Foreign Policy – ترجمة بلدي نيوز
في داريا، لم تعد أجراس الكنيسة تقرع، وهي إحدى ضواحي دمشق التي شهدت بعضاً من أسوأ المعارك في الحرب وتغيرت كثيراً على مر السنين، ولفهم المسار المأساوي في سورية اليوم، ينبغي علينا أن ننظر كيف قاومت هذه المدينة مع ثوارها، وعلى مدى السنوات الأربع الماضية النظام السوري، وهي التي تبعد مجرد نصف ساعة من قصر بشار الأسد.
قبل الثورة، كانت داريا ضاحية هادئة للطبقة الوسطى على أطراف دمشق، وبحلول عام 2011 أصبحت بؤرة للاحتجاجات السلمية، حيث تظاهر الآلاف في الشوارع مطالبين الأسد بالتنحي عن السلطة، وبوصفي عضوة في المجتمع المسيحي السوري، فقد غمرتني الإثارة للانضمام لهذه الحركة الشعبية التي دعت للديمقراطية والحرية والحقوق للجميع، بغض النظر عن اختلافاتنا.
فقد كان جميع السوريون يداً واحدة في ذلك الوقت، ودقت أجراس الكنيسة تضامناً مع المحتجين في درعا، ومن شرفات البيوت في الشوارع الضيقة للمدينة، أمطر المسيحون السوريون المحتجين بالأرز والزهور احتفاءً بهم، وساروا يداً بيد في المظاهرات.
هل كانت الثورة السورية حرباً مقدسة ؟ لا لم تكن
وبحلول عام 2012، كثف نظام الأسد حملته العسكرية ضد المتظاهرين العزل في داريا، وحدثت المجزرة الرهيبة هناك في 24 تموز 2012، وأرسل النظام قواته العسكرية والمخابرات وعناصر من الفرقة الرابعة، لمنع سكان المدينة من الفرار منها بأي وسيلة ضرورية، وتم إعدام عائلات بأكملها في منازلهم بآلات القتل والرشاشات، حتى أن بعضهم قد قطع رأسه، هذا حدث قبل فترة طويلة من ظهور ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية.
وأطلقت وسائل الإعلام السورية التي تديرها الدولة حملة دعاية عدوانية تصور المسلمون وكأنهم يذبحون المسحيين، لزرع الخوف في المجتمع المسيحي من المعارضة السورية، وحين اقتحمت قوات النظام البيوت في داريا، من الباب إلى الباب، بحثاً عن أشخاص تقتلهم، قام المجتمع المسحي في داريا بفتح بيوته لحماية الفارين من الفظائع، وقامت إحدى الكنائس الكاثوليكية بمعالجة الجرحى وقدمت الطعام لهم.
وحاول الأسد كسر مناعة داريا بالأسلحة الكيماوية في عام 2013، وأطلق هجوماً بغاز السارين المروع، مودياً بحياة أكثر من 1.000 ألف سوري في جميع أنحاء ريف دمشق، وكان العديد من الأطفال نائمين، يرتدون بيجاماتهم عندما وقع الهجوم ليلاً، ومازالت صور الأطفال المصطفين على الأرض والذين كانوا يعانون من الاختناق في تلك الليلة محفورة في عمق ذاكرتنا.
وكان المجتمع الدولي على وشك معاقبة الأسد على ذلك العمل الوحشي، ولكن تدخل الروس في الساعة الحادية عشرة مع تسوية عن طريق التفاوض، وقبل أن يجف حبر هذا الاتفاق، فرض الأسد حصار تجويع وحشي على داريا وعلى المنطقة المجاورة لها "معضمية الشام".
واليوم، بوصفي عضواً في الهيئة العليا للمفاوضات –وهي مجموعة متنوعة من المعارضين السوريين من المجتمع المدني والجماعات المسلحة والسياسيين والتي تهدف إلى المشاركة في محادثات السلام- فلقد عُهد إلى ولزملائي في الهيئة، العمل مع المجتمع الدولي للتفاوض على حل النزاع، وفيما تحظى محادثات وقف الأعمال العدائية على زخم كبير، فإنني ما زلت أُذكر بشكل منتظم من قبل أهالي داريا والذين أتحدث إليهم يومياً، بأن الحرب هي أبعد ما تكون من النهاية.
ولقد صدمنا أن داريا ليست مدرجة من البداية ضمن اتفاق وقف إطلاق النار، فكيف يمكن لمدينة كاملة حيث خرج الناس بشكل سلمي وجماعي إلى الشوارع مطالبين بحقوقهم، أن تكون موقعاً للمجازر والفظائع المرتكبة من قبل نظام الأسد؟ والحقيقة أن أكبر تهديد لنظام الأسد هي مطالب الشعب السوري المشروعة من أجل الحرية والكرامة، وليس الإرهاب، وبعد ضغط شديد، نجحنا في إدراج "داريا" في اتفاق وقف الأعمال العدائية.
وأثبت الروس والأسد براعة في تحويل السرد المحيط بمحادثات السلام، فطلب منا استبعاد الفظائع المرتكبة في داريا وغيرها من المدن السورية والتي ما زالت تعاني، في حين اعتبر الهدف الأسمى هو المعركة ضد تنظيم الدولة والقاعدة، ولكن كيف يمكن للمرء أن يحارب المتطرفين -الذين يهددون المسحيين والمسلمين معاً- دون التزام اخلاقي لوضع حد للأزمة الإنسانية؟ وكيف يمكن لروسيا أن تدعي انها تحارب الإرهاب في سورية في حين تساهم بشكل منهجي بتدمير "الترياق" الوحيد للإرهاب -وهم نشطاء المجتمع المدني من رجال ونساء- ونعم، حتى أنهم يقتلون المسيحيين الذين عاشوا في وئام مع مواطنينا المسلمين في داريا؟
كما تزعم موسكو أن تدخلها سوف يساعد أيضاً في حماية المسيحيين في سوريا، وقد صورت الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو، بأن المتطرفين يدمرون الكنائس ويخطفون الكهنة كمبرر للهجوم العسكري الروسي، وفي مقابلة مع مجلة فرنسية في العام الماضي، أشاد الأسد بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين معتبراً إياه "المدافع الوحيد عن المسيحيين والذي يمكن الاعتماد عليه"، ولكن قصف الأسد وبوتين وحملة التجويع التي فرضوها على المدن هو ما جعل سورية أكثر خطورة بالنسبة للمسيحيين، فالبراميل المتفجرة التي تلقيها آلتهم العسكرية على داريا وباقي البلدات في جميع انحاء البلاد، لا يمكن ان تقدم الحماية للمجتمع المسيحي، كما لم يعد الآلاف من الأطفال السوريين قادرين على الالتحاق بالمدارس، والكثيرون يواجهون المجاعة بسبب سياسة الأسد التي تنتهج "الركوع أو الجوع"، كل هذا لا يقدم أي راحة بال لمسيحي سورية.
ويواصل الكهنة المسيحيون حتى يومنا هذا تحدي النظام عن طريق تهريب المواد الغذائية إلى الأحياء المحاصرة للمسلمين سراً، وفي هذا مخاطرة بحياتهم، لكن الكتاب المقدس يقول لنا: "إذا كان عدوك جائعاً فأطعمه، وإن كان عطشانَ فاسقه، ولا تغالب الشر بالشر"، وهذا المبدأ هو ما يشكل تهديداً للأسد ولتنظيم الدولة الإسلامية وهو اقوى من أي سلاح من صنع الإنسان.
إن نظام الأسد والكرملين يستخدمان ظل اتفاق الأعمال العدائية لتجديد الهجمات ضد مدينة داريا، وفي مؤتمر صحفي ادعت وزارة الدفاع الروسية أنها ضربت أهدافاً للقاعدة هناك، أهداف لا نعرف لها وجود حتى، فالضربات الجوية والبرية الروسية هي محاولة واضحة للاستيلاء على الأرض، بينما يركن بقية العالم إلى قبول أجوف بوقف إطلاق للنار ظاهري لا قيمة له.
وعلى الرغم من الانخفاض العام في العنف في سوريا منذ بداية وقف الأعمال العدائية، لا يزال الأسد يقصف البلاد بالبراميل المتفجرة، وفي هذا الأسبوع ذكر المجلس المحلي في داريا، أن دبابات النظام التي تحاصر المدينة، تبدو على استعداد لشن هجوم بري قريب على المدينة، وعلى الرغم من هذا التهديد، استفاد سكان داريا من الهدوء النسبي لتنظيم مظاهرات سلمية ومهرجان للأطفال.
هذه المظاهرات عادت وعمت أرجاء البلاد -بعد ما يقرب من خمس سنوات من الحرب، وكانت فترة راحة قصيرة من الهجمات العشوائية والقصف- كافية ليعود الناس إلى الشوارع للتظاهر السلمي، ملتزمين بمطالبهم بالتحرر من الاستبداد بكل أشكاله.
ولذلك، إن بقي الأسد مستمراً في قمع المعارضة السلمية ومعاملتها على أنها "إرهاب" -فأنا شخصياً سأتهم من قبل محكمة الإرهاب التابعة للنظام– وستكونون متأكدين أن أجراس الكنائس في داريا لن تقرع مرة أخرى.