بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
مقدمة:
ثمة سياق يمكن فيه ربط معركة تدمر بما جرى ويجري في مدينة حلب حيث ظهر تنظيم "الدولة" فجأة, واستعاد السيطرة على المدينة التاريخية بما لا يزيد عن مئات المقاتلين.
تناقش هذه الورقة كيف استطاع تنظيم "الدولة" ذلك وهو في حالة انكماش وانحسار في كل من سوريا والعراق, أو على الأصح لماذا لم تستطع القاعدة الروسية والميليشيات الشيعية وشبيحة الأسد الدفاع عن المدينة التي تمتلك أعدادا عسكرية وعتادا متطورا وغطاء جويا روسيا؟. ونفصل في أهم الأهداف المتباينة من عملية السيطرة على تدمر بين أطراف الصراع في سوريا.
ونتوقف عند تركيز الماكينة الإعلامية للأسد وحلفائه على أهمية تدمر التاريخية لصرف أنظار العالم عن إبادة سكان حلب, فمنذ أن سيطر تنظيم "الدولة" على تدمر, وعواصم الدول الكبرى تتنافس في إبداء قلقها على مصير آثار تدمر التاريخية التي نهبها الروس والإيرانيون وميليشيات الأسد, هذه المشاعر يعكسها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على شكل قلق, في الوقت الذي تتعرض فيه مدينة حلب لعملية تدمير وتطهير شاملة على يد ميليشيات إيران وشبيحة الأسد على الأرض وسلاح الجو الروسي, فيما تتباكى وزارة الخارجية الروسية معربة عن قلقها البالغ إزاء سيطرة تنظيم "الدولة" على تدمر, معتبرة المساس بالآثار التاريخية عملا إجراميا!
تنظيم "الدولة" في تدمر وتواطؤ الحلفاء في تسليم المدينة
أعاد تنظيم "الدولة" سيطرته على تدمر بعد مرور أقل من سنة على خسارته المدينة إثر قصف جوي روسي عنيف, حيث تمكن الروس من بسط سيطرتهم على المدينة التاريخية, وعبروا عن انتصارهم بإقامة حفلة موسيقية على مسرحها الكبير تزامنا مع بناء قاعدة عسكرية لهم في محيط المدينة الأثرية, وبينما تنهار حدود "الخلافة" وتنكمش على أكثر من جبهة، فاجأ التنظيم العالم في ظهوره الأخير على مسرح تدمر التي يفصلها عن أقرب مدينة تحت سيطرتهم وهي الرقة مئات الكيلو مترات, رغم الرقابة الجوية الروسية الدائمة على حركة التنظيم وتنقلاته في البادية السورية ذات السهول المستوية الواسعة.
تكتيك التنظيم ومفاجأة التواطؤ
150 كيلو متر مربع هي المساحة التي سيطر عليها تنظيم "الدولة" في بضعة أيام, ودحر ميليشيات إيران وشبيحة الأسد والحامية الروسية من المنطقة الواقعة بين تلال وسلسلة جبال شاعر والمرآة والهيال شمال غرب تدمر ومساحات سهلية واسعة وصولا إلى المدينة الأثرية.
العملية التكتيكية التي تطورت بشكل سريع اتسمت بضلوع مخابراتي إيراني في التخلي عن المدينة لصالح التنظيم، في معركة هي الأصعب من الناحية التكتيكية، فالعوائق الطبيعية من تلال تمتد على مستوى البصر، وصحراء مترامية المساحة، تجعل من التقدم لوحدات المشاة مكشوفا أمام مراقبة طيران الاستطلاع الإيراني والروسي عدا عن القوات البرية المشتركة المحصنة التي تملك عتادا متطورا والتي انهارت بسرعة فائقة أمام زحف التنظيم على عدة جبهات فقتل مالا يقل عن 200 عنصر جلهم من عناصر الشبيحة وبعض الميليشيات الإيرانية بينهم ضباط.
الهجوم كان على عدة محاور، فبعد السيطرة الكاملة للتنظيم على السلاسل الجبلية والتلال وحقول النفط في منطقة شاعر وجزل، تابع تقدمه باتجاه المدينة ليسيطر بالكامل على منطقة البساتين والأبراج ثم القلعة ومن ثم تقدم من المحور الجنوبي الغربي مع غياب كامل للطيران الروسي وذاك التابع للأسد لانشغالهما في تدمير مدينة حلب.
وقد واصل التنظيم التقدم والسيطرة على منطقة الفنادق ما سمح له بالسيطرة النارية على المدافن الغربية أو ما يعرف بوادي القبور. وهذه السيطرة جعلت كتل الأبنية الجنوبية الغربية المطلة على منطقة البساتين التي سيطر عليها قبل يوم كلها تحت سيطرة التنظيم، فيما تابعت وحدات التنظيم التقدم على المحور الشمالي للمدينة، وبعد اشتباكات طفيفة سيطر على مدينة التماثيل بشكل كامل وتقدم باتجاه العامرية شمالا والسيطرة عليها ليطوق المدينة, وكانت المفاجأة اقتصار الدفاع عن تدمر على بعض ميليشيات الشبيحة المحليين وبعض الميليشيات الإيرانية التي استسلمت للتنظيم.
على أن هذه العملية السريعة للتنظيم في السيطرة على تدمر الاستراتيجية تحمل أسئلة دقيقة عن انهيارها السريع في تواطؤ ملحوظ تجسد في التخلي عن المدينة يتقاسم مسؤوليته الأسد وحلفاؤه في رسالة للعالم لصرف الأنظار عن مجزرة حلب.
أهداف متباينة لسيطرة التنظيم على تدمر
في المحصلة، أهداف عدة تحملها سيطرة تنظيم "الدولة" على تدمر، ولا يمكن اختصارها فقط بالسيطرة على المدينة الواقعة في عمق البادية السورية، حيث تتعدى الأهداف ذلك بكثير، ويمكن القول إن أهم الأهداف الاستراتيجية لهذا التقدم تكمن في:
- صرف أنظار المجتمع الدولي عن المجازر الجماعية التي ترتكبها روسيا والميليشيات الإيرانية في حلب لما لتدمر من أهمية تاريخية.
-تعميق الصراع الروسي - الإيراني, نتيجة الاتهامات المتبادلة بينهما عن مسؤولية سقوط المدينة.
- تأكيد واشنطن على اغتنام التنظيم أسلحة دفاع جوي متطورة تهدد طيران التحالف وأسلحة مضادة للدروع.
- محاولة التنظيم فتح طرق الإمداد وصولا إلى قاعدته في منطقة القلمون الشرقي، باعتبار تدمر والبادية السورية نقطة الوصل مع الرقة معقله الرئيسي كما ستمنح التنظيم فرصة الوصول إلى القلمون الغربي.
- عدم توقف المعارك عند هذه الجغرافية فالتنظيم أطبق حصاره على مطار "تي فور" العسكري وبسقوطه يصبح الطريق مفتوحا أمامه إلى مدينة حمص.
وفي الوقت الذي كان يشهد هزيمة الروس من قاعدتهم في تدمر أمام هجوم تنظيم "الدولة" كانت الطائرات الحربية الروسية تمطر مدينة حلب بوابل من الصواريخ والقنابل بذريعة مكافحة الإرهاب, وبينما كان التنظيم يهدم حسينيات الشيعة الإيرانيين في تدمر، كانت تقوم ميليشياتها بحرق جثث المدنيين في شوارع حلب وتطارد أطفالها في الأزقة القديمة متزامنة مع نشوة انتصار الأسد وشبيحته.
انقض التنظيم على مدينة تدمر من عدة محاور ليبسط سيطرته عليها بعد هروب الميليشيات الشيعية والشبيحة وقبلهم الروس الذين فروا من قاعدتهم بعد أن فجروها.
واستغل التنظيم اختلال موازين القوى لمصلحته نتيجة زج نظام الأسد وإيران ميليشياتهما في معركة حلب, ولم يكتف التنظيم بتدمر فتمدد باتجاه مطار "تي فور" العسكري بعد إحكامه السيطرة على محيطه, وأصبحت ميليشيا الأسد أمام خيارين, إما الدفاع عن المطار أو إخلاؤه.
- الميليشيات المتواجدة في تدمر
- الميليشيات الشيعية الإيرانية: وتشمل قوات "الرضا" الشيعية, وهي وحدات من "حزب الله" اللبناني, ولواء "ذو الفقار" العراقي بقيادة الشيعي حيدر الجبوري. ومقرها مدينة تدمر ومحيطها ولفيف من الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات.
- ميليشيا الأسد: وتشمل "فهود حمص", وهي ميليشيا بقيادة أمين جمعة, مقرها حي الوليد في حمص, تدعمه مؤسسة البستان التابعة لرامي مخلوف, وجبهات قتالها "القريتين والضمير وتدمر وحقول الغاز شرق حمص."
- القاعدة الروسية في تدمر: تقع القاعدة الروسية في قلب المدينة الأثرية, أنشأها الروس بعد سيطرتهم على تدمر في شهر نيسان/إبريل الماضي, وتتألف من العديد من الخيام والغرف المسبقة الصنع المحاطة بالأسلاك الشائكة وفيها مطعم ومكان للنوم وتحوي معدات عسكرية بما فيها من مدافع ورشاشات وصناديق كثيرة من الأسلحة والذخائر والقذائف, واستولى عليها التنظيم بعد هزيمة الروس.
الصراع الروسي- الإيراني في تدمر وحلب:
يمكن رصد الصراع الروسي الإيراني من خلال اختلاف السياسة الإعلامية الإيرانية بعد التدخل الروسي, فأصرت إيران في كل مرة ومعركة على إصدار بيانات عن خسائرها للضباط والمستشارين العسكريين وعناصرها في سوريا, وأعلنت أن السياسة الروسية براغماتية مطلقة تبحث عن مصالحها وقد تنقلب على حلفائها في طهران ودمشق, فروسيا لا تتمسك بفكرة بقاء الأسد بعكس الإيرانيين, وظهر الصراع بينهما في تدمر من خلال اعتماد إيران على ميليشيات تعمل بشكل منفرد بعيدا عن قيادة قوات الأسد, بينما الروس اتبعوا تشكيل ألوية ووحدات عسكرية تحت قيادة قوات الأسد للحد من عمل الميليشيات الإيرانية, ومع ازدياد التقارب الروسي التركي, ارتفعت حدة التباعد بين روسيا وإيران, والانهيار السريع أمام تقدم تنظيم "الدولة" يعبر عن رغبة إيرانية في حرمان روسيا من قاعدتها العسكرية في تدمر, حيث أجبرت الحامية الروسية على إخلاء قاعدتها بالتزامن مع تقدم التنظيم ورغبة نظام الأسد في حصول التنظيم على سلاح نوعي يستطيع من خلاله مقاومة عملية "درع الفرات" التي باتت على مشارف مدينة الباب الاستراتيجية, لامتناع روسيا عن تقديم غطاء ناري لنظام الأسد في إتمام تقدمه نحو مدينة الباب التي لا يفصله عنها سوى 8 كيلو مترات بسبب التفاهم الروسي التركي. وذكر أحد الناطقين باسم البنتاغون أن الأسلحة التي وقعت بيد التنظيم تشمل مدرعات وأسلحة دفاع جوي, وتحدث موالون لإيران والأسد أن تسليم الروس مواقعه لتنظيم "الدولة" في تدمر وانسحابهم دون قتال أوقع ميليشيات إيران وشبيحة الأسد بين قتيل وأسير. وانتقل الصراع بينهما إلى مدينة حلب, حيث أصر الإيرانيون على ارتكاب مجزرة كاملة في أحياء حلب الشرقية بصرف النظر عن التفاهم الروسي التركي في اتفاقية تهجير المدنيين وفصائل الثوار من مدينة حلب وتوقيع الروس على الاتفاق, وأعلن الروس عدم قدرتهم على حماية المدنيين مع إصرار إيران على إقحام ملف "الفوعة وكفريا" والضغط على إخراج الجرحى والمرضى منهما, ومع ذلك تعرضت قوافل المهجرين من حلب للاستهداف من قبل الميليشيات الإيرانية مما اضطر الروس للإعلان عن قصف كل من يحاول عرقلة الاتفاق, وقصفت بالطيران عدة مواقع إيرانية على أطراف حلب.
ورغم ما يبدو بين روسيا وإيران من تحالف ووحدة من الحرب السورية, فالتنافس بينهما يتجلى بتحديد من هو صاحب الكلمة الأخيرة في سوريا.
خلاصة
التركيز على أهمية تدمر التاريخية لصرف النظر عن مجزرة حلب:
عملت الماكينة الإعلامية الروسية الإيرانية إلى التركيز على المدينة ذات الصيت العالمي المدرج اسمها على قائمة تراث اليونسكو لصرف النظر عن الإبادة الجماعية التي ترتكبها ميليشيات إيران على الأرض والروس من الجو ضد أهالي مدينة حلب, وذلك بالتحذير من خطر تدمير التنظيم لأعمدة تدمر الرومانية ومدافنها ومعابدها الملكية.
ومدينة تدمر التاريخية تتوسط آثارها بادية الشام, وكانت نقطة عبور للقوافل بين الخليج والبحر المتوسط, وإحدى محطات طريق الحرير, وبلغت أوج ازدهارها في عهد ملكتها زنوبيا التي أعلنت قيام مملكة تمكنت من هزيمة الفرس في القرن الثالث الميلادي, وبما أنها وجهة سياحية بارزة يقصدها آلاف السائحين لمشاهدة آثارها التي تضم أكثر من ألف عمود وتماثيل ومعابد ومقابر برجية مزخرفة إضافة لقوس النصر والحمامات والمسرح والساحة الكبرى, من هنا ركز الإعلام على المدينة التاريخية لاستكمال مذبحة حلب.