بلدي نيوز-(المحرر العسكري- راني جابر)
تثبّت القوات الأمريكية قدميها في الشمال السوري، راسمة جغرافية جديدة مستفيدة من دروس حروبها السابقة، ومستثمرة في القوى "المحلية" من الميليشيات المختلفة، التي أعلنت الحرب على التاريخ والجغرافية والواقع، وترسم اليوم تاريخاً وجغرافية جديدين بدعم القوى الكبرى في العالم.
القوات الامريكية التي انتشرت شمالاً حالياً، وبنت عدة مطارات وقواعد عسكرية متعددة الأغراض، يوجد عدة أسباب لانتشارها بهذا الشكل، ليس أولها مراقبة تركيا (العملاق الصاعد) عن كثب، فهي تمثل تهديداً عقائدياً يتفاقم يوماً بعد يوم.
السبب الثاني لانتشار هذه القوات، هو الرغبة الإسرائيلية-الأمريكية بمراقبة النشاط الإيراني في سوريا عن كثب، بسبب عدم ثقتهم بالميليشيات الكردية التي تمتلك تحالفات مع جميع القوى المؤثرة في المنطقة، ولا مانع لديها في تبديل ولائها بسرعة البرق لمن يدعم أكثر، ما يفسر الوجود الأمريكي المؤثر في المنطقة، والذي يبرر بالرغبة بمراقبة نشاط هذه الميليشيات قبل كل شيء، وعلاقاتها مع القوى في المنطقة وضبط عملها بالشكل المطلوب.
قطع الشريان
كان الإيرانيون يعملون خلال السنوات الماضية لإنشاء الخط البري بين إيران والساحل السوري، والذي يبدو لوهلة أنه نجح بعد تقدم النظام شرقي حلب، ووصله لأجزاء غربي الفرات بشرقها بمساعدة الميليشيات الكردية.
لكن تلك ليست كل الحكاية، فالأمريكان هم القوة الأولى في الشمال السوري الآن، والروس ليسوا سوى زوبعة في فنجان، فهم لا يستطيعون فعل أي شيء بدون موافقة الأمريكان في سوريا، وهم لا يستطيعون تجاوز الخطوط الحمر الأمريكية، بل إنهم لا يستطيعون الاستمرار في دعم الأسد بدون الموافقة الأمريكية، وليس "سلوفودان ميلوزوفيتش" ببعيد، والذي تربطه بروسيا صلات العرق والدين والجغرافية والتاريخ، ومع ذلك لم تستطع روسيا فعل أي شيء لمنع سقوط نظامه، على الرغم من الدعم الغير مباشر الذي قدمته له، لكنه لم يكن دعماً بمثابة الرفض لما يفعله الغرب به، بل كان لا يتجاوز عملية رفع العتب، وأن روسيا (فعلت ما بوسعها)، ولعل سيناريو يوغوسلافيا السابقة يحدث اليوم في سوريا مع بعض الفروقات في التفاصيل.
السيطرة الأمريكية على الشمال السوري ينشأ عنها تحجيم القيمة الاستراتيجية للخط البري الذي تسعى إيران لاستثماره لتحقيق أجندتها العسكرية والطائفية، فالمراقبة والتحكم الأمريكي لهذا الخط، يجعل جميع خططها في المنطقة مكشوفة ومفهومة، ما يسمح للأمريكان بإحباطها عند الضرورة دفاعاً عن إسرائيل، التي تعتبر إيران منافستها في السيطرة على المنطقة، أما حديث المقاومة والممانعة فهو للاستهلاك الداخلي، وليس له قيمة حقيقية.
فلن تسمح أمريكا لإيران باستخدام هذا الطريق في أي خطط خارج المسموح لها به، وأي مخالفة لذلك سوف تفقدها امتيازاتها بشكل مباشر وفوري، وقد تفقد قدرتها على استخدام الطريق بشكل مؤقت أو دائم.
بعد ضربة الشعيرات، بدأت تطفوا للسطح بوادر عملية أردنية في الجنوب السوري، وضعت لها أهداف محددة تتحدث عن الدفاع عن الأردن في وجه التنظيمات المختلفة شمال المملكة.
فالعملية الأردنية التي ستحدث جنوب سوريا، يمكن القول أن حدودها هو طريق التنف-دمشق، ولا يبدو أنها سوف تتجاوزه شمالاً لأكثر من اعتبار، والسيطرة على هذا الطريق من قبل أمريكا التي سوف تكون موجودة في المنطقة التي سوف يدخلها الاردن مع الفصائل المدعومة أمريكيا، وصولاً إلى محور التنف دمشق، يعني أن إيران خسرت كذلك الطريق البديل الذي كانت تسعى لاستخدامه كبديل عن الطريق الشمالي المار في مناطق الميليشيات الانفصالية الكردية.
السيطرة بهذا الشكل على التنف وما يليها من جهة الغرب والطريق باتجاه الضمير، تعني أن إيران ستكون محاصرة بين الميليشيات الكردية شمالاً والتي على الرغم من علاقاتها التاريخية مع الإيرانيين لكنها قد تنقلب عليهم في أية لحظة بطلب أمريكي (في حال وعدوهم بدعمهم في غربي إيران)، وخصوصاً في حال سقط النظام، والأردن والفصائل المشاركة في هذه العملية في الجنوب.
ما يجعل إيران مجبرة على اللجوء للطريق "الثالث" وهو طريق القائم دير الزور تدمر حمص (أو طريق البوكمال دمشق الصحراوي، والذي يجب للسيطرة عليه السيطرة على المدن القريبة منه)، ما يعني أن إيران ستكون مجبرة على الخوض في العمليات العسكرية الأكثر مرارة وإيلاماً في الحرب ضد التنظيم شرقي سوريا، في حال قررت الحفاظ على مكتسباتها في سوريا، ما يعني أن الميليشيات الشيعية سوف تضطر للدخول في معركة البوكمال وديرالزور القادمة، مروراً بمعارك عدة في الريف الشرقي لديرالزور، يمكن القول أنها أكثر صعوبة من معارك العراق، فهي ستكون معارك متقاربة ضمن بيئة جغرافية وعمرانية مناسبة للدفاع، وسيكون التنظيم قادراً على الدفاع لفترة طويلة قد تمتد لسنوات، في حال قرر القتال، ما يعني أن الوصول إلى تدمر عبر مناطق التنظيم، قد يكون آخر أعمال إيران كقوة في المنطقة، ولا نستغرب وصولها لمرحلة مزرية من الضعف بعد تلك المعارك، خصوصاً أنها ستكون معارك استنزاف طويلة الأمد، تستهلك قوتها البشرية والمالية، وتشغلها حتى يحدث تجهيز لجملة مشاريع في المنطقة تجعل من النفوذ الإيراني مجرد وهم أو سراب يتلاشى مع الاقتراب منه أكثر وأكثر.
الضربة الكبرى.. منطقة عازلة ضد إيران
نظام الأسد بعد أخبار العملية الأردنية ليس في أحسن أحواله، فمفرزات هذه العملية ستكون تعرضه للإزالة، أو على الأقل تغيير المهمات من حماية الحدود الشمالية لإسرائيل، وضرب الدول العربية والإسلامية الناشئة والتي تسعى للتطور من باكستان وصولاً إلى الصحراء الغربية، إلى مهمة مختلفة تتمثل في استنزاف التنظيمات الجهادية واختراقها.
فهو بموجب هذه العملية قد يخسر الحدود التي تصله جغرافياً بإسرائيل، وقد يحصل تحول حقيقي يتسبب في خسارة النظام لمهمته، ما يعني أنه قد يخسر وجوده بسبب عدم وجود داعي له، ما قد يعتبر مقدمة لإسقاط الأسد دولياً، وإعادة توليد نظام جديد بديل عن نظامه، يحكم سوريا أو أجزاء منها، ما يسمح له بالحفاظ على المقومات العسكرية والأمنية التي يمتلكها، والحفاظ على قسم من المهام التي كان يعمل عليها خلال العقدين الماضيين ويستمر فيها بشكل مركز، وخصوصاً موضوع اختراق التنظيمات الجهادية وارتكاب الجرائم باسمها.
فبمجرد إجبار قواته وعناصره والميليشيات الشيعية المختلفة التي ترافقها على الانسحاب من درعا والسويداء والقنيطرة، فسوف ينشاً عن ذلك حزام أمني عازل يحكمه الأردن فعلياً، عمقه يتجاوز 40 كم وبعرض أكثر من 200 كم، ويوجد فيه قوة كبيرة ومؤهلة للسيطرة عليه بشكل جيد، وهي قوة محلية خالصة، مطعمة بقيادات أردنية وربما من التحالف الدولي، ما يعني أن هذه القوات المحلية قد تكتسب شرعية قانونية ودولية سريعاً، وقد تحل بشكل رسمي وقانوني محل قوات الأسد في المنطقة وتخرجها منه بشكل نهائي.
ما هي انعكاسات ذلك على النظام؟
يمكن القول أن أكبر كوابيس الأسد تتحقق، فإسرائيل تنظر بعين الارتياح للعملية القادمة في الجنوب، خصوصاً أن النظام فقد السيطرة بشكل شبه كلي، وقد تتحول ترسانته العسكرية المختلفة وبخاصة مخلفات الاسلحة الكيماوية والباليستية التي يمتلكها إلى الميليشيات الشيعية، التي تعمل بإمرة إيران، التي قد ترتكب العديد من الأعمال ضد المناطق الشمالية من إسرائيل، وبخاصة الحملات الصاروخية أو العمليات المشابهة لعملية 2006 في لبنان، التي نفذها حزب الله ودفع ثمنا غالياً بخسائر تتجاوز 1500 عنصراً من قواته حسب بعض المصادر، وتدمير الضاحية الجنوبية معقله، والكثير من الأمور التي حجمت قدرته على أي عمل ضدها إلى الأبد، منها قوات اليونيفيل، التي تعد عليه أنفاسه في لبنان، ومعرفته لحجم الضرر الذي تستطيع إسرائيل إلحاقه به في حال قرر القيام بأي "مغامرة".
فإسرائيل تدعم هذه العملية، فهي تسعى لتأمين حدودها الشمالية، والعمل على منع إيران من الوصول إليها، وإزالة أي نقاط تماس بينهما، وربما حصرها في الجنوب اللبناني الذي تستطيع إسرائيل المناورة فيه بحرية.
ما يفسر الضربات الإسرائيلية المتعددة التي ضربت الميليشيات الشيعية وحزب الله والنظام مؤخراً جنوبي سوريا، والتي تعتبر بمثابة إنذار لهذه القوات بالإخلاء، خصوصاً أنها تدرك أنها لا حول لها ولا قوة في مواجهة إسرائيل.
خلاصة القول، بمجرد البدء في التنفيذ الحقيقي للعملية الأردنية، فسوف نشاهد تغيراً حقيقياً ودراماتيكيا في وضع نظام الأسد، وقد يحل فعلياً تغيير لقمة الهرم، مع الإبقاء على الأذرع العسكرية والأمنية سليمة، وتبديل مهامها باتجاه الجهاديين والتركيز عليهم، والبدء بتقسيم سوريا فعلياً وليس مجرد فدرلتها.