بلدي نيوز - (تركي المصطفى)
مقدمة
مثّل ريف حماة الشمالي مصدر تهديد مستمر لنظام الأسد طوال السنوات الماضية، بوصفه منطقة مناوئة له وسط جغرافيا توالي فصائل الثورة مذهبياً وإثنياً، مع ما تمثله هذه المنطقة من قيمة عسكرية في الاستراتيجية الهجومية ضد ميليشيات الأسد، وكذلك في الاستراتيجية الدفاعية التي تتيح التصدّي لتقدم الميليشيات الروسية والإيرانية تحت غطاء "قوات الأسد"، كما يجري الآن في المعارك الناشبة في منطقة سكيك شرق خان شيخون، حيث ميليشيات "حزب الله" اللبناني التي تحارب مع ميليشيات إيرانية وأفغانية وعراقية.
مع بدء اجتياحهم ريف حماة الشمالي في مايو/أيار الماضي، انتهج الروس استراتيجية هجومية دفعت بالآلاف من المقاتلين الطائفيين والأسلحة النوعية الثقيلة التي كانت في عهدة وحدات الجيش الروسي المتمركزة في بلدات كرناز وبريديج وحيالين، وبالأخص "الوحدات الخاصة الروسية"، ولم تقتصر هذه الاستراتيجية على العمليات البرية فحسب، بل شملت الغارات الجوية والبحرية، ومن ذلك؛ الغارات على مجمل قرى ريفي إدلب الجنوبي وحماة الشمالي، فأحدثت دماراً هائلاً في البنى التحتية فضلاً عن استهداف المدنيين الأبرياء من شيوخ ونساء وأطفال، وتذكرنا هذه العمليات بضربات الطيران الروسي لمدينة حلب وريفها الجنوبي وكذلك لكل مناطق خفض التصعيد.
يمكن القول الآن إن روسيا ومعها نظام الأسد، بعد خمس سنوات من إخفاقها في إيجاد موطئ قدم راسخة في ريف حماة الشمالي، تمكّنت بالمواجهات المسلحة ضد فصائل الثورة من السيطرة على مساحة واسعة إلى حدّ ما في هذه المنطقة، ولم يعد هناك ما تخشاه من أي تهديد على مناطق العمق العلوي في ريف حماة الغربي.
هذه الورقة تبرز موقع ودور منطقة ريف حماة الشمالي في استراتيجية روسيا في سوريا، من خلال تحديد طبيعة هذه الاستراتيجية، ومن ثم بيان موقع ريف حماة الشمالي ودوره في استراتيجية الدفاع والهجوم لدى فصائل الثورة المسلحة في المعارك الناشبة.
روسيا وإدارة العدوان
تنتهج روسيا بوصفها دولة الاحتلال الأقوى التي تتحكم فعليًّا في إدارة الحرب ضد فصائل الثورة، استراتيجية عامة لإدارة المعارك في ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، تتفرع إلى خطط لإدارة مختلف الجبهات بما في ذلك جبهة "الكبانة"، التي تركزت فيها المواجهات منذ اندلاعها في مايو/أيار الماضي، واتسعت دائرة المعارك تدريجيًّا لتمتد إلى بعض المناطق الأخرى في سكيك والتمانعة بريف إدلب الجنوبي الشرقي.
وتتمثل أبرز نقاط الاستراتيجية العامة لإدارة المعركة في إحكام السيطرة على مناطق ريف حماة الشمالي "كفر نبوذة وقلعة المضيق والجبين وتل ملح" كمرحلة أولى، ثم "اللطامنة وكفر زيتا" كمرحلة ثانية، لتأمين ما قبلها من القواعد العسكرية الروسية المنتشرة في ريف حماة الغربي من التهديدات المختلفة، ثم إحكام السيطرة على الشريط الواصل من كفر نبوذة غرباً، حتى خان شيخون شرقاً، بما في ذلك القرى والمزارع والتلال وصولا إلى استنزاف "فصائل الثورة" في جبهات متعددة "ريف حماة الشمالي وريف ادلب الجنوبي والجنوبي الشرقي وريف اللاذقية"، وفقًا لمبادئ الإنهاك والاستنزاف لإضعافها ماديًّا وبشريًّا في معظم الجبهات المشتعلة، لكن ما يجري في الحقيقة إنهاك لكافة الأطراف المتحاربة وبالأخص "القوات الخاصة الروسية وميليشيا الفيلق الخامس اقتحام" وكذلك ميليشيا "حزب الله" اللبناني الذي فقد العشرات من عناصره بين قتيل وجريح على محور سكيك وتلتها.
استراتيجية الفصائل
إزاء تقدم ميليشيات الأسد المدعومة من قبل روسيا، ابتداءً من كفر نبوذة حتى مشارف مدينة خان شيخون في إطار العملية العسكرية الجارية التي انطلقت مطلع الشهر الخامس، عمدت فصائل المعارضة إلى انتهاج "استراتيجية دفاعية إقليمية"، تشمل استخدام المفخخات والألغام الأرضية لدعم الدفاع عن النقاط الرئيسة المتمثلة بمدينة خان شيخون والسفوح الجنوبية لجبل شحشبو، وقد مثَّلت المفخخات أحد أبرز الأدوات التكتيكية الداعمة للاستراتيجية الدفاعية، وتجلت مظاهر تعزيز استراتيجية الدفاع في المحور الغربي لمدينة خان شيخون في تقوية التحصينات الدفاعية على أطراف المدينة وداخلها، وتقوية الخطوط الخلفية للقوات المدافعة عن المدينة، حيث عملت الفصائل خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة على مضاعفة أعداد الخنادق في مدينة خان شيخون، وفي اتجاه استراتيجية تطور العمليات البرية الهجومية والدفاعية في ريفي ادلب وحماة، تتجلى أبرز مظاهر تلك الاستراتيجية فيما يلي:
1- المحور الشرقي "سكيك - تل ترعي"
ظلّ ريف ادلب الجنوبي الشرقي منطقة ملتهبة خلال السنوات السبع الماضية، تتعرض أجزاء منه للكثير من الغارات الجوية والقصف المدفعي التي ينفذها مقاتلون طائفيون، وقد تطورت هذه العمليات كما ونوعا مع مطلع هذا الشهر. الملاحظ على هذه العملية بناء على توثيقها المباشر، أنها جبهة مشاغلة لتشتيت قوات فصائل الثورة مع تقدم الميليشيات الروسية في من المحور الغربي لمنطقة خان شيخون، بقصد الوصول إلى الطريق الدولي عند نقطة خان شيخون لتكون المدينة بين فكي كماشة الميليشيات.
ميليشيا "حزب الله" رأس الحربة الروسية
مع ما تحقق لروسيا من سيطرة على مساحة واسعة في المنطقة الواقعة بين كفرنبوذة وخان شيخون، استنجدت روسيا بميليشيات إيرانية لاستكمال احتلالها لريف حماة الشمالي، ولكن إيران لم توافق إلا بعد تحقيق شرطين للمشاركة في القتال، الأول: حماية قواعدها الرئيسية في ريف حلب الجنوبي من استهداف الطيران الإسرائيلي، والثاني عدم الاعتراض الروسي على إعادة انتشار قواتها في الجنوب السوري، فوافقت روسيا التي تعاني نقصا حاداً في ميليشياتها، فقامت بتسيير طائرة حربية لا تغادر أجواء ريف حلب الجنوبي تبدأ مهامها من مساء كل يوم ولغاية ساعات الصباح الأولى، فيما كشفت وسائل إعلامية إسرائيلية أن جيش الاحتلال يعيش حالة صدمة من انتشار مليشيات "حزب الله" اللبناني جنوبي سوريا، قرب الحدود مع الجولان المحتل بضوء أخضر من روسيا، وأفاد موقع "ديبكا" الاستخباري الإسرائيلي؛ إن حالة من "الصدمة" تنتاب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بعد أن سمحت القوات الروسية العاملة في سوريا لقوات تابعة لـ "الحرس الثوري" الإيراني بالعودة إلى مواقعها جنوبي سوريا على مقربة من الحدود مع "إسرائيل".
وبالعودة إلى هذا المحور، زجت إيران بناء على طلب روسيا بميليشيا "حزب الله" المصنف إرهابياً في المعارك الدائرة بريف إدلب، وذكر موقع "إيران إنسايدر" المختص بالشأن الإيراني: "إن الحرس الثوري الإيراني أوعز لميليشيا "حزب الله" اللبناني وميليشيا "فاطميون" الأفغانية بالمشاركة مع قوات النظام وروسيا في معارك إدلب وحماة (شمال غرب سوريا).
وأضاف الموقع، أن قادة من "الحرس الثوري" الإيراني أوعزوا للميليشيات الإيرانية التابعة لهم في سوريا بالمشاركة في معارك محافظة إدلب السورية والتي تحتضن قرابة 4 ملايين سوري بينهم مليون مهجر من مناطق سوريا مختلفة على مدار السنوات الماضية".
وأضاف الموقع، "أن رتلا للميليشيات الإيرانية تحرك من مطار "تي فور" بريف حمص باتجاه ريف حماة الشمالي، منوهاً إلى أن الرتل يضم آلات وأفراد من الحرس الثوري الإيراني وميليشيا "حزب الله" اللبناني، وميليشيا "فاطميون" الأفغانية"، وقد تمكنت ميليشيات "حزب الله" من التقدم شرق المدينة بعد سيطرتها على بلدة سكيك وتلتها، ثم محاولتها التقدم باتجاه تل ترعي جنوب بلدة التمانعة، قبل أن تتمكن الفصائل من صدها هناك وإجبارها على الانسحاب إلى داخل سكيك.
وفي حديث مع مراسل بلدي نيوز "شحود الجدوع " حول ما يدور من معارك على هذا المحور قال: "اتبعت فصائل الثورة على هذا المحور تكتيك الـ "كرٍّ والفرّ"ٍ تستهدف التنكيل بقوات العدو، لوضع ضغوط مختلفة على روسيا، حيث كشفت العملية العسكرية أن ميليشيات روسيا تعاني نقصا في الأفراد وتدنيًا في إدارة المعركة، لذلك يلجأ الروس إلى تكثيف الغارات الجوية التي تتجاوز في اليوم الواحد أكثر من 50 غارة جوية في منطقة سهلية مكشوفة، مما يدل على إدراك فصائل الثورة نقاط ضعف الميليشيات الروسية، وأضاف، "اتبعت الفصائل تكتيكاّ آخر تمثل بالمفخخات التي استهدفت بها تجمعات الميليشيات، حيث فجر عنصر من "هيئة تحرير الشام" يوم الخميس الماضي، سيارته المفخخة في تجمع للميليشيات ببلدة سكيك، فخلفت العملية عشرات القتلى والجرحى جلهم من ميليشيا "حزب الله" اللبناني، كما تمكنت من إسقاط طائرة حربية من نوع سوخوي 22 وأسر طيارها المقدم محمد أحمد سليمان".
وكانت فصائل "الفتح المبين" شنت هجوما معاكسا وتمكنت من خلاله استعادة السيطرة على عدة مناطق جنوب وشرق إدلب، وهي بلدة سكيك، قبل أن تعاود الميليشيات الطائفية التقدم إليها.
2ـ المحور الغربي "كفر نبوذة الهبيط"
كانت الميليشيات الروسية خلال الأيام الماضية قد حققت تقدماً بالغ الأهمية في ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي، وذلك بعد سيطرتها على بلدات الجبين وتل ملح ثم الزكاة والأربعين بريف حماة الشمالي، لتصل إلى تخوم مدينتي كفرزيتا واللطامنة، ثم سيطرت على بلدة الهبيط الاستراتيجية وكذلك تمكنت من السيطرة على قرى ومزارع كفر عين وتل عاس ومدايا وكفر طاب إلى الغرب من مدينة خان شيخون جنوب إدلب، حتى امتدت على شكل أفعى بشريط طوله "8 وعرضه 4 كم" رأسه بتل عاس وذيله بكفر نبوذة.
الاستراتيجية الدفاعية
تستمد الاستراتيجية الدفاعية لفصائل الثورة قوتها من قدرات المفخخات وصواريخ محلية الصنع التي لا تزال تقض مضاجع الميليشيات، وتجري المعارك وفق خطط قصيرة وظرفية تفرضها التطورات العسكرية على المحور الغربي، كما لا يمكن فصل القتال في هذا المحور عن ما يجري في المحور الشرقي لخان شيخون، بمعنى أن الصورة هنا وهناك تبدو على النمط التالي: تصعيد عسكري واندفاع للميليشيات لكسب مزيد من الأرض، يقابله تصعيد واستماتة للتشبث بالأرض أو استردادها من طرف الفصائل المقاتلة، ومَنْ رصد المواجهات الدائرة في المحور الغربي خلال مئة يوم أو تزيد، يلاحظ أن روسيا تتبع استراتيجية إراقة الدم والاستنزاف وهي استراتيجية معروفة في إدارة الحروب الدولية، وقد طبقتها روسيا في حرب الشيشان وتطبقها في المعارك الجارية الآن لجر الفصائل إلى مواجهة مفتوحة، ذات كلفة بشرية باهظة ما يتيح لروسيا التفوق على الفصائل المستنزفة.
أدركت فصائل الثورة الاستراتيجية الروسية واتبعت تكتيكا عسكريا متطورا، تمثل بتكثيف ضربات المدفعية على طول الشريط المحتل من كفر نبوذة ولغاية تل عاس لشلِّ قدرات الميليشيات الروسية، ومنعها من توسيع هذا الشريط كما اعتمدت على المفخخات لقمع أية محاولة للتجمع تهدف لشن هجوم مضاد كالمفخخة التي ضربت تجمعاتهم في قرية مدايا، وذكر مراسل بلدي نيوز "شحود الجدوع " أن فصائل الثورة استهدفت تجمعات الميليشيات الروسية في قرية مدايا بعملية استشهادية نفذت عبر عربة مفخخة"، وأشار المصدر إلى أن العملية أسفرت عن قتلى وجرحى من ميليشيات روسيا وسط حالة من التخبط إثر "العملية الاستشهادية" التي نفذها "أحد مقاتلي الهيئة" وسط جموعهم في مدايا. وبحسب المصدر؛ فإن الفصائل أحصت خلال اليومين الماضيين مقتل 40 عنصراً من الميليشيات الروسية بينهم ضباط، فيما بلغت أعداد جرحى الميليشيات أكثر من 100جريح بالإضافة إلى تدمير عشرات الآليات والمجنزرات"، كما اعتمدت الفصائل المقاتلة تكتيكاً آخر تمثل باستخدام تقنيات الأكمنة والإغارة على المواقع المنهكة، وبذلك تزداد فاعلية استراتيجية الدفاع والهجوم يوماً بعد آخر.
خلاصة
يرتبط دفاع الفصائل عن مدينة خان شيخون ارتباطًا وثيقًا بدحر الميليشيات الروسية والإيرانية عن المناطق التي احتلوها على المحورين الغربي والشرقي للمدينة المذكورة، ومنع الميليشيات من التوغل شمالاً باتجاه جبل شحشبو أو جنوباً باتجاه تلة الصياد، لذلك تستميت الفصائل في الدفاع والهجوم درءًا لمثل هذا التحول، حيث يعد احتلال خان شيخون تمهيدًا لاحتلال ما تبقى من مدن وقرى في ريف حماة الشمالي، وتحولها إلى معسكرات روسية وانحسار نفوذ الفصائل جغرافياً.
بعد هذا كله، لم يعد هنالك ما يبرّر للفصائل العسكرية وقوى الثورة السياسية التمسك باتفاقيات ترعاها روسيا وأحلافها، وقد انكشفت نواياهم تجاه منطقة خفض التصعيد، ولن يقر لروسيا قرار في سوريا.