بلدي نيوز – إدلب (ليلى حامد)
حزينةٌ باكية، شاردة الذهن، تسرح عيناها الواسعتان بعيداً عبر نافذة غرفة المعلمات في أثناء حصة فراغهنّ، تكفكف دموعها، استدارت وعيناها تفيضان ألماً، أسرعت إحدى زميلاتها نحوها.. ما بالك يا عائشة؟ وهل أزعجك أحد؟ تجيب والغصة تحجب صوتها، "إنه الحنين والشوق إنه العشق بكل درجاته، إنها اللوعة والحرقة يا صديقتي.. أحنّ إلى لمسات زوجي، وتسارع خطواته، أحن إلى نظراته، هو المعتقل منذ خمس سنوات، نبضات قلبي تناجيه وأنفاسي تستنشق عبير عطره".
ثم تصرخ حتى يسمعها أغلب من في المدرسة: أين زوجي المعتقل وكم سيطول غيابه؟
عائشة معلمة مدرسة مرحلة ابتدائية من محافظة إدلب شمالي سوريا، أحبت أحمد وتزوجا، وأنجبت منه ثلاثة صبيان وابنة وحيدة، أولادها الشباب الأول منهم دخل كلية طب الأسنان، والثاني يدرس هندسة المعلوماتية والثالث في الصف العاشر متفوق في دروسه أيضاً، أما الابنة الصغيرة سارة فلم تكحل عيناها برؤية والدها لأنها لم تر النور إلا بعد اعتقال والدها بثلاثة أشهر.
تقول عائشة لبلدي نيوز، "أعمل في المدرسة، وبعد عودتي إلى البيت بقليل أستقبل طلابا لإعطائهم دروساً خاصة، ولا أتمكن من إعداد الغداء حتى الثامنة مساء، فلا يساعدني أحد في توفير مستلزمات العيش الكريم، أهلي فقراء وبالكاد يؤمّنون ثمن الخبز، أبي رجل كبير السن ويعيش على راتبه التقاعدي، وأمي مصابة بشلل دماغي ومقعدة ترعاها أختي التي لم تتزوج وآثرت البقاء مع والدتها لخدمتها، أما أهل زوجي فلا أراهم إلا في المناسبات ولا يقدمون لنا أيّ مساعدة تذكر".
وأضافت، "تعبت كثيراً أعمل لأكفي أولادي شر السؤال، وما النتيجة؟...ابني الكبير رسب في دراسته الجامعية وبدأ يدخن السجائر، حتى المصروف الذي أقدمه له على حساب صحتي وعافيتي يحرقه في التدخين...والثاني يسهر مع أصدقائه لوقت متأخر ولا يذهب إلى الجامعة".
وتابعت، "أنا بحاجة لزوجي لأرمي حملي عليه، بحاجة لرجل صارم معي في البيت؛ يرشد الأبناء ويعيد لهم صوابهم، ولطالما دخلت على ابني الكبير وهو في سريره لأتفاجأ بعينيه الباكيتين ثم لا يلبث يخبئ دموعه عني، هو بحاجة لصديقه وأبيه وسنده".
تصرخ عائشة بصوت عال لتروي سبب اعتقال زوجها قائلة، "يُعتقل زوجي دون ذنب، يُعتقل من مدرسته، لم يحترموا منزلته العلمية، اعتقل أمام ناظري، وعلى مرأى الطلاب والمعلمين، لا أنسى تلك اللحظات عندما أمسكت به وتوسلت لمانعي الحرية ومستبدي العصر لكن دون جدوى.. كُبل ووُضع في مؤخرة السيارة وسط صراخي وصراخ أولادي... كان آخر كلامه لي (ديري بالك على الأولاد يا عائشة)".
وصفت أخلاق زوجها قبل اعتقاله، "زوجي حارب الاستبداد بالكلمة وبالقلم، حاربهم عندما نجح في إدارة مدرسته، وعندما منح طلابه حرية التعبير عن آرائهم السياسية، وسمح بالمظاهرات السلمية، كان شجاعا في رأيه لا يخاف في الحق لومة لائم؛ الأمر الذي لم يرق لقوات أمن الأسد، فقام بإحاطة المدرسة واعتقاله بشكل مفاجئ".
تعود عائشة إلى هدوئها المعتاد لتعبّر عن تضامنها مع آلاف المعتقلين في سجون النظام، "غُيّب في السجون العفنة، لينال كغيره من شباب سوريا القهر والتعذيب، شلت يمينك أيها السجان، وستلعنك حرية الأنفاس واعلم أيها المستبد أن زوجي حر ما بقي الزمان، وأنت سجين وعبد لأسيادك، عبد الدرهم والدينار، مغيب العقل وخاوي الضمير، فاهنأ بظلمك أيها الطاغوت، وسيهنأ المعتقلون بكرامتهم حاضراً ومستقبلاً".
قصة عائشة العاشقة لزوجها المعتقل تجسد آلاف القصص التي ذُكر منها القليل وغاب منها الكثير عن زوجات المعتقلين في زنازين النظام، الذين ألقوا على كاهل هؤلاء الزوجات أعباء الأولاد والحزن على فراق الزوج، عائشة التي تصف حالها بالمأساوي تواسي نفسها بأنها معلمة تتقاضى ما يسد الرمق ويمسك الحياة، تُشفق على نظيراتها اللواتي لا يجدن ذلك.
وتختم عائشة حديثها لبلدي نيوز، "يتحدثون عن تغيير الدستور، وطغاة الأرض يطالبون بإعمار سوريا من جديد متناسين المعتقلين لأنهم باختصار يبنون الحجر وينسون البشر، أين المعتقلون؟ ولماذا يلفّ الغموض مصير أكثرهم؟ وهل سيستمر العالم الأصم في صمته حيال غياب شبابنا بأيدي الطغاة... تقول عائشة والألم يعصر قلبها إن لنا إلهاً عادلاً، وقضية محقة، وأحباباً مغيبين".