بلدي نيوز – (صحيفة بيلد)
في الوقت الذي كان فيه العالم يتحدث عن الإرهاب وانتشار متطرفي داعش (الاسلاميين) في سوريا والعراق، ارتكبت الفظائع اليومية على يد الديكتاتور السوري بشار الأسد بإعلانه الحرب على شعبه و التي أثمرت بإخراج داعش لأول مرة إلى حيز الوجود، بينما استمر التغاضي عن الأسد.
استجوب مراسلو "بيلد" بعض السوريين الذين كانوا جزء من النظام القاتل لسنوات. وأدلوا بتصريحات تصف كيف تم اغتصاب الأطفال أمام آبائهم في السجون، وكيف أنهم أجبروا على إصدار شهادات وفاة مزورة لضحايا التعذيب، وكيف قام الأسد باستهداف شعبه بالأسلحة الكيماوية. لماذا نقف مكتوفي الأيدي لا نفعل شيئا أمام تدمير وطننا؟
كان الطبيب الشرعي الدكتور عبد التواب شحرور (50 عاما) يفتح كيس القمامة الزرقاء، ويردد بينه وبين نفسه، "أرجوك، لا تكن طفلا آخرا!". لكن محتوى هذه الحقيبة المخصصة لنقل الجثث والواصلة الى قسم الطب الشرعي في مستشفى جامعة حلب لم يكن إلا جثمان الطفل الصغير هادي زحرور بشفاهه الأرجوانية الداكنة، ووجهه المحتفظ بأثر التعذيب. على جبهة هذا الطفل المقتول يوجد لصاقة، كتب أحدهم العدد 2160 عليها بخط اليد.
"لون العينين بني، البشرة الفاتحة، العمر تقريبا 10سنوات. الوفاة ناجم عن استنشاق المواد السامة "ستظهر في وقت لاحق في تقرير بثمانية أسطر خاصة بالعدد 2160. لا يوجد في ملف الطفل ذي الشعر الداكن أية معلومات أخرى.
الطفل هادي قضى إثر غارة قصفت خان العسل بمواد كيماوية، على جبينه وضع الأخصائي الشرعي لصاقة تحمل الرقم 2160
في ذلك الوقت، في عام 2013، كان الدكتور شحرور رئيس قسم الطب الشرعي في مستشفى جامعة حلب قد قام سرا بأخذ صورة للطفل المقتول بواسطة هاتفه المحمول نوكيا 5130. "احتفظت بها بحيث في وقت لاحق يمكنني أن أخبر العالم ما يحدث لأبناء شعبي"، يقول الطبيب.
الطبيب هو واحد من الشهود الأربعة الذين قابلتهم "بيلد". لم يكن أيا منهم ثائرا منذ البدايات. وكانوا قد منحوا مناصبهم بموجب عضويتهم في حزب البعث التابع للأسد. في بداية الثورة السورية، كانوا يعملون الى جانب هذا النظام الى أن أصبحوا على احتكاك مباشر مع الفظائع المرتكبة من قوات النظام وبالتالي مشاهداتهم بدأت تشكل خطرا على حياتهم الخاصة، بذلك قرروا الانشقاق والالتحاق بصفوف الثورة. وهكذا، وضعوا أنفسهم وأسرهم تحت الخطر، وفقدوا مصادر رزقهم وأجبروا على ترك منازلهم.
التقينا الدكتور شحرور في تركيا، المكان الذي هرب اليه. يخبرنا الطبيب عن التاسع عشر من آذار قبل عامين، اليوم الذي تحول فيه هادي من تلميذ مقبل على الحياة إلى مجرد رقم آخر في سجلات قتلى الأسد.
في خان العسل، وهي ضاحية صغيرة من ضواحي حلب، ينفذ الأسد هجوما بالغاز السام في السابعة صباحا، فيقتل 13 شخصا على الأقل بالإضافة إلى هادي ويجرح حوالي 120 آخرين. في ذلك اليوم الربيعي، كان قد مضى سبعة أشهر على خطاب أوباما الشهير "الخط الأحمر". في ذلك الخطاب، هدد الرئيس الأميركي بالتدخل العسكري إذا استمر الأسد في استخدام الغازات السامة ضد شعبه.
بعد خمسة أشهر من هذا الخطاب، قتل ما يصل الى 1700 شخص في الغوطة في دمشق بعد هجوم جوي للأسد مستخدما غاز الأعصاب السارين، وتلاها الكثير من هذه الغارات الكيماوية حتى يومنا هذا. مفتشو الامم المتحدة الموفدين الى مكان الحادث كانوا يزعمون أنهم غير قادرين على العثور على دليل كاف يحدد المسؤول عن الهجمات. منذ حادثة خان العسل، لم يأت أي وفد إلى سوريا "لأسباب أمنية"، وفقا للتقرير النهائي.
بعد ثلاث سنوات من خطاب أوباما، سوريا ذاهبة الى الزوال. لا زالت جرائم الحرب فيها ترتكب اسبوعيا: قنابل البراميل المحظورة بموجب القانون الدولي للحرب، تستمر في الانقضاض على المدارس والأحياء والأسواق.
على تقرير الشرطة السري، يمكن ملاحظة آثار العرق البارد للطبيب شحرور، أثناء قيامه بتهريب هذه الوثيقة تحت قميصه الى خارج سوريا.
رئيس الطبابة الشرعية السابق الدكتور شحرور لا يستطيع أن يفهم لماذا لا يتم ايقاف الديكتاتور: "بعد هروبي من سوريا في ال14 من تشرين الثاني 2013، دعيت إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي. أدليت بشهادتي لمدة ساعة عن كل المذابح التي كنت قد شهدتها. لقد رأيت أكثر من 3000 ضحية تم تصفيتها بدم بارد. كلهم ماتوا ميتة لا معنى لها. في لاهاي قمت بتسليم تقرير للشرطة صادر عن النظام حول الهجوم بالغاز السام في خان العسل، هذه الوثيقة كنت قد سرقتها وهربت بها خارج سوريا مخبئا إياها تحت قميصي. لا تزال علامات عرقي البارد من شدة خوفي تاركة أثرا على الوثيقة. في تقرير سري للغاية صرح النظام بنفسه أنه في صباح يوم الهجوم بالغاز السام، شهد العديد من الشهود طائرات مقاتلة في سماء خان العسل. النظام هو الوحيد الذي يملك طائرات مقاتلة. ولكن لا أحد يريد أن يعرف من المسؤول عن الهجوم بالغاز السام".
"الأمم المتحدة أرادت فقط أن تتأكد من أن الأسلحة الكيميائية قد تم استخدامها حقا، وبالطبع قد تم استخدامها، لقد رأيت بعيني تحول الأجساد إلى جثث زرقاء، أشخاص تمتلئ أفواههم برغوة و هم يلفظون أنفاسهم الاخيرة، الاختناق حتى الموت، الممرضات لدينا أيضا تعرضوا للتسمم أثناء التعامل مع الجثث. قمنا بعملية إنعاش لإنقاذ إحداهن.
لقد أخذت عينات من التربة في خان العسل وجمعت بعض أعقاب السجائر وطائر ميت، لقد حللت ملابس الجثث. أين ذهبت هذه الوثائق؟ سلمتها جميعها الى مكتب المدعي العام في حلب. لا يقم أحد بإفادتي عن الفترة الزمنية التي تحتاجها الامم المتحدة لمراجعة التقارير المرفوعة من قبل حكومة الأسد, وأنا أشك بأن تحاليلي كاملة موجودة هناك، لأن النظام هو المسؤول عن كل شيء كنت شاهدا عليه وقمت بدراسته".
"بين جثث الموتى، لم يكن هناك جنديا واحدا، فقط نساء وأطفال بملابس النوم"
بالقرب من موقع سقوط الصواريخ، يمتلك النظام قاعدة عسكرية. حالات تسمم المدنيين لا تعد ولا تحصى، لكن بين الوفيات لا يوجد أي من جنود الأسد، هل قاموا باستخدام الأقنعة الواقية من الغازات؟ هل كانت مجرد صدفة؟ رأيت القتلى والجرحى. لم يكن هناك جندي واحد، فقط الرجال والنساء والأطفال بملابس النوم. كيف يمكن أن يكون الامر هكذا؟ لماذا لم تهتم الأمم المتحدة؟
هل تعرف كيف تشعر عندما يتكرر أمامك مشهد تفريغ حمولة شاحنة مليئة بالجثث وأنت خائفا، ويتردد في ذهنك "هذه المرة، هل سيكون أطفالي مكومين هناك، محروقين حتى الموت، مبتوري الأيدي، الاقدام، وبلا رأس"؟ قد حدث ذلك لممرضتين في الجامعة. لن أنسى أبدا صرخاتهم طالما حييت.
في يوم من الأيام، أرسلوا أكياس الجثث تحتوي على ثلاث أطراف من اليد اليمنى وجذع. أين هي بقية الاجساد؟.
قام الطبيب الشرعي الدكتور شحرور بتصور الضحايا بواسطة هاتفه الخلوي. وقال إنه خاطر بحياته من أجل أن يظهر للعالم ما حدث لشعبه.
على هاتفه المحمول، أرانا الدكتور شحرور مزيدا من الصور لجثث مشوهة بوحشية، تم تكميم الأفواه بعض الضحايا بشرائط من البلاستيك، والبعض الآخر أنسجة المخ متسربة من رؤوسهم. كلهم لديهم أرقاما على جباههم.
وقال "عندما كنت أدرس، وأنا أقرأ ما حدث في الحرب العالمية الثانية، لم أكن أعتقد أبدا في حياتي أنني يجب أن أوثق شيئا من هذا القبيل في عملي. أنا لا يمكن أبدا أن أتصور أن شيئا مثل هذا يمكن أن يحدث في العالم مرة أخرى. رأيت امرأة بثوب زفافها، كان جسدها سليما، ولكن رأسها محطما، يبدو كقطعة دموية. وضعت سترتي على وجهها، كان مشهدا لا يطاق. هذا الدافع العاطفي وحده كان يمكن أن يكلفني حياتي آنذاك. على مدى السنوات الـ 40 الماضية، نقوم بدفع الضرائب للحكومة السورية بحيث يتمكن الأسد من شراء الأسلحة. الآن استخدم هذه الاسلحة ضدنا. إنها مأساة".
لأن الطبيب الشرعي رفض أن يبقى صامتا، ألقي القبض على إخوته. قضى واحد ثلاثة أشهر في "فرع فلسطين" وهو سجن التعذيب سيئ السمعة في دمشق. حيث قام أتباع الأسد باقتلاع شعره وأسنانه، وكسرت عظام يديه. الدكتور شحرور يعرض علينا صورة لشقيقه بعد وقت قصير من إطلاق سراحه من السجن. نرى رجلا مسنا في الملابس الداخلية. نصف شعره مفقود، ويديه معلّقة بذراعيه، مشوهة بشكل غريب.
الطبيب الشرعي الدكتور محمد ف. (44 عاما) تعرض للتعذيب لأكثر من ستة أشهر في "فرع فلسطين"، أحد سجون التعذيب سيئة السمعة في نظام الاسد ". جريمته: أراد الهرب من الوحشية التي كان عليه أن يشهدها كل يوم. هذه هي الوثيقة التي تؤكد الإفراج عنه
الدكتور محمد ف.(44 عاما) تعرض للتعذيب أيضا في نفس السجن. كان طبيبا شرعيا في مستشفى الجامعة في حلب حتى اعتقله النظام في 12 تشرين الثاني، 2014. الاتهام الموجه له: التهديد الإرهابي. معنى هذا الاتهام ، أنه ألقي القبض عليه أثناء محاولة للهروب.
وقال الطبيب الشرعي "عندما أطلق سراحي من السجن، لم أتعرف على وجهي في المرآة". يعرض محمد لنا الصورة التي أخذت في 18 نيسان 2015، و ذلك بعد يومين من دفع كفالة الافراج عنه من قبل والدته التي رهنت خاتم زفافها و الذي عمره 40 عاما لمبادلته بما يعادل الـ 2000 يورو. أنفه متورم بحجم البطاطا، والمنطقة تحت عينيه تعكس كدمات واضحة. حتى تاريخ هذا اليوم، جسده لا يزال مغطى بالندوب. أردافه وساقيه مشوهتين حرقا. آثار إطفاء سجائر المحققين لا تعد ولا تحصى على جلده. بالإضافة إلى ذلك، تم تعذيبه بالصدمات الكهربائية على خصيتيه. "لقد عانيت، ولكن كل هذا لا شيء بالمقارنة مع عذابات السجناء الآخرين. لقد رأيت رجال شرطة يغتصبون النساء والأطفال أمام المعتقلين الآخرين. قاموا في إحدى المرات بحشي العصي في شرج السجناء".
محمد هو واحد من الأطباء الذين فحصوا ضحايا مثل الصغير هادي بعد الهجوم بالغازات السامة في خان العسل. في نهاية تموز 2013، عندما تم التصريح بأن الأسد كان على وشك السماح لمفتشي الأمم المتحدة بدخول البلاد، تلقى محمد زيارة من جهاز مخابرات الأسد. وقال الطبيب "قالوا لي بالضبط ماذا أقول وماذا لا أقول عن خان العسل". "كان من المفترض أن أقول للمفتشين أني رأيت رجلا ملتحيا يقوم بإطلاق الصواريخ وأن الجيش السوري كانوا يحاولون إنقاذ الناس. لا شيء من ذلك صحيح. "ولكن المفتشين لم يأتوا".
"رأيت أمورا فظيعة تمنعني من الاستمرار هناك، حتى لو كلفني ذلك المخاطرة بحياتي. أذكر كيف أحضروا لنا جنود من الجيش السوري الحر مع أعيرة نارية في رؤوسهم. كانت وضعية الاصابات مباشرة من الامام. رأيت ثقوب الرصاص. هذه لم تكن إصابات الحرب، كانت جريمة قتل بدم بارد من قبل النظام. كتب رئيسي "أزمة قلبية" و"فشل كلوي" على شهادات وفاتهم بينما وقفت المخابرات وراءنا مع أسلحتهم موجهة الينا في وضعية الاستعداد للإطلاق. سمحوا لنا فتح أكياس الجثث فقط ما يكفي لرؤية وجوه الضحايا. كيف يمكن أن نقوم بتنفيذ عمليات التشريح بجدية، أو كيف لنا أن نحدد هوياتهم؟ أحيانا كانت الجثث بلا وجوه. تم دفنهم في مقابر جماعية سرية من قبل النظام بحيث لا تتمكن أسرهم من رؤية آثار التعذيب التي تعرضوا لها. رأيت جثثا حمّلت بعيدا في شاحنات زرقاء. تحدثت إلى حفار القبور. تلك هي الحقيقة.
"كنا نكتب شهادات الوفاة تحت تهديد سلاح جهاز المخابرات الموجه الينا في وضعية الاطلاق"
لم يكن ظرفنا يسمح لنا بإظهار أي انفعال عندما ترمى أمامنا جثث لا تعد ولا تحصى مرارا وتكرارا لتوضع في مرافق التخزين المبردة. نقوم بفحصهم في ساحة الجامعة. و يعتصر قلبي بجنون في كل مرة. إن بكيت أو احتجيت ستواجه خطر الموت. من كان يظن أن مهنة تحتاج لبرودة الاعصاب مثل الطب الشرعي يمكن أن تجردك من مشاعرك؟
في أحد الايام، اثنين من زملائي وضعوا على طاولات التشريح لدينا. كانوا قد عملوا معي في مكتب الطبابة الشرعية، ورفضوا مواصلة كتابة تقارير كاذبة. تم تجويعهم في السجن. لا أحد يعلم عن ذلك، لا توجد تقارير عن ذلك، ولكن في المستشفى رأيت بأم عيني سجناء يتم نقل الدم لهم بفصيلة دم خاطئة. ماتوا تحت التعذيب. آخرين تم حقنهم بالمواد الكيميائية. ثم، عندما تسلم جثثهم لأسرهم، أو على الأقل يسمح لهم برؤيتها، فإنها تبدو سليمة ظاهريا. في شهادة الوفاة يتم كتابة: نوبة قلبية. كل هذا يحدث كل يوم في مستشفيات وسجون الأسد".
حسين الحسن (46 عاما) كان قاضيا في حريتان قرب حلب. تلقى أوامرا لإرسال حتى الأطفال الى السجن.
لمدة 15 عاما كان قاضيا في حريتان، بالقرب من حلب. ويقول انه استجوب متظاهرين مصابين بجروح بالغة في مستشفى جامعة الرازي في حلب. "كانت أجسادهم تعكس آثار التعذيب مكسوة باللونين الأسود والأزرق، ومليئة بالجروح. العديد منهم قيدوا معا مثل الدواب على سرير. تم ربط يد وقدم كل شخص الى الشخص الذي يليه. بعضهم كان بالكاد يستطيع أن يتكلم، وكان من المفترض أن نسمع قضيتهم عندما كانوا في هذه الحالة؟ مهزلة ".
في بداية الثورة، تلقى القاضي أمر كتابي لإرسال جميع المتظاهرين على الفور إلى السجن.
"قيل لي أن هذا الاتهام يجب أن يكون دائما" الإرهاب "". تم تهديدي ومورست علي الضغوط. كانت المشكلة، أنني حتى لو قمت بتبرئتهم، أثناء الإفراج عن "المشتبه بهم" من المحكمة ستكون المخابرات بانتظارهم في الخارج. لم يكن لديهم فرصة. أسبوعيا تصلني تعليمات أكثر صرامة حول كيفية المضي قدما في هذا السياق. ثم قيل لي أنني يجب أيضا إرسال القصر من سن 14الـ إلى السجن. أرادوا أن أسجل إفادات المشتبه بهم في مبنى المخابرات. وانا رفضت. هذا ليس مكانا مدنيا. في أوائل عام 2012، اعتقلوا ابن أخي. عندما قمنا بتخليصه من الاعتقال بعد بضعة أيام بدفع ما يعادل حوالي 400 يورو، أخلي سبيله وهو لا يستطيع المشي إلا على أطرافه الأربعة. لقد حطموا رجليه بقضبان معدنية. وكان مجرد طالب عادي.
بعضهم كان يتحدث بمشقة كبيرة بسبب التعذيب الوحشي. كيف لي أن أحقق معهم بهذه الوضعية؟
وكانت محكمة حريتان صغيرة جدا، و مع ذلك يحول اليها حوالي 50 حالة "إرهاب" شهريا. يمكنك أن تتخيل كم كان عدد هذه الحالات في المدن الكبيرة. تم جلب بعض المتظاهرين مصابين بأعيرة نارية، وبالكاد قادرين على الوقوف.
وبسبب رفضي لإصدار الأحكام التعسفية، تم إحراق مكتبي بالكامل، سرقت الأمانات واحترق كل شيء. قال لي عنصر المخابرات أن الثوار من قاموا بذلك. ولكن لسخرية الموقف، كانت صورة الأسد المعلقة في كل مكتب باقية دون أن تصاب بأذى. لوكان الثوار من أخرقوا المكتب، لتخلصوا من هذه الصورة قبل كل شيء. واصلت العمل، ولكن فجأة بدأوا بتحويل قضايا المتظاهرين في عهدتي لقاضيين آخرين في حلب. ربما قاموا بإصدار أحكام "أفضل" مما فعلت. غادرت سوريا مع زوجتي وأطفالي في 26 كانون الثاني عام 2014. لم أعد أرى مستقبلا، حتى في المكان الذي أنا فيه الآن لا يمكنني العمل ولا أعرف كيف ستستمر حياتنا أنا و عائلتي. سوريا أصبحت مكانا مظلما ".
الجنرال زاهر الساكت (52 عاما) تلقى شخصيا ثلاثة أوامر للهجوم بالمواد الكيماوية. و منذ هروبه يقوم بتوثيق الهجمات الأخرى بمساعدة من زملاء العمل في سوريا
العميد زاهر الساكت (52 عاما) الرئيس السابق لمركز بحوث الأسلحة الكيميائية الشعبة الخامسة من المرؤوس العسكري للنظام في دمشق، والرئيس الحالي للمجلس العسكري بحلب، لا يرى في الافق نهاية لمعاناة المدنيين.
ويؤكد: "الأسد لم يتلف حتى نصف الأسلحة الكيميائية لديه". لسنوات عديدة، كانت مهمة الساكت إنشاء ترسانة الأسد للأسلحة الكيميائية ليتمكن النظام من الدفاع ضد الأعداء مثل إسرائيل. واضاف "أن يستخدم بشار هذه الأسلحة ضد شعبه، هذا لم يأت في تصوري حتى في أعنف أحلامي. قبل هروبي في 11 آذار 2013، كلفت شخصيا لتنفيذ ثلاث هجمات بالأسلحة الكيميائية. في تشرين الأول 2012 على الشيخ مسكين، في كانون الاول 2012 على الحراك، وفي كانون الثاني 2013 على بصر الحرير، حيث العديد من المظاهرات كانت تخرج هناك ضد الأسد. الشعب بحاجة إلى "إعادة توجيه"، هكذا قالوا لي. تلقيت أمرا من الجنرال علي حسن عمار لتحضير "الفوسيجين"، و هو غاز يتمتع بتركيز عالي يضر الرئتين في غضون ثوان بعد استنشاقه ويسبب الموت اختناقا. لم أكن أريد أن ألطخ يداي بالدماء، وذلك بدلا من ملء الحاويات بالمواد الكيميائية القاتلة استبدلتها بالمياه، مع إضافة ماء الجافيل، والمبيضات، لجعل رائحتها نفاذة في حين تبقى غير مؤذية. و قمت بدفن الحاويات الأخرى المليئة بالمواد السامة. عندما لم تعطي الهجمات الأثر المدمر المطلوب، أصبحت محط شكوكهم واضطررت إلى مغادرة البلاد.
"فقط رأس الهرم في الجيش السوري (أي الاسد) يستطيع تفعيل قرار استخدام غاز الاعصاب،
كيف له أن يتظاهر بجهله حول الموضوع؟"
ولكن لا يزال لدي علاقات جيدة في سوريا. حتى قبل عام كنت على تواصل مع عنصر في المخابرات، ولكنه توقف عن الإجابة فجأة. أتمنى أن يكون على قيد الحياة . لقد أكد لي أيضا الاستخدام المتكرر لغاز السارين من قبل النظام.
أمر استخدام غاز الأعصاب لا يمكن إلا أن يعطى من قبل قائد الجيش، وهو بشار الأسد. كيف يمكن له أن ينفي في أي وقت مضى أنه استخدم الأسلحة الكيميائية؟ أنا أعرف كل مادة كانت لدينا في بداية الثورة. في سوريا كان هناك على الأقل 45 مراكز أبحاث للأسلحة الكيميائية، في حين أن الحكومة صرحت إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) أن هناك 23 مركز فقط. لم يلتفت أحد الى الحقيقة الأكثر أهمية، وهي أن هذه لم تكن مراكز أبحاث، وإنما مراكز لإنتاج الأسلحة المعدة للاستخدام العسكري. على سبيل المثال، هناك واحد في المنطقة حول جبل عطا، في عدرا وتدمر. الأسد يخفي الأسلحة الكيميائية في المنشآت العسكرية المحصنة في الجبال. عندما وافق الأسد على قرار الامم المتحدة 2013 تتطلب منه لتدمير الأسلحة الكيميائية له، تم تدمير 1300 طن، لكنني أعرف أنه كان لدينا 3000 طن على الأقل، والبعض منها قد تم بالفعل تثبيته في الرؤوس الحربية. و احتفظ الأسد بغاز الخردل وغاز VX. قبل الزيارة التي قام بها مفتشو الامم المتحدة، تم نقل العديد من المواد الكيميائية الأخرى التي يمكن استخدامها لصنع الأسلحة الكيميائية إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام، على سبيل المثال محافظة طرطوس، اللواء 45 رئيس الشعرة، مدرسة الشبيبة في مصياف، مطار حميمين في جبلة ومنطقة جبورين غرب حمص. و أنا ما زلت أقوم بتوثيق أي هجمات بالغاز السام على المناطق المحررة جنبا إلى جنب مع الأطباء والمساعدين المتواجدين هناك. و كثيرا ما أسافر إلى سوريا بنفسي لزيارة المواقع التي شهدت هجمات كيماوية، لجمع عينات من التربة، تصوير القتلى والجرحى، واذا توفر لي أقوم بتوثيق الصواريخ المستخدمة في إطلاق المواد الكيميائية وأبعث نتائجي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
على حد علمي، لا يزال النظام يستخدم غاز الكلور وكلوريد الفيناسيل او التي يمكن أن يصادق على استخدامها معظم القادة المحليين الكبار. إذ لم يعد بشار الاسد يوقّع على أوامر استخدام هذه الغازات مؤخرا.
بسبب عدم التزامي بالصمت، اعتقلوا أخي خالد (55 عاما) و قاموا بتعذيبه في السجن. كسروا العديد من فقراته وتم تعذيبه بالصدمات الكهربائية في الرأس واليدين والقدمين. قمنا بدفع 60٫000 دولار لإطلاق سراحه و تهريبه خارج سوريا. وهو يتلقى الآن العلاج الطبي في ألمانيا".
أنقاض منزل عائلة طالب. في 16 آذار 2015 حيث يعيش الأطفال الصغار الثلاثة، توفي والديهم وجدتهم عندما أصاب صاروخ النظام المعبأ بغاز الكلور مطبخ منزلهم.
وقد قضي على عائلة بأكملها من بينهم ثلاثة أطفال صغار: الأب، كهربائي، وارف طالب (33)، وزوجته عالية (22)، عيوش والدته (58)، بناته سارة (1)، عائشة (2) وابنه محمد (11 شهرا). تظهر أشرطة الفيديو محاولات الأطباء اليائسة لإحياء محمد الصغير. وحتى حقنة مباشرة في قلبه لم تنجح. فقاعات رغوة من أنوف الأطفال، عيونهم ملتوية، شفاههم أرجوانية.
ذهب الجنرال زاهر بنفسه إلى موقع الهجوم، أخذ عينات من التربة وتحدث إلى الأطباء. وفقا لنتائجهم، تم استخدام غاز الكلور.
قبل عشرة أيام، في 6 آذار 2015، اعتمدت الأمم المتحدة القرار رقم 2209، الذي يدين بصرامة استخدام غاز الكلور كسلاح كيميائي. سامانثا باور (44 عاما)، سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة: "فقط نظام بشار الأسد يمكن أن يخزن غاز الكلور لاستخدامه كسلاح كيميائي، ويجب أن يكون مسؤولا عن هذا الانتهاك للقانون الدولي".
ومع ذلك، في بداية آب 2015، قررت الأمم المتحدة تشكيل فريق من الخبراء لتحديد هوية مرتكبي الهجمات بالغازات السامة.
هل نحن أمام تصريحات في الهواء مرة أخرى؟ والتي لم يتم اتباعها بأفعال حقيقية طوال هذه الايام ؟ هل سيتم معاقبة المسؤولين عن الانتهاكات؟ كيف يمكن إيقافهم ؟ حتى الآن، لم يصدر أي قرار رسمي يمنع الأطباء الشرعيين في حلب وأماكن أخرى في سوريا من فتح أكياس الجثث التي تحتوي على أجساد الأطفال الأبرياء، والتي يحددها مجرد رقم، ملصق على الجباه.
تقرير-بيلد- أنجز من قبل كل من: كاتارينا فيندمايسر وياسر الحجي (النص)، كريستيان سبريتز (صور)، كاترين كريمر وفيليب بلينك (تنسيق وإخراج النص)