مفهوم أميركا أولا.
إعلان الرياض وتغيير موازين القوى في المنطقة
في ضوء ذلك يمكن إجمال التحولات الأميركية انعكاسا لتطورات الصراع في سورية بالآتي:
مواجهة التمدد الإيراني في سورية والمنطقة
مثلت حزمة القرارات الصادرة عن مؤتمر الرياض تغيرا ملحوظا في السياسة الأميركية اتجاه طهران بخلاف إدارة أوباما المتخاذلة التي منحت إيران فرصة رسم القوس الفارسي الذي بات يهدد المنطقة العربية بالاختناق عبر العراق وسورية ولبنان واليمن, وسبق إعلان الرياض الصريح الذي نص على مواجهة التمدد الإيراني ظهور قوات أميركية وبريطانية علناً إلى جانب فصائل الثورة السورية خلال تقدمها باتجاه مدينة البوكمال الواقعة على نهر الفرات والمحاذية للحدود مع العراق, تزامن هذا التقدم مع تحرك الميليشيات الشيعية الإيرانية نحو منطقة "التنف" الإستراتيجية بهدف السيطرة على طريق دمشق- بغداد الذي يعبر "التنف" ضمانا لاستمرار شريان تدفق الإمدادات لميليشياتها في سورية ما يجعلها تبدي اندفاعا كبيرا للوصول إلى المعبر الذي يسيطر عليه الجيش الحر, بينما قام التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن بقصف رتل عسكري لهذه القوات المتقدمة، في رسالة واضحة الدلالات، بأن التحالف لن يسمح للمليشيات الإيرانية بالوصول إلى المعبر, وتعاظمت لغة التصعيد ضد إيران قبل وبعد لقاء الرياض وما استولد من حلف جديد اتضحت أهدافه, فالرئيس ترامب المعادي للسياسة الإيرانية, وصف نفسه بالمختلف عن سلفه أوباما اللطيف مع إيران التي تلعب بالنار, وهو الذي أحاط نفسه بفريق من الجنرالات العسكريين الذين يحملون ذات الموقف المعادي لطهران, ويجمعون على أن إيران أكبر دولة في العالم ترعى الإرهاب, وتساند الأسد القاتل وارتكبت بالتعاون معه جرائم كبيرة ضد الشعب السوري. وبذلك لم يتبقَ سوى تفعيل آلية مواجهة المشروع الإيراني في المنطقة.
توسيع مفهوم الإرهاب بإدراج الميليشيات الشيعية على لوائحه
تزامنا مع اقتراب هزيمة تنظيم "الدولة", والبدء بتقاسم تركاته, تمخض إعلان الرياض عن ولادة حلف أميركي إقليمي ضد الإرهاب بما فيها إدراج الأذرع الإيرانية الإرهابية في المنطقة العربية وعلى رأسها ميليشيا "حزب الله" اللبناني. في موازاة ذلك، كشفت التصريحات التي جاءت على لسان ترامب أن التوجه الأميركي أصبح علنياً، باستهداف "حزب الله"، إذ اتفق علنا مع المملكة العربية السعودية على توصيف ميليشيا "حزب الله" بالاسم على أنه منظمة إرهابية لدى استعراض المجموعات الإرهابية المستهدفة من الحلف الجديد.
أمام لغة التصعيد هذه, أعلنت إيران توجيه حملة عسكرية قوامها قوة كبيرة من ميليشيا "حزب الله" اللبناني وبعض الميليشيات الشيعية الأخرى للسيطرة على منطقة البادية السورية وصولا إلى معبر "التنف" الاستراتيجي, ولم ترتدع إيران من حرق رتل حملتها الأولى الذي كلفها عشرات القتلى من "حزب الله", فعادت إلى خيار التصعيد والمواجهة بوساطة وكلائها ومرتزقتها وعلى رأسهم "حزب الله" اللبناني و"حركة النجباء" العراقية و"لواء فاطميون" الأفغاني بينما "الحرس الثوري" الإيراني يصدر أوامره لمرتزقته وقود عدوانها في المنطقة العربية, وهذا ما جعل لقاء الرياض يدرج ميليشيا "حزب الله" على لوائح الإرهاب بانتظار ما ستكشفه الأيام القليلة القادمة من مواجهة عسكرية حاسمة أو اتفاق سياسي يجبر إيران على سحب مرتزقتها من المشهد السوري.
الصدمة الروسية
تحولت سورية إلى ورقة من جملة أوراق في إطار الصراع الدولي, ومع التغيرات الاستراتيجية الأميركية, تحركت روسيا وفق سياسة مغايرة لاستمرار هيمنتها على سورية, فقدمت مشروع "تخفيف التصعيد" لامتصاص الحماس الأميركي بهدف تأجيل عملية الضغط على نظام الأسد الذي بات عبئا على المجتمع الدولي نتيجة تحويله سورية إلى مسلخ بشري, وكذلك احتواء الاندفاع الأميركي باتجاه إخراج الميليشيات الإيرانية من سورية والعراق.
تأتي السياسة الروسية في إطار ظروف آنية استراتيجية في آن واحد بغية تمرير الوقت لتتضح آليات السياسة الأميركية, ولفرض نفسها شريكا دوليا في اقتسام مناطق النزاع في العالم, وتدرك روسيا أن حليفتها إيران وميليشياتها باتت مرفوضة إقليميا ودوليا على الأرض السورية وباقي المنطقة العربية, حتى مذكرة "تخفيف التصعيد" التي وقعت عليها إيران لا تمنحها شرعية احتلالها سورية لأن التفاهمات الدولية في جنيف وآستانة تتضمن حلا سياسيا يوجب على إيران وميليشياتها الخروج من سورية, من هنا بدأت موسكو تناور لأخذ حصتها في سورية المفيدة مقابل التعاون في قضية إخراج إيران ووضع نهاية للحرب السورية التي بنتيجتها سيفرض حل سياسي يطيح بالأسد.
غير أن موسكو التي فرضت نفسها وصيا على نظام الأسد وأوغلت في جرائمها ضد الشعب السوري بالتعاون مع الميليشيات الإيرانية تقف اليوم عاجزة عن استثمار طغيانها العسكري إلى مكاسب استراتيجية لاصطدامها بتحولات السياسة الأميركية ومناهضة حلف الناتو لها, ليكون إعلان الرياض تحديا كبيرا للسياسة الروسية المترهلة على المستوى الداخلي, فالفساد الذي يستفحل بمؤسسات الدولة، وتقوقع النظام السياسي وانكماشه له ارتدادات سلبية على نهج بوتين وفريقه في القضايا الدولية العالقة مما سيضطر بوتين إلى اتخاذ خطوات هوجاء في الملف السوري كالتصعيد العسكري في مناطق شملها قرار تخفيف التوتر في محيط دمشق ودرعا التي قصفتها الطائرات الروسية ظهر الخميس 25 من الشهر الجاري, وكذلك تغطيتها الجوية للميليشيات الشيعية في معارك البادية السورية بغية زيادة رصيدها في التسوية السورية الآتية.
بيدا أن إعلان الرياض وضع روسيا في مأزق سياسي كبير, وقلب موازين المعادلات إثر تأسيس محور خليجي, تركي, أميركي، سينهي حالة التفرد الروسي في العبث بالملف السوري إثر محاولة نقله من جنيف إلى الآستانة, وكذلك وضع حد لإيران الحليف الأبرز للروس, وبات توجه موسكو الجديد يتمحور حول الحفاظ على قاعدة "حميميم" العسكرية, وميناء طرطوس على البحر المتوسط.
الثورة السورية في إطار التحولات الجديدة
تضاءل دور القوى الثورية الوطنية السورية نتيجة عوامل داخلية وأخرى خارجية, وزاد على ذلك تشظي الفصائل المسلحة، وبات دور المعارضة السياسية محدداً بما هو مرسوم لها إقليميا ودوليا، وفي ضوء إعلان الرياض تعول قوى المعارضة بشقيها السياسي والعسكري على إحداث تحول كبير في المشهد السوري في إطار إعادة الموازين الإقليمية المختلة في عهد باراك أوباما, مترقبة الترجمة الواقعية من خلال زيادة الدعم العسكري وتأمين الحلف الجديد غطاء جويا دائما للعمليات الحربية في المعارك الناشبة بالبادية السورية سواء ضد تنظيم "الدولة" أو ضد الميليشيات الشيعية، مقدمة نفسها شريكا في محاربة التطرف والإرهاب. بيد أن هذه التطورات تفرض على فصائل الثورة تغيير أدواتها واستحداث أخرى تتناسب والتطورات القائمة المتمثلة بالبحث عن خطوة استكمال إعادة هيكلة حقيقية للفصائل المسلحة في جسم عسكري واحد والتوافق على المبادئ الوطنية الجامعة, مقترنا بفريق سياسي يستثمر التحولات الجارية في المشهد الإقليمي والدولي.
خاتمة
يبدو المشهد السياسي والعسكري القادم الذي أفرزه التحول في الإستراتيجية الأميركية وما تمخض عن مؤتمر الرياض واضحا وهو السير إلى بناء تحالف جديد على غرار حلف الرئيس ترومان عام 1948 الذي واجه به الشيوعية.
خيار مشاركة فصائل الثورة ضمن هذا الحلف يدعو للتفاؤل في ظل المتغيرات المتلاحقة بشرط التطبيق الفعلي لما انبثق عن الرياض من مواجهة فعلية للمشروع الإيراني وبتر أذرعه الطائفية كونها مصدر الإرهاب والاضطرابات التي تعصف بالمنطقة, والأيام القليلة القادمة ستجيب عن هذه التحولات.