بلدي نيوز- (تركي المصطفى)
مقدمة
على نحوٍ يجمع بين الهجوم والدفاع؛ تمثَّلت استراتيجية فصائل الثورة العسكرية في المعارك الدائرة على أطراف منطقة خفض التصعيد، لكن مع اقتراب دخول المعارك شهرها الثالث، لوحظ التركيز المتزايد للطابع الهجومي في استراتيجية الفصائل العسكرية، لاسيما في عملياتهم العسكرية الجارية بريفي حماة واللاذقية، لمنع أي إخلال بميزان التفوق في تلك المناطق ووأد أي محاولة قضم جديدة لمناطق أخرى من طرف الميليشيات الروسية. وأمام استمرار المعارك؛ طرأت تغيرات على نمط القتال وخططه وإمكانياته ومواقف الأطراف في التحالفات والتكتلات، وبالأخص الموقفين التركي والإيراني، وظلت هذه المعارك المتصاعدة مثار جدل حول تعثر الروس فيها، وما تشكله تبدلات ميادين القتال من قوة دفع لعجلة الصراع، هنا تجدر الإشارة إلى أن من بين ما ركز عليه الروس ونظام الأسد، محاولة إحكام قبضتهم على ريف حماة الغربي وسعيهم في المعركة الجارية لإخضاع سهل الغاب كمرحلة أولى، والتمدد باتجاه جبلي شحشبو والزاوية بوصفهما ثقلاً جغرافياً وسكانياً، ومركزاً للحراك الثوري الرافض لنظام الأسد ومحاليفه من الروس والإيرانيين.
وبالنظر إلى استراتيجية روسيا الخادعة وفشلها في إحداث ثغرات واسعة على الجبهات وعجزها عن مواجهة التحولات الداخلية والإقليمية؛ فقد ركزت بشكل كبير للترويج عن لقاء ثلاثي مرتقب لمثلث آستانا، قد ينتج عنه الإعلان عن ولادة اللجنة الدستورية مصحوبة بهدنة طويلة الأجل للبدء بتسوية سياسية بالاتفاق مع الولايات المتحدة.
من هذا المنطلق، تناقش الورقة الاستراتيجية العسكرية لفصائل الثورة المسلحة خلال مراحل المعركة الجارية والتطورات المتصلة بها، وما طرأ عليها من تحولات سياسية محلية وإقليمية ودولية وتأثيراتها المتوقعة في مسار الصراع.
روسيا والاستراتيجية الأكثر عدوانية
تجلت الاستراتيجية الروسية بشكل أوضح مع استمرار العدوان الجاري الذي شنته روسيا ضد منطقة خفض التصعيد الرابعة، في الأول من مايو/ أيار الماضي، حيث تبين أن لدى موسكو في المعركة الجارية ثلاث مهام مركزية تتمثل أولاً بـ: سحق المعارضة السورية المسلحة بكافة أطيافها وتياراتها بأي شكل كان، ثانياً: السيطرة على كل المواقع ذات القيمة الاستراتيجية في منطقة خفض التصعيد الرابعة عبر قضم سهل الغاب والسفح الغربي لكل من جبلي شحشبو والزاوية، وكذلك ما تبقى من مناطق محررة في منطقة الطار بريف حماة الشمالي والغربي، وثالثا: تطوير وتعزيز ميليشيا الفيلق الخامس الذي تشرف عليه وتدربه، فضلاً عن تسخير الطيران بكافة أشكاله للتمهيد أمام تلك الميليشيات، وذلك لتحقيق التالي:
ـ الضغط على المعارضة المسلحة لفرض شروط تفاوضية بمنأى عن القرارات الدولية، تكون أساسًا لتسوية سياسية تضمن بقاء روسيا كقوة احتلال في البلاد.
ـ تعزيز موقف حلفاء روسيا الذين يتعرضون لتهديد اقتصادي أميركي تؤيده أطراف دولية وإقليمية.
ـ الظهور كقوة دولية يصعب التغلب عليها عسكريًّا للتأثير في الموقف الإقليمي والدولي، وفرض الحل السياسي في سوريا وفقًا لوجهة نظرها.
ـ رفع معنويات ميليشياتها المنهارة والتي راحت تتآكل مع طول أمد المعارك الجارية.
من هنا؛ تصرّ روسيا على خوض حربٍ طاحنة ولو كانت كلفتها مقتل كل ميليشيات المرتزقة التابعة لها، وذلك بحسب ما كشفت عنه نتائج المعارك في ريفي اللاذقية وحماة التي قضت على المئات من الميليشيات الروسية وتلك التابعة لنظام الأسد، حيث تمكنت فصائل الثورة مع بدء العمليات العسكرية في ريفي حماة واللاذقية، أوائل شهر أيار/ مايو الماضي، عبر معارك متعددة من دحر أكبر عدوان للروس استعدوا له تخطيطا وتمويلا وتنفيذا، لكونه أحد أهم المعارك الحاسمة في الحرب ضد الشعب السوري المناهض لنظام الأسد، انطلاقا مما يقدمه الروس من إمكانيات استراتيجية وعسكرية تكتيكية، فيما كانت استراتيجية فصائل الثورة ترتكز على استهداف المعقل الجغرافي والطائفي والسياسي والعسكري للروس ولنظام الأسد، الأمر الذي أفشل التكتيك العسكري الروسي وسهل عمل مجموعات الاقتحام في تحقيق أهدافها من خلال تشتيت قوات العدو، كان أكثرها إيلاما تلك العمليات التي استهدفت الميليشيات الروسية في تل الحماميات بريف حماة الشمالي، والهجمات بالصواريخ قصيرة المدى على المعسكرات الروسية القريبة من مناطق سيطرة فصائل الثورة، فضلاً عن تثبيت مواقعها وتحصينها في تل ملح والجبين، أي استمرار السيطرة على الطريق الاستراتيجي الرابط بين السقيلبية وحماة، والتي باتت تتحكم من خلالها بمنطقة جغرافية واسعة تتوغل فيها بين الحين والآخر، وأتاحت المجال أمام تشكيلات أخرى للتقدم على عدة محاور مع تسارع انهيارات عنيفة في صفوف الميليشيات الروسية وتلك التابعة للنظام، كما حدث أخيرا في تلة الحماميات.
فصائل المعارضة المسلحة واستراتيجية الردع
مثَّلت الاستراتيجية الروسية العدوانية امتدادًا لاستراتيجية إخضاع مناطق خفض التصعيد، خصوصًا معارك شرق السكة والجنوب السوري وغوطة دمشق، التي دامت بمجموعها مالا يتجاوز ثلاثة أشهر، وأفضت إلى تسليم تلك المنطقة لنظام الأسد للانتقام من كل المعارضين والثائرين عليه، والانتقال بعد ذلك نحو آخر مناطق خفض التصعيد للسيطرة عليها، استكمالا لاستراتيجية القضم التي أغرت موسكو فاقتفت أثرها.
وبعد أن عطلت روسيا اتفاق سوتشي وأطلقت عملياتها العسكرية العدوانية قبل شهرين ونيف، اتخذت فصائل المعارضة المسلحة مسارين استراتيجيين لإدارة المواجهة المسلحة ضد الروس: تعزيز الاستراتيجية الدفاعية في ريفي اللاذقية وحماة، وتبني استراتيجية هجومية تجاه مناطق في عمق نفوذ نظام الأسد، يشكل بعضها مصادر تهديد للروس، مع مضاعفة الطابع الهجومي في العمليات المنفذة في جبل التركمان ومنطقة الطار الغربي في ريف حماة.
اللافت للانتباه هو تطور قدرات فصائل المعارضة في مجال استخدام الطائرات المسيَّرة كعامل دعم لاستراتيجيتهم الراهنة في استهداف المواقع العسكرية الروسية وتلك التابعة لنظام الأسد، وظهرت بشكل جلي في معركة تل الحماميات، إلى ذلك تستمد الاستراتيجية الهجومية للفصائل قوتها من قدرات الصواريخ التي لا تزال تقض مضاجع الروس، حيث باتت القواعد العسكرية الروسية هدفاً لهذه الصواريخ، والعامل الاستراتيجي المساعد لاستمرار صمود فصائل المعارضة المسلحة في وجه العدوان الروسي ما تقدمه الحاضنة الشعبية من إمكانيات مالية لازمة لتوفير القوى والوسائل العسكرية، وما تجنيه تلك الفصائل من أنشطة تجارية وخدمية ومن العائدات الجمركية التي يجري تحصيلها في المعابر البرية بين بعض المناطق، ذلك خفف من أعباء المعركة بعد توجيه جانب منها لدعم العمليات الهجومية في جبهات ريفي اللاذقية وحماة، فيما تستميت فصائل المعارضة والحاضنة الشعبية في الدفاع عن مناطقها دفعاً لمصير مناطق خفض التصعيد التي يعيث فيها نظام الأسد قتلاً وتدميراً وخراباً.
تسوية خادعة
صمود فصائل المعارضة المسلحة في وجه العدوان الروسي وتكبيده خسائر مادية ومعنوية بكلف عالية، جعل تلك الفصائل تفرض نفسها كشريك في أي تسويات قادمة بين المعارضة وسلطة الأمر الواقع المتمثلة بنظام الأسد، سواء باللجوء إلى خيار القوة أو خيار السلام، حيث تشير التحركات السياسية الإقليمية والدولية إلى اتجاه التسوية السياسية وبدعم من الدولة التركية، التي تقتفي أثر سياستها المتبعة في سوريا خلال فترة العشرينات من القرن الماضي، سواء أثناء دعم ثورة إبراهيم هنانو في الشمال السوري (1919-1920)، أو من خلال دعم فصائل المعارضة في الصراع الراهن وتأكيد أنقرة المستمر على أهمية منطقة خفض التصعيد بالنسبة لها، والحفاظ على حدود ونقاط المراقبة فيها، والعمل على تسهيل إمداد نقاط المراقبة في جبل التركمان وسهل الغاب بالمعدّات والقوات اللازمة، من أجل الرد على أيّ انتهاكات محتملة قد يقوم بها نظام الأسد، إلى جانب دعم جهود المعارضة السورية في مواجهة الحملة العسكرية العنيفة في محافظة إدلب ومحيطها.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسن، صرح بعد زيارته الأخيرة لدمشق بالقول: "إننا قريبون جدا من إنشاء لجنة دستورية كباب للحل السياسي الشامل في سوريا"، ولفت إلى أنه تمت مناقشة الوضع في إدلب خلال الاجتماع، معرباً عن أمله في أن تكون هناك إعادة للاستقرار، وعودة سريعة للاتفاق الروسي-التركي، وانسياقاً مع هذا التوجه، تشير العمليات العسكرية الجارية في منطقة خفض التصعيد إلى السعي نحو ترسيخ حدود ما قبل مايو/ أيار، بصرف النظر عن الجلبة الإعلامية الروسية وتلك التابعة لنظام الأسد، التي تروج لاحتلال المنطقة، ولعل ما يبعث على هذا الاعتقاد، إيقاف تقدم الميليشيات الروسية على كافة الجبهات وتوغل الفصائل في عمق المناطق المحتلة كخطوة أخرى في إطار إسقاط خطط العدوان الروسي المتوقع، بعد تثبيت كل طرف في حدود ما قبل مايو/أيار الفائت، وإطلاق روسيا لعملية تسوية "خادعة"، وهي التي يقودها غير بيدرسن، وسيكون لذلك أثر تخديري بعد تبريد جبهات القتال مما يتيح للميليشيات الروسية مهاجمة هذه المناطق مجددا، ومحاولة التوغل شمالاً باتجاه مدينة إدلب، لا سيما أن ثمة ما يؤكد هذا المنحى أن روسيا لا تفي بالتزاماتها وتعهداتها، ولا شك أن هذا السيناريو أسوأ السيناريوهات وأقربها للاستراتيجية الروسية، وقد تلعب الأوضاع المتوترة بين الولايات المتحدة وإيران منعطفاً هاماً إزاء مختلف أطراف الصراع، لكن ذلك يتوقف على الموقف الروسي الأكثر ارتباكا من أي وقت مضى، وكان لافتاً في لقاء القدس قبل أسابيع أن الجانب الروسي سمع مطالب أميركا و"إسرائيل" بانسحاب إيران العسكري من سوريا، وخروج جميع القوات وعودة الوضع إلى ما كان عليه قبل 2011، لكن في الوقت نفسه حرص المسؤولون الروس على إرسال رسائل "طمأنة" لإيران ونفي حدوث "صفقات" على حسابها، ولوحظ أن "إسرائيل" شنت غارات على مواقع إيران في سوريا هي الأعنف منذ مايو /أيار الماضي، بعد أيام على اللقاء الثلاثي في القدس الغربية، حيث إن روسيا لم تشغل منظومة صواريخ "إس300" التي نشرتها في سوريا، واكتفت بحملة إعلامية ضد الغارات.
وبالنتيجة، أدركت روسيا عجز الميليشيات التي تدعمها على المواجهة العسكرية بعد أن تجاوزت خسائرها من القتلى والجرحى ثلاثة آلاف خلال سبعين يوما، يعتبر كارثة كبيرة على روسيا، مما سيفرض عليها تغييرا سياسيا مشفوعاً بهدنة جديدة خادعة قد تؤدي إلى توقف المعارك بشكلها الراهن، لكنها لن تكون نهاية للصراع.