بلدي نيوز – (عيسى إبراهيم)
الخطاب الأخير للأسد الابن أمام موظفي وزارة الخارجية والمغتربين في 20 آب 2017 , هو تعبير أكثر وضوحاً عن مآل الأوضاع في سوريا، حيث الكارثة الإنسانية الأكثر فداحة في العصر الحديث على الأقل، التي خسر فيها كل سوري أمراً ما، شخصاً ما، ملكية ما، إن بقي هو كسوري على قيد الحياة! إلا الأسد الابن فقد خرج بدون أي خسارة، في أي مستوى ، بل استثمر في الخراب الحالي كما في الخراب السابق الممتد لعقود، كما استثمر والده الأسد الأب، في الجهل وإرث التّخلّف واللغة الشعاراتية غير الممسوكة لعقود.
وكما استثمرا سوية في مفهومي التحرير والمقاومة والاشتراكية، وغيرها من الشعارات الكبيرة غير القابلة للقياس والتّحقق من نسب الإنجاز بالنسبة للمواطن السوري، هذا المواطن الذي خسر وجوده لمصلحة غيب سياسي لا يُدرك. الوجود عينه الذي درّ على الأسد الأب والابن ثروة وسلطة وسيطرة ممتدة شاملة عامة.
يُبرز هذا الخطاب بشكل مُلفت فهم الأسد الابن لسوريا ولما جرى ويجري فيها من خراب وموت, ففي ظل تلك الأنا المُفرضة المُتدحرجة بذاته، يُصبح هو سوريا، وسوريا هو، فهو مالكها، فتميل سوريا ومصلحتها، وفق أناه الشخصية ومصلحته الفئوية، فالدولة والمجتمع والوطن السوري، مفاهيم غير حاضرة في خريطته الذهنية، بل هي مفردات، يُدير بها الجموع الذي يستقطب بعضه بهكذا كلام.
كل الموت والخراب الذي لحق بكل سوري وسوريّة، هو أمر له تفسيره الإيجابي بالنسبة له، من مفهوم سوريا تُنظف نفسها الى أخر قوله بتجانس السوريين بعد كل هذا الموت والخراب في كل محل ومن كل صوب، إلا المطالبة بتداول السلطة والبدء بحياة سياسية طبيعية وإعادة الثروات المسروقة؛ فهذه أمور الحديث عنها أمر لا يجوز ولا وجه إيجابي فيه، وغير مطروح، بل لا يجوز طرحه!
بالنسبة له فكل هؤلاء الشباب السوريين الذين قُتلوا في طرفي الأمر "كثير من هؤلاء الشباب بعمر ابنه وأبناء أقرباءه وأبناء المافيا المُتمتعين بثروات السوريين" لا يعنون له شيئاً، وهم إن عنوا له، فهم فداء سوريا التي يملكها ويستثمرها، ولا سوريا غيرها بذهنه، بل أنه يُقَيّم دول العالم دولة دولة ورؤساء تلك الدول وينتقد سياسياتها الاقتصادية والعامة، وهو الذي عجز مع أبيه قبلاً عن تأمين الكهرباء على مدار أربع وعشرين ساعة للمواطن طيلة أكثر من نصف قرن من الحكم!
سبع سنوات قُتِل فيها حوالي مليون سوري منهم حوالي مائة وخمس وعشرين ألف علوي ضمناً، إضافة لبقية تفاصيل الكارثة الأخرى، نتج عنها بقاء ما كان من استحواذ كامل للأسد الابن، كما أبيه، على السلطة والثروة وكامل الصلاحية السياسية والأمنية والسيطرة المطلقة في سوريا.
كل ذلك، يبدو أنه كان، حتى يبقى كرسي السلطة والحكم، هذا الكرسي الذي جاء عبر انقلاب عسكري قامت به عدة دبابات وعناصر عسكرية احتلوا مبنى الإذاعة والتلفزيون في دمشق، وبرعاية أمريكية روسية إسرائيلية، انقلاب عسكري قام به حينها وزير دفاع ربح شخصياً، من خسارة "بلده" لهضبة الجولان كاملة لصالح إسرائيل في عهد توزيره وبستة أيام فقط!
تلك الهضبة التي يستحيل تقنياً احتلالها بسبب ارتفاعها الشاهق عن محيطها في طبريا وأراضي فلسطين الشمالية.
وفي المقاربة عينها تكون خسارة سوريا لأبنائها ومقدراتها وثرواتها، الربح الشخصي للأسد الابن في استمرار "احتلال السلطة " في سوريا.
ولعل أرقى أنواع الاحتلال الحديث، هو احتلال السلطة عبر شخص أو عائلة تمتطي الدولة، أو تستثمر حزباً يُوصلها لامتطاء الدولة، في مجتمع كالمجتمع السوري، شأنه شأن مجتمعات المشرق، التي لديها تاريخ طويل من القهر والاستبداد الممزوج بالقداسة الدينية، تاريخ مُحرّكه السلطة الأبوية المُسيطرة، وتداعياتها الثقافية والإدارية في تفكير العقل الجمعي.
وحيث في ظل هذا التفكير، يَسهل وضع "الأب القائد" عبر "احتلال" السلطة بانقلاب عسكري أو بغيره، ليبقى "الأب" في كرسي الحكم، طالما بقي على قيد الحياة، وليرث "الابن" أبيه حال وفاته، في كل ما يملك من كرسي الحكم إلى كامل البلاد.
إن "سورية الأسد " هي النموذج الأكثر تبلوراً لكيفية احتلال دول عبر احتلال السلطة فيها، من قبل فرد أو عائلة، فَيُنتج هذا الاحتلال المُغلّف بالبعد الوطني كل المفاعيل الإيجابية للاحتلال التقليدي، ويتجاوز كل سلبياته، حيث يتم الاستفادة من آلية عمل "الدولة" في استنزاف ثروات البلاد "سوريا"، وإيداعها في بنوك دول "عدوّة" عداوة مُفترضة بدون قتال وبدون جهد وبأدوات "الدولة" نفسها وبالطرق "الشرعية" المُفترضة فيها، حيث المواطن السوري مُغيَّب تحت وقع الشعارات الطنانة الكبيرة التي تُعمى بصره وبصيرته عما يجري.
فتذهب عائدات الخليوي التي يُقدَّر مردودها الاسبوعي بعشرات الملايين من الدولارات، فما بالك بمردودها السنوي أو العقدي! وكذا مردود النفط الذي منذ عقود موضوع بـ "أيدٍ أمينة" لم تُدخله الخزينة العامة السوريّة يوماً، أو مردود حقول الفوسفات التي تبين لاحقاً أن بعضها يُنتج اليورانيوم، أو مردود الغاز، الذي لسوريا كما تُبيَّن الدراسات مرتبة من المراتب الثلاثة عالمياً.
وكل هذا المال المسروق، مُودع هناك في تلك الدول التي يدّعي هذا "النظام" عدواتها!
في حين تُفرض وتُجيى في "الدولة" الضرائب على، ومن، جميع المواطنين السوريين، ويصرف على الخدمات لهم منها، وهي خدمات بطبيعة الحال دون الحد الأدنى لهم كبشر.
بل هي أدنى من الخدمات التي تُقدّمها عادة دول الاحتلال لمن تحتل أرضهم، وفقاً لمتطلبات وجودها كمحتل مقبول لا بد له من تأدية بعض تبعات الاستقرار في تقديم الخدمات.
كما في ظل الاحتلال الفرنسي تاريخياً لسوريا، أو في ظل الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، حيث يتمتع السوري هنالك بخدمات تفوق بما لا يُقاس، الخدمات المُقدّمة له في ظل هذا النموذج الجديد من الاحتلال: "احتلال السلطة"!
ويستعين هذا "المحتل الجديد للسلطة بجيش من "المُرابعين" الجدد المربوطين بحاجتهم لديه كـ"الإقطاعي الجديد - الأب القائد".
"المُرابعون" الجدد من موظفي الجيش والإدارات العامة وتوابعها الذين لا يتجاوز عددهم حوالي مليونين أو ثلاثة بأحسن تقدير، يتحولون بمآل السياق الذي يُوضعون به، وبمأل مصدر دخلهم المربوط بدوره بيد "الإقطاعي الجديد - الأب القائد" وبمآل فعلهم، بمعزل عن النوايا الطيبة للكثير منهم، يتحولون لـ"جند أوفياء" في المسيرة الأبوية عينها.
وهنا يتجاوز احتلال السلطة كتجلًّي جديد لأنواع الاحتلال القديمة، يتجاوز كل سلبيات المفهوم القديم للاحتلال، عندما لم يعد ممكناً التمييز بينهما في ذهن العامة، بل أصبح الالتباس المُضلل ميزة إضافية فلا يمكن للمواطن المسلوب الرؤية أن يشك بـ"الأب القائد الأمين" المُحتل السلطة لمصلحة الخارج، والقائم بكل إجراءات الاحتلال ولكن دون إعلان.
يبدو أن السوريين الآن أمام التجربة الثالثة في تاريخهم الحديث تجاه تجديد "بيعة" احتلال السلطة حيث الأولى في انقلاب 1970 والثانية في أحداث الثمانيات وإحكام القبضة بعدها، وهذه الثالثة في 2017 والتي قد تُتوج بالبيعة في وقت قريب، وهي بيعة كان دائماً مبرر مآل بقاءها هو: "الإسلام السياسي ، الذي يرعاه الغرب كما يرعى هذه الأنظمة المحتلة السلطة في الوقت عينه"، واضعاً إيانا كسوريين وكبشر أما خيارين يجعلنا، بمآل فعله وعدم فعله، نتوزع على طرفي معادلته المُفترضة: إمّا استبداد وديكتاتورية أو تطرف وإرهاب!
ولا نميل على طرف معادلتنا الخلاصية من الاستبداد والديكتاتورية والتطرف والإرهاب، وذلك لسببين هما:
قوة هذا الغرب الحضارية أولاً، والأهم مساعدتنا له بإرثنا الفكري-الديني الغني بدعم المُستبدين والاستبداد والديكتاتورية، المغلَّف بقداسة الدين الذي "أُخرج " منه الله الى غير رجعة، لمصلحة المستبدين ورؤاهم الفكرية المقدسة.
مرة أخرى لم يكن ليكون هذا الخطاب الأخير للأسد الابن بهذه القوة منه وإعلان "النصر" لولا ضوء أخضر، كما شأن الضوء الأخضر له سابقا ً بإجراء انتخابات رئاسية في بعض مناطق سوريّة دون بعضها الأخر في 2014.
ضوء أخضر أمريكي-إسرائيلي واضح له لا لبس فيه، ضوء أخضر سبقه معونة للأسد الابن، عبر غرفتي "الموك" و"الموم" أبعدت النار عن مقر الأسد الابن واستهدفت النار عينها، المساحة المُفترضة للحراك السياسي السلمي في المدن والبلدات السورية، لأن في هذا الحراك مقتل الأسد الابن ، تاركة داعش والقاعدة ومن لفّ لفّهما يمرحون في سوريا!
دون أن ننسى تنسيق إسرائيل مع داعش في المنطقة الجنوبية، ولا دور الطائرات الإسرائيلية في قصف المدن السورية دون إعلان، وتمرير بعض الأخبار المُضللة، حول قصفها مواقع حزب الله، ولم نر يوماً بيان ذلك، هذا الحزب الذي فُجعنا به كما فجعنا بغيره.
أمّا تلك الدول الإقليمية كإيران وغيرها والدولية كروسيا فهي هامش على متن، متروك لها هامش الفعل من المتن!
نعم خسارة سوريا هي ربح للأسد الابن وجواز مرور للاستمرار في "احتلال" السلطة ، كأرقى مفهوم احتلال للدول عبر "الأب" والدولة الأبوية المُغيبة للقانون، فحيث يحضر الأب يغيب القانون.
دُمّرت سوريا وقتل السوريون، ولم يبقَ بيت سوري لم تدخله مأساة، دون بيت الأسد الابن والمافيا المساعدة له، حيث كانت كارثتنا الإنسانية، فرصتهم الأثمن! وكان الانتصار في "حرب كونية " لمصلحة الأسد الابن خلال ست سنوات!
الأسد الابن الذي لم "يقدر" أن يُعيد الجولان الذي خسرته سوريا وربح والده الأسد، بخسارتنا الجولان، حكم سوريا لم يقدر أن يستعيده خلال سبعة عشر سنة من حكمه، والممتد بعد ثلاثين من حكم أبيه!