بلدي نيوز – (أيمن محمد)
تعتبر مسألة "هيئة تحرير الشام" من أكبر العقبات التي تواجه أطراف الصراع في المناطق المحررة شمال سوريا، باعتبارها سليلة "جبهة النصرة" المصنفة على لوائح الإرهاب.
وعلى الرغم من التحالف الذي كان قائما بين فصائل المعارضة في المناطق المحررة على مدار سنيّ الثورة رغم تباينها في الاتجاه والهدف، إلا أن التصدعات تعاظم ظهورها منذ اتفاقيات آستانا، التي قطعت الطريق أمام قيام أي تحالف فصائلي، كشفت عن ذلك المواجهات العنيفة التي حدثت داخل معسكر "الإخوة المتحاربين" في محافظة إدلب، يحرك الصراع بينهم نوازع خارجية، مشفوعة برغبة كل فصيل على حدة في السيطرة على المنطقة المحررة، ثم استكمال الانقضاض على باقي المناطق المحررة، لكن موانع البلع المنفرد للمنطقة، جعل "هيئة تحرير الشام" تعمل على إيجاد حلفاء جدد داخل الفصائل المتشرذمة كخطوة تسبق الانفجار الكبير، فكانت النتيجة ولادة كيانين متنافرين في الشمال السوري، وعمل كل منهما على التخلص من الآخر، كي لا يكون عقبة أمام طموحه، لذلك جاء الخطاب الإعلامي في اتجاه التصعيد كمحفز للصراع في منطقة فقيرة الموارد، فيما تتحكم فصائل أخرى بالمعابر حيث الثروات، مما يجعلها تستأثر بالنفوذ.
وفي هذا السياق، تمكنت "هيئة تحرير الشام" من السيطرة على معبر باب الهوى الرئيسي، وكل المعابر الفرعية على الحدود مع تركيا في محافظة إدلب، بعد اقتتال اتشح بالدم على مدار عامين ضد "حركة أحرار الشام" أقوى فصائل المعارضة لتتقلص مساحة نفوذها في "جبل شحشبو، والقسم الجنوبي من منطقة الغاب والتي -استولت عليها الهيئة في الحرب الجارية- فيما انصرف نظام الأسد ومن يسانده من ميليشيات شيعية بغطاء جوي روسي في متابعة القضم التدريجي للمناطق المحررة، دون أن تقدم الفصائل أي معوّق لتقدم القوى المعادية سوى تنفيذ اتفاقية آستانا التي أزاحتهم من رقعة جغرافية واسعة في محافظة إدلب إلى المناطق المرسومة في خرائطها ضمن النفوذ التركي.
من هنا، حسمت فصائل المعارضة وفي مقدمتها "هيئة تحرير الشام" وجهة الصراع بالقبول بما تبقى لديها من منطقة خارج نفوذ سيطرة الأسد، بمعنى القبول بالأمر الواقع وفق اتفاقيات إقليمية ودولية ترتب الجغرافية السورية، ومع انطفاء جذوة الصراع مع الخصم اللدود، تحوّلت وجهته داخل الكيان العسكري الفصائلي على شكل تجاذبات سياسية مؤدلجة إيذانا بمعركة عسكرية لاحقا، أي تصعيد الصراع داخل أجنحة معسكر "الإخوة" في مواجهة بنيتها التنظيمية ليأخذ الصراع شكلا جديدا، تمثّل أخيرا باقتلاع حركة نور الدين الزنكي الفصيل المتمرد على "آستانا"، ولم يلبث أن انفسخ العقد بين الزنكي والهيئة، في صراع مفتوح أودى بمقتلة كبرى بين الطرفين راح ضحيتها "1000" مقاتل من الطرفين غالبيتهم من عناصر الهيئة.
لا يمكن تبرئة الأطراف الخارجية الفاعلة المتحكمة إلى حدّ ما بما تبقى من فصائل المعارضة داخل المنطقة الشمالية الغربية المحررة كونها تملك القدرة على إغلاق أو فتح ملف الصراع البيني، ولها سوابق في ذلك، فعندما استشعرت تركيا أن حليفها الروسي يضع إدلب ضمن دائرة سوداء، ويحاول توظيف قضية "الحرب على الإرهاب"، والدفع بالمنطقة إلى حرب مفتوحة، وكان على وشك إعلان الحرب على إدلب استبقت أنقرة احتمالات التدخل الروسي في ادلب باعتبارها تقع ضمن مناطق نفوذها في آستانا، وهذا ما تجسد فعليا بتوزيع مناطق النفوذ بما يخدم مصالح الثلاثي الروسي والإيراني والتركي، ليأتي اتفاق إدلب الأخير بين الرئيسين التركي أردوغان والروسي بوتين لترسيخ المحاصصة البينية في خضم تصاعد الصراع الإعلامي بين الولايات المتحدة وإيران. وكانت هيئة تحرير الشام من أكثر الفصائل تنظيما والتزاما بتطبيق القرارات الصادرة عن اتفاق بوتين – أردوغان من خلال تنفيذ البند الأول المتعلق بنزع الأسلحة الثقيلة من المنطقة العازلة، فيما تأخر تنفيذ البند المتعلق بفتح الطرق الدولية والمعابر، وبعد الاستتباب النسبي في المناطق المحررة بدت "هيئة تحرير الشام" تسعى بضوء أخضر لحسم الصراع لصالحها، عبر إزاحة بعض الفصائل الصغيرة وملاحقتها والضغط عليها بشتى الطرق، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى تكرست قوة الهيئة في المنطقة المحررة، وراحت تعمل على تقوية موقفها عسكريا واقتصاديا في المنطقة التي تشهد تنافسًا شديدًا في السيطرة على المعابر، سواء مع الجانب التركي أو مع مناطق نفوذ نظام الأسد، لإيجاد مصادر تمويل بديلة. ولكن "الهيئة" أدركت أن من يملك نفوذاً وحضوراً قويين على الأرض ستكون له كلمة في رسم مستقبل إدلب وما حولها، لذلك أبدت تعاونا كبيرا مع الجانب التركي وخاصة في حماية مناطق المراقبة التركية، ولم يكن مثيرا أو مفاجئا خطوة الهيئة الأخيرة في اقتلاعها حركة نور الدين الزنكي والسيطرة على جميع معاقلها والمعابر التي تتحكم بها سواء مع نظام الأسد عبر معبر المنصورة، أو معبر الغزاوية مع درع الفرات، مما يدلل على توافقات بمنح الهيئة حماية الطرق الدولية المشار إليها في بنود اتفاق ادلب، لذلك سارعت الهيئة بعد بلع الزنكي بالاتجاه إلى "معرة النعمان" الواقعة على طريق حلب دمشق، كما أحكمت سيطرتها على الأطراف الشمالية لمنطقة الغاب الملاصقة للطريق الدولي حلب اللاذقية، وتمكنت من فرض الاستسلام على بقايا حركة أحرار الشام في تلك المنطقة، فيما تجري مفاوضات مع أهالي معرة النعمان لتسليم المدينة بعد تهديدها بالاقتحام في حال الرفض، ولم يتبق أمام الهيئة سوى جيب صغير يقع تحت نفوذ صقور الشام وهو الهدف الأخير للهيئة.
في الآفاق المنظورة لتداعيات سيطرة الهيئة على معظم المناطق المحررة في الشمال الغربي من سوريا، ثمة ما يشير إلى أن براغماتية الهيئة تدفعها إلى دعم مركزها السياسي من خلال فرض نفسها كرقم مهم في هذه المنطقة، ولكن ذلك لا يتأتى مجانا في منطقة تعج بالمتصارعين.
من هنا فإن سعي الهيئة إلى نفي تهمة الإرهاب عنها ستقترن في الأيام القليلة المقبلة بإطلاق معركة قاصمة ضد "التنظيمات المتشددة" (حراس الدين)، بوصفها ورقة مضافة بعد القضاء على "الفصائل المشاغبة" لكسب ودّ القوى الفاعلة، وتبرئة ساحتها من التهم الموجهة إليها. هذه التطورات المتسارعة، تأتي في إطار تنفيذ مقررات اتفاق ادلب واستئصال أي فصيل معارض يحاول الخروج عن اتفاق أستانا.
ختاما، يبدو أن أطراف الصراع اعتمدت استراتيجية ترحيل الحرب على الإرهاب في محافظة ادلب لأجل غير مسمى لأن القيام بأي معركة مهما كان حجمها ستدفع ملايين السوريين للنزوح، مما يشكل تهديداً مباشراً على أمن تركيا والاتحاد الأوروبي معاً. لذلك كان لابد من طرف يفرض سيطرته بالإنابة، لتحقيق مصالحهم ريثما تواتيهم الفرصة للتفرغ لـ"هيئة تحرير الشام" في الشمال السوري.