بلدي نيوز – (خاص)
ينظر (باقر) إلى ساعته الثمينة بضجر، عقاربها المصنوعة من الذهب تكاد لا تتحرك، يمسك هاتفه ويبدأ بلعب "التركس"، بعد دقيقة يعود وينظر إلى ساعته الثمينة، لكن عقاربها تبدو كأنها لا تتحرك، يعود للعب التركس بينما ينشد إحدى لطمياته المفضلة.
(باقر) القادم من مجاهل أفغانستان، فخور جداً بساعته وجواله، فقد حصل على ساعته الذهبية خلال تعفيشه لأحد المنازل في مدينة تدمر، أما الجوال فقد حصل عليه بعد إن أعدم وجماعته عدداً من الشبان ذبحاً، في أحد أحياء حلب التي اقتحمها مجموعته برفقة جيش النظام.
يعاود (باقر) النظر إلى ساعته ويتأفف، فهو يشعر بالضجر الشديد، لأنه يريد العودة إلى المقر ليستخدم الانترنت، للحديث مع زوجته التي استطاعت –بعد جهد- تعلم كيفية استخدام الواتس أب، فقد أرسل لها (باقر) مؤخراً جوالاً جديدا، كان قد قايضه بثلاجة كبيرة، عفشها من منزل في داريا، لكنه تذكر أن قريته في أفغانستان ليس فيها كهرباء، فقرر استبدالها بجوال مع أحد عناصر الحرس الجمهوري، الذين كانوا عفشوا محالا للموبايلات في حلب.
يسمع فجأة هدير طائرة، ينظر إلى السماء ويشاهد طائرة تابعة للنظام (سوخوي 22)، تلقي ست قنابل على القرية التي تبعد عنه قرابة أربعة كيلومترات، وليشاهد وميضها، ثم يسمع بعدها صوت انفجارات من بعيد، يمسك دفتره ويكتب:" اليوم في الساعة الثانية ظهرا، إلا ثلاثة دقائق، قصفت الجماعات الإرهابية المرتبطة بالقاعدة، قرية يراقبها لواء (فاطميون) المكلف بمهام حفظ السلام في ريف حلب، بستة قنابل كبيرة".
يجلس (باقر) داخل غرفة بأحد المنازل، التي أخُرج المدنيون منه لأنه سيستخدم "كمقر مراقبة لاتفاق وقف إطلاق النار"، وهو لا يكاد يرفع عينيه عن ساعته، فهو يشعر بالضجر الشديد، ويشعر بالتعاسة والاكتئاب، لأنه يعرف أنه لن يحصل آخر هذا الشهر على ما كان معتاداً الحصول عليه من الأموال كحصة من التعفيش، وأن كل ما سيحصل عليه هو راتبه وبعض الديون القديمة على عناصر النظام، الذين كان يعفش معهم سابقاً.
بعد دقائق يأتي من بعيد رتل من السيارات المصفحة الروسية، يدرك (باقر) أن فيه عددا من الضباط الروس المسؤولين عن "حفظ السلام" في المنطقة، يتوقف الرتل بجوار البناء الذي يراقب منه (باقر) "الهدنة"، ويصعد عدد من الضباط الروس، وبرفقتهم ضابط ايراني وعنصر من لواء (زينبيون) الباكستاني "لحفظ السلام".
يسأل الضابط الروسي (باقر) عبر المترجم، إن كان سجل أي خرق للهدنة في قطاع مراقبته، يجيب (باقر) بأن القوات الحكومية ملتزمة بالهدنة، لكن الإرهابيين ما يزالون يطلقون الصواريخ مجهولة المصدر على هذه القرية، التي تحاصرها القوات الحكومية.
ينسخ الضابط الروسي سجل المراقبة، ويذهب إلى مركز لقوات النظام على بعد 200 متر من (باقر)، ويحدثهم ويؤكد عليهم أن وجود الأسلحة الثقيلة غير مسموح خلال وقف إطلاق النار، لذلك يجب أن يطلبوا المزيد من خيم الأمم المتحدة لتغطية دباباتهم، ثم يتناول قدحا من العرق البلدي المصنوع منزلياً مع ضباط الكتيبة، ويركب عربته المصفحة ويعود من حيث جاء.
يعود (باقر) وينظر إلى ساعته، ثم يعض على شفته حسرة، ثم يشتم والده الذي لم يعلمه الروسية (فوالده عمل كحمال في إحدى القواعد الروسية إبان الغزو السوفيتي لأفغانستان، وهناك تعلم الروسية)، لأنه لو تعلمها لكان الآن مترجماً مرموقاً لدى القوات الروسية، أو على الأقل العربية، فلربما سمح له ذلك بفتح طريق لتجارة المخدرات مع ضباط النظام، فهو يعرف الكثير من مزارعي الخشخاش في قريته، فضباط النظام يعجبهم الصنف الأفغاني، وكان سيكسب الكثير من المال بهذه الطريقة.
يقاطع أفكاره صوت إطلاق قذيفة هاون من كتيبة النظام بقربه، يبدأ بالعد قذيفة، قذيفتان، ثلاثة قذائف... عشرة قذائف، ثم يبدأ الإطلاق بالتسارع، يشعر (باقر) بالحنق، فهو لم يعد يستطيع عد القذائف، يطل برأسه من شباك الغرفة، ثم يصرخ كي ينتبه له عناصر النظام، لكن أيا منهم لم يلاحظه.
يمسك بندقيته ويطلق رشقة من الرصاص في الهواء، عندها ينتبه له عناصر النظام، يومئ بيده أن يخفضوا سرعة القصف، ليتسنى له عد القذائف، عندها يرفع أحد ضباط النظام إبهامه إعلانا بفهمه لما يريده "عنصر حفظ السلام"، ثم يشير (باقر) إلى الضابط ليعلمه بعدد القذائف التي أطلقت، فيأمر الضابط عنصرين برفع أيديهما والاصابع مفتوحة.
عندها يكتب (باقر) في سجل الخروقات، "اليوم وعند الساعة الثانية والنصف تماماً، أطلقت المجموعات الإرهابية التابعة للقاعدة، عشرين قذيفة هاون مجهولة المصدر، على القرية التي تحاصرها قوات الحكومة"، ثم يتابع شرب المتة، التي علمه شربها عناصر المخابرات الجوية أثناء عمله معهم على حاجز في ريف حمص.
يبتسم (باقر) ابتسامة بريئة مليئة بالسلام، بعد أن ينظر لساعته للمرة الألف، فقد أصبحت الساعة الثالثة تقريباً، وهو موعد وصول سيارة الطعام من مطبخ الحرس الجمهوري، حيث سيأكل اليوم وجبة "بروستد مع البطاطا والكولا" وسيحصل على موزة كبيرة تماما كما يحبها، وبعد أن ينهي طعامه ستكون نوبته قد انتهت، وبإمكانه الذهاب لمقره والراحة من عناء "حفظ السلام" في سوريا، وربما عندها سيجلس مع بعض الأصحاب، يلطمون ويسكرون، بينما يتابع أحد عناصر لواء "فاطميون" لحفظ السلام، أمور حصولهم على الجنسية السورية، وتوثيق البيوت التي حصلوا عليها من النظام، في قلب مدينة دمشق وضواحيها.
يبتسم (باقر) وهو يحادث بالفيديو زوجته وابنه الثاني، الذي سماه "بشار" عبر الواتس أب، ويخبرها أن أشهراً فقط تفصلها عن دورها في المجيء إلى سوريا، للاستقرار بجوار مقام "السيدة زينب".
ثم ينام (باقر)، ويشاهد في حلمه بناية كبيرة، وضابطا للنظام يعطيه مفاتيح البيوت جميعها، ويقول له، هذه هديتك اختر ما تشاء، وبينما يتفقد المنازل يقف على إحدى الشرفات المطلة على الشارع العام، ليشاهد من بعيد شاحنة ضخمة عليها علم أسود تتجه بسرعة نحوه، ثم وبعد ثواني تصطدم بالبناء وتنفجر، عندها يستيقظ (باقر) مرعوباً مصدوماً، وهو يصرخ "هدنة .. هدنة.. إنهم يخرقون الهدنة".