بلدي نيوز- (تركي المصطفى)
تمهيد
تناقش هذه الورقة إعلان اعتراف الولايات المتحدة بسيادة "إسرائيل" على مرتفعات الجولان المحتلة، تحت مبررات مختلفة لا تتعارض مع الموقف الأميركي المعلن من عملية دعم "إسرائيل" منذ قيامها عام 1948م، وتماهي نظام الأسد ومن خلفه محور "الممانعة" مع القرار الأميركي، وتستعرض الورقة في سياق هذه المناقشة بعض الملامح التاريخية والديموغرافية لهضبة الجولان المحتلة، وتوضح الأهمية التي يمثلها الجولان بالنسبة لأطراف الحرب السورية في أبعادها المختلفة، وتطرح سؤالا مهما حول خطوة ترامب فيما إذا جاء الاعتراف الأميركي بسيادة "إسرائيل" النهائية على الجولان - بعد أن باعها الأسد الأب- بموافقة الأسد الوريث، مقابل إطلاق يده في قتل الشعب السوري بمختلف أنواع الأسلحة، كما تنظر الورقة في كيفية استغلال إيران الخطوة الأميركية لتشكيل حركة "مقاومة مزيقة" تبعد السوريين عن أية محاولة لإعادة الجولان ودخول المنطقة بدوامة جديدة من "المقاومة والممانعة" على شاكلة "حزب الله" اللبناني، وتختم الورقة برؤية معمقة عن مصير الجولان المحتل في ظل التجاذبات الدولية والإقليمية الراهنة.
مقدمة
ظلّت هضبة الجولان السوري طيلة نصف قرن من الاحتلال الإسرائيلي بعيدة عن خيار نظام الأسد في محاولة استعادتها، ما عدا حرب العام 1973م التي حرك بها الجيش لترسيخ سلطته ولإرضاء الرأي العام العربي الغاضب، وكل ما يمكن قوله باختصار؛ أنه بعد حرب تشرين التي وعد فيها الشعب العربي بتحرير الجولان وبطرد اليهود، قد انتهت تلك الحرب بأن استولت "إسرائيل" على أراض جديدة بالإضافة إلى الأرض السورية التي احتلتها عام 1967م، ومع إبرام الأسد الأب اتفاقية فك الاشتباك عام 1974م، فقد أقرّت من الناحية الواقعية شرعية الاحتلال لكل ما استولى عليه الجيش الإسرائيلي في حربي ( 1967- 1973)، وبطرد العرب السوريين أصحاب الأرض الشرعيين من الجولان بقوّة الإرهاب المسلح إلى الداخل السوري ليقيموا في مخيمات عشوائية تحيط بدمشق، ما جعل من الجولان دعامة اقتصادية رئيسة لـ "إسرائيل"، ورافدًا متنوع الموارد وبالأخص الموارد المائية، وبوابة استراتيجية تطل من خلال مرتفعات "جبل الشيخ" على العاصمة دمشق.
ولفت إعلان اعتراف الولايات المتحدة بسيادة "إسرائيل" على مرتفعات الجولان المحتلة مدى أهمية موقع ودور الجولان لدى قوى الصراع الدائر في تلك المنطقة، لما يتمتع به من ميزات وخصائص جيوبولوتيكية كثيرة، جعلت منه أخطر محاور الصراع السوري وملتقى أهم نقاط التحكم الاستراتيجي، كونه الشريط المحاذي لفلسطين المحتلة، والمتصل بجنوب لبنان الذي تسيطر عليه مليشيا "حزب الله"، وبوابة تدفق القوة العسكرية الفارسية باتجاه الحدود مع "إسرائيل"، في محاولة تطويقها بحزام فارسي ذي ثوب شيعي، وهذا ما جعله موضع تنافس وصراعات معقدة بين مختلف قوى الاحتلال والتسلط الإقليمي والدولي في إطار التخادم الإيراني – الإسرائيلي، لذلك نجد دولة مثل إيران تندفع إلى هذه المنطقة بشراهة واضحة، على اعتبار أن مصالحها تتجاوز مناطق نفوذها الحالي في كل من سورية والعراق ولبنان واليمن، في محاكاة للدول الكبرى بأن لها مصالح استراتيجية مع "إسرائيل" للمشاركة في حفظ الأمن الإقليمي وتسوية قضاياها العالقة دوليا، عبر أذرعها المذهبية والعنصرية السلالية الموالية لها في تلك المناطق، لتطويقها واجتياحها وهذا ما نفذته عمليا في مواجهة ثورات الربيع العربي.
من هنا؛ جاء بيان اعتراف ترامب بالجولان على خلفية التموضع العسكري الايراني سواء بالميليشيات التابعة لإيران كـ "حزب الله"، أو أنظمة الدفاع الجوي التي قامت بتثبيتها في تلول فاطمة والمناطق المشرفة على مرتفعات الجولان، وسبق ذلك الاعتراف؛ زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو لـ "إسرائيل" الذي أكد من خلالها على ضرورة دعم الوجود العسكري الاسرائيلي في الجولان المحتل، لمواجهة التواجد الايراني خاصة في جنوب سوريا، مع قوله لولا "التموقع العسكري الاسرائيلي في الجولان لكانت إيران اليوم في طبرية".
وفي ظرف تاريخي مشابه لما يجري اليوم في سوريا، لعب الجولان الدور الأكبر في ترسيخ دعائم النظام أثناء انقلاب حافظ الأسد على أقرانه عام 1970م، واستبداده بالسلطة التي أورثها لابنه عبر صفقة مع الولايات المتحدة و"إسرائيل" مقابل تخليه رسميا عن المطالبة بالجولان وإطلاق يده في تدمير سوريا أرضا وشعبا.
الأهمية الاستراتيجية لهضبة الجولان
هضبة سورية تتبع إداريا وبشكل جزئي محافظة القنيطرة، تقدر مساحتها الإجمالية بـ "2005" كيلومترا مربعا، احتلت إسرائيل ثلثيها (1336 كلم2) تقريبا في حرب يونيو/ حزيران 1967، واستكملت احتلال ما تبقى منها في حرب عام 1973.
تقع هضبة الجولان بين نهر اليرموك من الجنوب، وجبل الشيخ من الشمال، وإلى الغرب من سهول حوران وريف دمشق، وتطل على بحيرة طبرية ومرج الحولة، وتعتبر مدينة القنيطرة أهم مدينة في الهضبة التي تبعد خمسين كيلومترا إلى الغرب من مدينة دمشق.
وضع الاحتلال الإسرائيلي نقاطا عسكرية في أعلى مرتفعات الهضبة، أهمها المرصد العسكري في جبل الشيخ على ارتفاع 2224 مترا عن مستوى سطح البحر، كما أقام قاعدة عسكرية جنوب الجولان وفرت له عمقا دفاعيا، وبات مصدر تهديد لدمشق عبر محور القنيطرة دمشق وكذلك عبر محاور سهل حوران، وبنتيجة الاحتلال الإسرائيلي تمَّ تهجير ما يقرب من 100 ألف نسمة من أهالي الجولان، يسكن معظمهم في الأحياء العشوائية المحيطة بالعاصمة دمشق، فيما يتراوح عدد من بقي منهم في الجولان حوالي 25 ألف نسمة يعيشون في عدّة بلدات وقرى ومزارع، يخضعون لقانون الاحتلال الإسرائيلي الذي صدر من الكنيست، وشجعت "إسرائيل" اليهود على الاستيطان في الجولان حتى بلغ عددهم ما يقارب 18 ألف مستوطن يقيمون في حوالي أربعين مستوطنة، ويشكل اليهود الروس الأغلبية العظمى من المستوطنين فيها.
الصفقة المشبوهة.. من الأسد البائع إلى الوريث الحارس
لا جدال بأن نتائج احتلال "إسرائيل" لهضبة الجولان السوري بالتواطؤ مع حافظ الأسد، هي التي أوصلته إلى السلطة في سوريا، لتمدّه "إسرائيل" ومن خلفها الولايات المتحدة بأسباب الحياة والقوة العسكرية لاستمراره في الحكم، وما يثير الدهشة والاستغراب أن نظام الأسد المنهزم في كل حروبه مع "إسرائيل" بدلا من العمل على تحرير الجولان التفت إلى مهام أخرى مثل:
ـ احتلال لبنان للتخلص من الفلسطينيين في المخيمات ومنطقة الجنوب المحاذية لفلسطين المحتلة، فقتل من الفلسطينيين أضعاف ما قتله الإسرائيليون منهم على مدار سنوات الصراع، كما تخلص من الحركة الوطنية اللبنانية بالاغتيالات وبالنفي والتهجير.
ـ ضرب التضامن العربي بالتحالف مع دولة الملالي الإيرانية، وتشكيل محور ما يسمى "المقاومة والممانعة".
ـ سحق انتفاضة السوريين في ثمانينات القرن الماضي بوحشية بالغة، تزامنا مع إصدار "إسرائيل" قانون احتلال الجولان في 14 ديسمبر/كانون الأول 1981م.
وفي فصل جديد من مشهد الأحداث الدائرة في سورية، فإن الأسد الوريث بنظامه القائم على أسس طائفية عنصرية، واجه موجة الاحتجاجات الشعبية عام 2011م بوحشية غير مسبوقة، ورغم ذلك فقد خرجت غالبية سوريا عن نفوذه ولم يجد لبقائه رغم استخدامه الأسلحة المحرّمة دوليا سوى الاستجداء بإيران وروسيا، لمواجهة الثورة الشعبية التي أسقطته داخليا، فاجتاحت المجاميع الطائفية الشيعية معظم المناطق السورية واستبيح فيها كل محرّم من عرض ودم ومال، ولم تسلم من ذلك كل الحواضر السورية التي أبيحت لمقاتلي الشيعة مكافأة لهم، فيما تكفلت روسيا بتدمير المدن والبلدات والقرى على رؤوس أهلها، وبذلك تم قتل مليون سوري وتهجير أضعافهم، ومع ذلك فقد الأسد نفوذه على أغلب الأراضي السورية، ابتداء من مشارف الجولان المحتل الذي أصبح تحت سيطرة الميليشيات الإيرانية وفرق الحرس الثوري الايراني إلى منطقة الجزيرة السورية التي تحتلها الولايات المتحدة، وتسيطر على المنابع والحقول البترولية لتخرج عن سيطرته الممتلكات والثروات التي اغتصبها على مدار نصف قرن.
وأمام سوريا الممزقة والمدمرة، أعلنت روسيا و"إسرائيل" التوصل إلى مقترحات بشأن الجولان السوري المحتل، بعد لقاء وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدرو ليبرمان، ونظيره الروسي سيرغي شويغو في موسكو، وجرى التفاهم بين الطرفين على عدّة بنود من أهمها:
- إبعاد الميليشيات الإيرانية وراء محور دمشق – السويداء، مقابل عودة قوات النظام مبدئيا إلى ثلاث نقاط؛ "تل الحارة" في ريف درعا وهي أعلى هضبة ذات بعد عسكري، و"معبر نصيب" على حدود الأردن، ومنطقة "بصر الحرير" في ريف درعا.
- إحياء اتفاق فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل لعام 1974، الذي يتضمن منطقة محايدة، ومنطقة منزوعة السلاح، وأخرى محدودة السلاح يراقبها نحو 1200 عنصر من "قوات الأمم المتحدة لفك الاشتباك" (إندوف).
وبالنظر إلى تلك المقترحات؛ يمكننا إبراز موقع ودور الجولان في استراتيجيات قوى الصراع الدائر في تلك المنطقة، والدور الموكل للأسد الوريث القيام به لإدارة ملف الجولان من خلال ما يلي:
-إحكام نظام الأسد السيطرة على مناطق الحدود الشطرية للجولان المحتل، وتأمينها بتوافق إسرائيلي - روسي، باعتبار الأسد الأفضل بين أطراف الصراع لحماية الأمن الإسرائيلي.
-الدفع بفصائل المعارضة المسلحة المقيّدة إقليميا ودوليا، للقبول بالخطط الاستراتيجية الروسية لحلّ الصراع مناطقيا، ومن ثمّ الدفع بها إلى مركز النظام للانضواء تحت رايته.
- إبعاد الميليشيات الإيرانية من الجنوب السوري بحسب الرغبة الإسرائيلية، أو إعادة إنتاجها ضمن كيان عسكري جديد، وذلك بدمجها مع قوات الأسد بتوافق روسي - إيراني.
محور "إيران" والتلاعب بقضية الجولان
تؤكد شواهد التاريخ السياسي العسكري منذ ولادة محور "إيران"، أن حروبه بمجملها هدفها الاستيلاء على السلطة، أو استردادها بواسطة حروب عنيفة طويلة أو خاطفة، ترافقها حالات نهب وقتل ومصادرة الأملاك الخاصة، ويشترك في هذا النهج كل أطراف المحور الإيراني: "الملالي في إيران" و"حزب الله" في لبنان، و "الحوثي في اليمن"، ومن ذلك ما تعيش سوريا تفاصيل أحداثه في الوقت الراهن، وبالنظر إلى كل ما جرى ويجري من تحركات لهذا المحور، والتي جاءت بالتفاهم والتنسيق مع مراكز القرار الدولي، نجحت إيران هذا المحور في استثمار اتفاقها النووي مع الرئيس الأميركي الآفل "باراك أوباما"، واستغلت مع مرتزقتها ظروف التنافس الدولي بين "موسكو وواشنطن" لتعزيز نفوذها في المناطق التي استولت عليها، ورفد قدرات ميليشياتها العسكرية بالمقاتلين والأسلحة والإمدادات اللوجستية حتى باتت تسيطر على طول الحدود الشطرية بين لبنان وسورية المتصلة بفلسطين والجولان المحتلتين، في خطوة استكمال الحزام الشيعي الآمن حول حدود "إسرائيل" الساعية إلى تفاهم يفضي إلى حدود هادئة وسلام دائم، مع محور لا يعترف بالمواطن والإنسان أو بحقوقهما، ويستند في سلطته على قاعدة المتغلب، ويفتقد لدولة المؤسسات والقانون، وفوق ذلك يحكمه ملالي حولوه إلى ايديولوجية تشبه "إسرائيل" في جانبها الديني، عدا عن المغازلة الإيرانية التي وردت بتغريدة خامنئي وتراجعه المفاجئ عن وعده "بمحو إسرائيل من الخريطة"، ومطالبته "بأساليب ديموقراطيّة لحلّ النزاع بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين"، وهو أسلوب براغماتي رخيص يذكرنا بنهج سياسة المخاتلة الإيرانية المتلونة في عهد الخميني الذي تعاون في مراحل حربه ضد العراق مع "الشيطان الأكبر" و"إسرائيل" في الفضيحة الشهيرة "إيران-غيت".
من هنا؛ فنظام الملالي لا يقيم أي وزن للاعتبارات الأخلاقية والدينية التي يتشدق بها من ناحية القدس وتحريرها، أو الجولان السوري المحتل، فالمهم عند الإيرانيين الخروج من مأزقهم السوري والمواءمة بين الرؤية الروسية والإسرائيلية دون حرج لأحد الأطراف، ما دام الهدف البلاد العربية لا "إسرائيل"، التي قامت بدور أساسي في تسليح نظام الملالي في إيران، وكانت أقوى وأهم شريك لها في جهدها العسكري حتى الآن، ولا أدل على ذلك من فضيحة "إيران –غيت " المدوية التي انتشرت شظاياها في كل مكان وتبين أبطالها، وشهدوا حينها على الإعلام الغربي بتفاصيلها.
خلاصة
كل ذلك يقودنا إلى التفكير مليا في توقيت الإعلان الأمريكي بشأن الجولان المحتل، بعد إعادة نظام الأسد إلى حدود "إسرائيل" بتوافق روسي – إسرائيلي، هل يعني هذا محاولة دولية تقودها الولايات المتحدة لتعويم الأسد من جديد عبر إعادة انتاجه من بوابة الجولان مقابل تماهيه مع القرار الأميركي بالاعتراف بسيادة "إسرائيل" وتخليه النهائي عن الهضبة المحتلة؟.
إن القرار الذي فرضته واشنطن جاء منساقا ومتوافقا مع المنطق الإسرائيلي، ولا شك أن له آثاره على النتائج، إذ سيحمل نظام الأسد على القبول به فيما سيظل مرفوضا من الشعب السوري صاحب القضية قبل غيره، ولذلك الرفض السوري عامل إيجابي في المستقبل إذ يبقي الأمل السوري في التحرير قائما وحيّا تتوارثه الأجيال التي سترفض بالحتم ما قبل به نظام الهزيمة مهما طال زمن الانكسار الذي نعيشه ونتعايش معه مكرهين.
وبالتالي مهما حاول نظام الأسد ومعه محور الممانعة والمقاومة التلاعب بقضايانا الوطنية، فإن أسباب الصراع السوري- الإسرائيلي ستظل مستمرة ومتجددة، لأن التضاد في المفاهيم بين السوريين أصحاب الحق في الجولان وبين الإسرائيليين الطارئين على المنطقة والأرض، لا يمكن التوفيق بينهما إلا بتغلب إرادة أحدهما على الآخر.
ويستمر السؤال، هل يمكن فرض قرار الإدارة الأميركية على السوريين لتنهي الصراع حول الجولان مثلما تنتهي كل قضايا المنازعات بين دولتين متجاورتين؟.