معهد واشنطن – (ترجمة بلدي نيوز)
من المقرّر هذا الشهر أن تبدأ الجولة القادمة من مفاوضات السلام السورية في جنيف، ولكنّ قبضة بشّار الأسد المتركّزة مؤخراً على دمشق، وضعت المعارضة السورية بالفعل في موقف صعب، وفي الواقع فإنّ التركيز على معركة حلب حيث تقدّمت أيضاً قوّات النظام مؤخراً، صرفت الانتباه عن استعادة جيش النظام السوري بشكل بطيء وشبه مؤكّد، لضواحي العاصمة السورية التي كانت تقع تحت سيطرة قوات الثوار.
خلق توازن ديموغرافي مواتيٍ للنظام
منذ سبعينيات القرن المنصرم، كان هنالك حضور قويّ للجيش في منطقة دمشق وضواحيها، يشمل على قواعد عسكرية كبيرة متمركزة في جنوب وغرب العاصمة، حيث كان هذا الموقف العسكري رسمياً يوحي بحماية دمشق ضدّ إسرائيل، نظراً لأنّ جبهة الجولان تقع على بعد حوالي خمسين كيلومتراً عن العاصمة السورية، غير أنّ الهدف "غير الرسميّ" من هذا الإعداد الّذي صمّمه حافظ الأسد، كان يتجلّى بالسيطرة على كامل دمشق بشكل أفضل، حيث آمن والد بشّار أنّ كل من يسيطر على دمشق يسيطر فعلياً على سوريا.
لقد كان ذلك جزءاً من هدف جهود الأسد الأب للسيطرة على دمشق عقب استيلائه على السلطة في انقلاب عسكري في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1970، حيث قام بنشر عشرات الآلاف من القوّات الموالية له، بالإضافة إلى مسؤولين علويين وعائلاتهم، في المدينة.
وفي حين كان هنالك 300 علوي فقط يعيشون في دمشق (من أصل حوالي 500,000 نسمة في منطقة العاصمة) في عام 1947، ارتفع هذا العدد بشكل مفاجئ ليصل إلى أكثر من 500,000 (من بين حوالي 5 ملايين نسمة يقطنون في منطقة العاصمة) بحلول عام 2010، أو بعبارة أخرى ربع المجتمع العلوي في سوريا، وبالتالي فقد فاق عدد العلويين في دمشق عددهم في أي مدينة سورية أخرى.
وابتداء من سبعينيات القرن المنصرم، سعى نظام الأسد إلى توزيع العلويين بشكل استراتيجي في جميع أنحاء المدينة، حيث لا يزال مسؤولو نظامه يعيشون وفقاً لهذا الترتيب الآن في حي "المالكي"، حول منزل الأسد الشخصي، في حين أنّ موظفين مدنيين من العلويين من رتب أدنى يعيشون في "مزة 86"، وهي منطقة واسعة تطلّ على الأحياء الغنيّة في شارع المزة الاستراتيجي في العاصمة.
كما أن ضواحي المدن الدرزية والمسيحية أساساً تجذب العلويين أيضاً، على سبيل المثال: "جديدة عرطوز" و"جرمانا" و"صحنايا"، والتي تقدّم أنماط حياة أكثر استدامة من تلك المناطق السنيّة المحافظة في الغوطة على سبيل المثال، في كل من دوما وداريا وزملكا، والتي أصبحت فيما بعد معاقلاً للمقاومة.
ومنذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة، سمح النظام السوري أيضاً للأحياء العلويّة والدرزيّة والمسيحيّة بالتوسع والاقتراب من المحاور الاستراتيجية التي تربط دمشق ببقية أنحاء البلاد ودولة لبنان، في حين تُعيقُ أيضاً "الطوق السُنّي" الغالب على المدينة.
كما كانت الحالة في ضاحية جرمانا الواسعة والتّي تمّ إنشائها ابتداء من الثمانينيات، فضلاً عن الطريق المؤدّي إلى مطار دمشق الدولي، الأمر الذي ناسب خطة النظام الاستراتيجية للفصل ما بين الضواحي السُنّية في المدينة، أي بين شرق الغوطة وغربها.
التخطيط الأمني في العاصمة
وفي شمال شرق العاصمة، يعيش أغلب مسؤولي وموظّفي القطاع العام للأعمال الصنّاعية من غير السُنّة، وذلك في وحدات سكنيّة عامة في "ضاحية الأسد" و"عَدرا"، وهي أحياء موالية للنظام تساعده في دعم الدفاع عن مدخل المدينة الشمالي الشرقي، وبالتالي نظراً لأنّ الطريق المباشر من دمشق إلى حمص يتعرض لنيران قوات الثوار منذ نيسان عام 2012، فقد تمّ تغيير مسار حركة المرور إلى الطريق الدائري الشمالي، والّذي يصل إلى الطريق السريع ما بين دمشق وحمص، وفي جنوب غرب المدينة، تُسهِّل الثكنات العسكرية والمجتمعات الدرزية والمسيحية المكتظة فيها، حماية الطرق المؤدّية إلى بيروت والقنيطرة ودرعا.
أما المناطق السنيّة مثل المعضّمية وداريّا ومخيم اليرموك للّاجئين الفلسطينيين والّذي يعتبر رسميّاً ضاحية من ضواحي دمشق، بالإضافة إلى منطقة بابيلا، فيحدّها من الجنوب الحزام الدرزي-المسيحي المعزَّزُ منذ السبعينيات بأعداد كبيرة من العلويين، فضلاً عن الطريق الدائري الجنوبيّ والّذي أصبح خطّ دفاعٍ مهمّ لدمشق ضدّ الضواحي التي تسيطر عليها قوات الثوّار.
وبالنسبة إلى العاصمة ككلّ، يحيطها طريق دائري كبير تقطعها طرق واسعة تخلق فواصل في المناطق الحضرية، حيثُ لم تُصمّم هذه الشوارع في السبعينيات من أجل تسهيل تدفّق حركة المرور، وهذه مسألة واضحة وخاصّة عندما يأخذ المرء بعين الاعتبار أنّ عدداً قليلاً من السوريين امتلكوا سيارات خاصّة في ذلك الوقت، ولم يتوقّع حينها المصمّمون أن تزداد ملكيّة السيارات الخاصّة إلى درجة كبيرة لاحقاً، وبالأحرى فقد كان ذلك مثالاً كلاسيكياً على التخطيط الأمني، فالهدف من مخطط ذلك الطريق كان انتشار المركبات المسلّحة من أجل ردع أي حدثٍ كبيرٍ.
وفي أواخر السبعينيات، وقعت "مدينة دمشق القديمة" ضحيّة لهذه الاستراتيجية عندما تمّ هدم جزء كبير من أسواقها لإفساح الطريق لإقامة منطقةِ تسوّقٍ ذات شوارع عريضة تتقاطع في زوايا قائمة، حيث لم يُنشئ النظام طُرُقاً واسعةً في كلّ مكانٍ، بل سمح بانتشار ضواحي غير رسميّة خارج المدينة، تتميز بشوارع ضيّقة وأشبه بالمتاهات، وفي النهاية أصبحت تلك الضواحي معاقل للانتفاضة.
تطويق الضواحي التي يسيطر عليها الثوار
يمكن أن يُعزى سبب فشل الثوار في دمشق بشكل رئيسي إلى عدم قدرتهم على توحيد الغوطة الغربية والشرقية وقطع الطريق المؤدّي إلى المطار الدولي، فقد دافع جيش النظام ولا سيما "قوات الدفاع الوطني" الموالي للنظام عن جرمانا بكلّ قوّة، وبذلك وسّع الجيش من نطاق سيطرته على جرمانا من جهتي طريق المطار، مطوّقاً بذلك الجزئيين السنيّين لمنطقة الغوطة.
ويرافق الحصار العسكري على مناطق الثوار حول دمشق حظراً مشدّداً على المواد الغذائية وغارات جوية مكثّفة، تهدف إلى تخويف المدنيين ونشر الذعر بينهم، حيث أن المبدأ الأساسي لمكافحة الثورة، يهدف إلى فصل المدنيين عن قوات الثوار، ويُطبَّقُ هنا بشكل بدائي، كما كان عليه الحال في حلب.
ووفقاً للأمم المتّحدة، بقي في داريا 4000 شخص فقط من أصل 80,000 مقيم فيها في عام 2010، إذ يهدف هذا الحصار أيضاً إلى دفع مناطق الثورة الأخرى على القبول بالتسوية المؤقتة مع النظام، ولذلك أبرمت مناطق "بابيلا" و"المعضميّة" و"قدسيّا" و"القابون" و"برزة" اتفاقات وقف إطلاق النار مع جيش النظام لمنع تدميرها وتجويع سكانها.
ومنذ ربيع عام 2016، استعاد جيش النظام الاستيلاء على ثلث "شرق الغوطة" في حين تستمرّ قوّاته في التقدّم من الشرق، كما أدّت الصراعات بين جماعات "فيلق الشام" و"جيش الفسطاط" و"جيش الإسلام" إلى مساعدة النظام على القيام بهذا الهجوم.
ومنذ 2012، كان "جيش الإسلام" يبسط سيطرة كاملة تقريباً على "شرق الغوطة"، ولكن مقتل مؤسّسه زهران علّوش في 25 كانون الأوّل/ديسمبر في عام 2015 أضعف قواته بعض الشيء، كما مثّل مقتل علوش نكسةً كبيرة للمملكة العربية السعودية، نظراً لأنّه كان قد رُقِّيَ في وقت سابق من خلالها ليصبح منسّق المعارضة السورية في محادثات جنيف، حيث كانت تلك هي المرّة الأولى التي توحّدت فيها المعارضة السياسية والعسكرية معاً، ولم يكن خليفة علوش، شقيقه الأصغر محمّد علوش، قادراً على القيام بهذه المهمّة، سواء محليّاً أو دوليّاً، فتمّ تهميشه بسرعة في جنيف لصالح رئيس الوزراء السوري السابق رياض حجاب.
انعكاس عسكري كبير، منذ عام 2012
وفي أعقاب الهجوم الّذي وقع في 18 تموز/يوليو في عام 2012 مودياً بحياة الكثيرين من مسؤولي النظام، من بينهم زوج شقيقة بشّار الأسد آصف شوكت، بدا الثوار على وشك السيطرة على دمشق، وبعد أربع سنواتٍ أصبح وضع النظام العسكريّ مغايراً كليّاً، حيث أن جيش الأسد والميليشيات الشيعية المتحالفة معه يطوّقون الآن مناطق المعارضة حول دمشق، فارضين حصارهم القاسي، بالإضافة إلى ذلك فَقَدَ الثوار الأمل في أن ينقذهم أي تدخّل خارجي لأنّ "مركز العمليات العسكرية" في عمان، والّذي يساعد في تنسيق أعمال الثوار، لم يعد يعطي أولوّية لدعم الهجوم ضدّ النظام السوري، بل ضدّ "تنظيم الدولة"، كما أنّ إمكانية إبرام الولايات المتّحدة وروسيا لاتّفاق تعاونٍ ضدّ "تنظيم الدولة" و "جبهة النصرة" زادت من حدة الشعور بالتخلّي العالميّ بين صفوف المعارضة، وبالتالي دفع بعض جماعات المعارضة إلى التفاوض مع النظام لفرض هدنة أو الانضمام إلى صفوف الجهاديين.
في دمشق، يتم دعم النظام بقوة من قبل ميليشيا "حزب الله" الشيعيّة المتطرفة، بقيادة إيران وميلشياتها المختلفة، إذ يعود سبب هذا الدعم إلى أنّ العاصمة السورية وخصوصاً مطاراتها هي البوابة الرئيسية لوصول الأسلحة الإيرانية إلى "حزب الله"، كما يُعتبر تدفّق المقاتلين الشيعة إلى دمشق جزءاً من جهدهم للدفاع عن ضريح "السيدة زينب" وهو موقع الحجّ الشيعيّ أساسيّ والذي كان يزوره قبل عام 2011، مئات الآلاف من الزّوار في كلّ عام، وفي كلّ مرّة تقع فيها قذيفة في منطقة "السيّدة زينب" أو تنفجر سيارةٌ مفخخة في تلك المنطقة، تتردد أصداء الخبر في جميع أنحاء العالم الشيعي، مما يساعد البروباغاندا الشيعيّة في جذب مقاتلين جدد إلى تلك الجبهة.
يقين الأسد الشخصي
وبالمقارنة مع مناطق غرب حلب الواقعة تحت سيطرة قوات نظام الأسد، والّتي تقصف في بعض الأحيان بقذائف المعارضة، تُعتبرُ العاصمة السورية هادئةً نسبيّاً، فالخدمات العامة تعمل بشكلٍ طبيعيّ، بينما تبدو الحرب بعيدة باستثناء صوت المدفعيّة المتردّد من "جبل قاسيون" وهي تقصف المناطق المنتفضة، بالإضافة إلى أن المطار الدولي في دمشق بات يعمل من جديد، كما أنّ الطرق الرئيسية التي تؤدي إلى حمص ودرعا وبيروت أصبحت الآن شبه آمنة، ولا يمكن لتلك التطورات إلاّ طمأنة الأسد، وبالرغم من عدم سيطرته حتى الآن إلّا على قسم محدود من البلاد، بالإضافة إلى أن جيشه أصبح بالكاد يستطيع المحافظة على مكاسبه الأخيرة على الأرض، والتّي سهّل تحقيقها تدخل سلاح الجو الروسي، والمليشيات الشيعية الموالية له على الأرض، يشعر الأسد الآن بتهديد أقلّ، لأنّه يسيطر على دمشق، وبما أنّه لم يعد يحتاج إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكي يدافع عن مجال دمشق الجوّي، يقلّ إحتمال رضوخه للضغوط الروسيّة، ناهيك عن الضغوط الدوليّة الأخرى، للتخلّي عن السلطة.
في دمشق، ما زال الأسد بحاجة إلى استمرار الدعم العسكري الدفاعي القويّ والمتدفّق من إيران ووكيله "حزب الله" والميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية، وكما هو الوضع الآن، فمن دون وجود تهديدٍ عسكري حقيقي على نظام الأسد، لن يوافق الأسد أو إيران على حصول أي انتقال سياسيّ في سوريا وحتّى لو قبلت روسيا بذلك.
-فابريس بالونش، أستاذ في البحوث السياسية ومدير الأبحاث في "جامعة ليون 2"، والزميل الرائد في معهد واشنطن للسياسات.