بلدي نيوز- (تركي المصطفى)
تتوغل هذه الورقة في عمق التشابكات المحلية والإقليمية والدولية المعقدة والغامضة حول المصير السوري، في محاولة لتحليل هذه التشابكات وفكفكة طلاسمها، وتتوقف عند الحوارات السرّية المشبوهة تحت مسميات طائفية أو مؤتمرات مصالحة بمنطق روسيا لكسب المزيد من الوقت بهدف توسيع رقعة نفوذها على الخارطة السورية، أو تدعيمها بالحلفاء بما يؤمن مصالحها، وكذلك محاولة مصادرة القرارات الدولية التي أقرها مؤتمر جنيف وعلى رأسها عملية الانتقال السياسي، وتختم الورقة بملمح استشرافي لمستقبل سوريا عبر تنفيذ القرارات الدولية وليس التشجيع على حوارات مشبوهة تخدم المصالح الإقليمية والدولية.
مقدمة
بالتزامن مع الإعلان عن مخرجات الحوار السري بين شخصيات "سنيّة وعلويّة" مطعمة بنكهات أقلوية سورية، أثناء كتابة هذه الورقة، ضاعفت مدفعية ميليشيات إيران وتلك التابعة للأسد من قصف المدن والبلدات المحررة الخاضعة لـ "منطقة خفض التصعيد الرابعة"، مسنودة بالطيران الجوي الروسي تنفيذا لمخرجات سوتشي من ناحية، وكخيار ضرورة لإخضاع الجميع للإرادة الروسية عبر قتل الأطفال والنساء وتدمير المدن والقرى من ناحية أخرى، لأجل التوسع في مناطق لم تكن خاضعة للأسد، كمؤشر واضح على وضع روسيا خيار الحسم العسكري موضع التنفيذ في حال رفض مشروعها السياسي العلني في الاستحواذ على كامل الأرض السورية مع دعم بقاء نظام الأسد على رأس سلطة الأمر الواقع، وهذا ما أكّد عليه مؤتمر الحوار بين شخصيات محسوبة على السنة وأخرى علوية مدعومة من الأسد. ويضاعف من تأكيد هذا الخيار ما ذكرته سابقا إدارة بوتين؛ "الذين يرفضون رئاسة الأسد لن يكون لهم مكان في مؤتمر سوتشي"، بمعنى أدق التأكيد على التخلي المسبق عن المطالبة برحيل الأسد، وقد أبدى الروس موقفهم المشروط من سوتشي بأجندتهم العلنية في مصادرة واضحة لمضامين القرارات الدولية، كما تشي الحملة الجوية الروسية والتعزيزات العسكرية للميليشيات التي تصل تباعاً إلى المناطق المحررة والمعارك الملتهبة في أرياف إدلب وحماة وحلب، وقد استندت الاستراتيجية العسكرية على مجموعة من مرتكزات المخاتلة السياسية، من أبرزها ما يلي:
الحوار السني العلوي.. ألغام مفخخة
إنّ الحرب التي طحنت سوريا خلال ثماني سنوات، لم تحسم لصالح أي من طرفي الصراع (فصائل الثورة أو نظام الأسد)، ووصل الطرفان إلى مرحلة الإنهاك التي عملت لأجلها دول الإقليم مسنودة بدول عظمى، فأرغمتهما على البحث جديا للقبول بتسوية سياسية بما يتوافق ومصالحها المتناقضة، مع اختلاف في توصيف الأطراف قدرة ودورا وموقعا ومفهوما للتسوية بين المعارضة من جهة ونظام الأسد من الجهة الأخرى، بصرف النظر عن دعاوى روسيا بأنها تعمل على إعادة السيطرة على كامل سوريا، ولو بمقدورها فعل ذلك لما دعت إلى طاولة حوار متنقلة من آستانا إلى سوتشي فالعواصم الأوربية.
الحوار (السني العلوي) الذي جرى في أقبية ودهاليز المطابخ السياسية الأوربية متنقلا بين باريس وزيوريخ وبرلين، وشاركت فيه شخصيات عدة، أعلن المشاركون فيه الخروج من تلك الدهاليز بورقة أطلقوا عليها اسم "مدونة سلوك لعيش سوري مشترك"، تحمل عدّة بنود تتناغم مع استراتيجية روسيا ومحاليفها لبقاء الشعب السوري يرزح تحت بسطار الأسد في محاولة ظاهرة لمصادرة مضامين القرارات الدولية، ومنها بيان جنيف1، وقرارا مجلس الأمن 2118 و2254.
تبدو تجربة الحوارات السابقة في سوتشي وسواها من دعاوى للمصالحات الداخلية، نماذج مغرية لاقتفاء أثرها في استراتيجية "الاحتواء الناعم" المعتمدة لدى نظام الأسد، الذي يسعى للدخول في حوار مع نفسه من خلال شخصيات مخابراتية أو مغرر بها من كافة الأقليات المشاركة بما فيها الأقلية العشائرية والملتزمة أمنيا بالأسد، والممولة إيرانيا تحت يافطة التمثيل السني لتحييد الشعب السوري عن المشاركة في أي تسوية سياسية حقيقية برعاية الأمم المتحدة، ومن ثم الدخول في مفاوضاتٍ تكميليةٍ متعرجة المسار، يحتوون بموجبها القوى المناوئة للأسد سواء أكانت سنية أو علوية والتي سيجري التعامل معها بالاستراتيجية التي اتبعها نظام الأسد ومحاليفه، وهي شن حربٍ طاحنة ومكلفة دون التراجع عنها، خصوصاً الأسد ومن حوله من ضباط طائفته الذين يعتبرون الحرب الدائرة حرب معتقد ووجود، وقد عبّر الطائفيون منهم عن ذلك مراتٍ عدة.
طائفيون لا سوريون
الطرف العشائري: كان بين المشاركين في الحوار السني /العلوي، ملهم الشبلي من عشيرة الفواعرة، و أمير الدندل من عشيرة العقيدات، وعوينان الجربا من عشيرة شمر، ومصطفى كيالي من أحفاد "الكتلة الوطنية" في حلب – إدلب، هؤلاء الشيوخ يتحدرون سلاليا من حقبة حكم الأسد الأب الذي دجِّن شيوخ العشائر عبر عملية تفتيت العشيرة، بهدف إخضاعهم وانصياعهم للنظام وهذا ما جعل العشائر تنقسم على نفسها من خلال استحداث زعماء من وجهاء الأفخاذ، فظهرت العداوات ضمن العشيرة الواحدة حول شخصية الشيخ الأكبر، وقد ينشب القتال بينهم إلى حد الإبادة، فعشيرة الفواعرة التي يتزعمها الشيخ محمود الفدعوس ألزمه نظام الأسد بالإقامة الجبرية في منزله الكائن بالقرب من بلدة الفرقلس في ريف حمص الشرقي منذ العام 2012م، ليفسح المجال أمام شخصيات نشطة تدور في فلك النظام لاستخدامها عند الحاجة، فيما تتنازع الانقسامات عشيرتي العقيدات وشمّر، حيث لم تشهد حقبة حكم حافظ الأسد بروز أي شخصية سلالية من العشائر الكبرى في إدارة الدولة أو الحزب، فقد قام بتسريح أغلب الضباط من سلالات عشائرية معروفة ولاحق عدداً منهم بعد ذلك، بهدف الضغط عليهم وإكراههم على مغادرة سوريا وأبقى بعض الضباط من عائلات مغمورة محسوبة على عشائر دير الزور كــ الضابط ناجي جميل، وسعيد حمادي الشبيبي المعروف ذي الأصول العراقية، وكلاهما يتحدر من محافظة دير الزور، وكذلك فعل وارثه بتعيين محمد سعيد بخيتان الذي ينتمي إلى عشيرة العمور الصغيرة أميناً قطرياً مساعداً للحزب، ورياض حجاب من عشائر السخنة رئيساً للحكومة، فيما بات مجلس الشعب هدفاً لتنافس شيوخ العشائر حتى اضطر الأسد الوارث إلى تعيين شخصين من العائلة الواحدة لاستخدامهما عند الحاجة، واقتصر تعامل نظام الأسد مع المسألة العشائرية في مستويين، الأول: هو مستوى الخطاب الرسمي والأيديولوجي، ويقوم على وصف الفئات التقليدية كلها في المجتمع السوري (الزعامات العشائرية والدينية)، بأنها قوى رجعية ومتخلفة ولا بد من اجتثاثها لكي لا تعرقل مسيرة "التقدم والتحديث"، وقد استغل هذا الخطاب لإقصاء الزعامات العشائرية الوطنية وإخراجها بالقوة من دائرة الفعل السياسي.
أما المستوى الثاني: فيقوم على استثمار تلك الزعامات والنزعات العشائرية لجلب مزيد من الولاء له، ولتعزيز شرعيته المخابراتية بمجموعة من الباحثين عن شرعية لأنفسهم، أو ما يمكن أن نسميه بتبادل الشرعيات عبر السماح لتك الزعامات بقدر من المنزلة والمزايا مقابل تقديم الولاء المطلق للنظام، من هنا ضخّ الأسد أموالاً طائلة لاستمالة الوجهاء العشائريين، وتوظيفهم للعمل ضمن استراتيجيته متى دعت الحاجة إلى توجيههم، فأي حوار منتج يستطيع صناعته هؤلاء الوظيفيون؟
العلوي: تمكن الأسد خلال عقود من حكمه تشكيل نواة مؤدلجة لكيانه السياسي عمادها "طائفته العلوية" بعدما لاحق المناوئين لحكمه من منتسبي الأحزاب السياسية، خصوصا الأحزاب التي يغلب عليها الفكر اليساري، مثل حزب العمل الشيوعي السوري، وبعد ترويض الأسد لأغلبية طائفته عمل على توسيع دائرة الاحتواء لفئات كثيرة داخل المناطق العلوية، على أساس نفعي ومذهبي، وفي سنوات الثورة القائمة زجّ الأسد بطائفته في أتون المحرقة السورية، كطائفة مذهبية مسلحة ذات ارتباط خارجي تتصدره علاقتها مع طهران و"حزب الله" اللبناني، فاعتركت مع السوريين المناهضين للأسد في حرب مفتوحة، بعد استدعاء الأسد الروح المذهبية لمواجهة السوريين والتعبئة الطائفية المعلنة ليتصدر ذلك ضباط الأسد وهم مئة ضابط تقريبا جلهم من رتبة عميد ركن، وفيهم ألوية وعقداء يتولون مناصب قيادية ومراكز أمنية مهمتهم إصدار الأوامر العسكرية بالقصف والقتل والتدمير من أمثال " جميل الحسن وسهيل الحسن"، تؤطرهم أفكار طائفية متطرفة وهم مع الأسد الأكثر سوء وشناعة وإجراما في سلسلة المجرمين الطائفيين.
إزاء تلك الضغائن والثارات والجروح العميقة المتبادلة، لا يمكن أن يكون الحوار السري مقبولا ومأمون الجانب من ممثلي طائفة رفضوا إعلان أسمائهم مع أنهم أكدوا على علم سلطات الأسد بمضمون الحوارات والوثائق المتفق عليها، إلا بحالة واحدة وهي تماهيهم مع النظام بانتهاج مبدأ الإخضاع بـ "القوة الناعمة"، بعد انتزاع ذلك بموجب "مدونة العيش المشترك" وسواها، تحت رؤوس رماح الإيرانيين والروس، بعدما أزاحت وعطلت الكثير من مراكز النفوذ والتأثير السني في مجمل المناطق السورية سواء الشخصيات الدينية أو العشائرية أو أعيان المدن، وأساتذة الجامعات وغيرهم من الفعاليات الاجتماعية والسياسية والعسكرية.
ما يجب الإشارة إليه لفهم ما يدور من حوارات خلف الكواليس؛ هو موقف العلويين المناهضين لطائفية الأسد والذي جسّده المحامي عيسى إبراهيم في تغريدته على صفحته في فيسبوك: "لست مشاركا في الحوار السني - العلوي في برلين".
مؤتمرات الحوار محطات روسية بنكهة سورية
لا يمكن الحديث عن حوار سوري بعيدا عن القرارات الدولية، فالوقائع تؤكد على حجم الجرائم والدمار والخراب الذي ارتكبته الطائرات الروسية لحسم الصراع العسكري لصالح نظام الأسد، أما سياسيا فلقاءات آستانة المتتابعة كانت مقدمة لمؤتمر سوتشي الذي يعني تصفية الثورة سياسيا، فالإستراتيجية الروسية تقوم على مبدأ المنتصر هو من يقدّم خيار القوة على خيار الحوار والسلام، لذلك استباحت الطائرات الروسية المناطق المحررة، وأتاحت للميليشيات الشيعية الإيرانية انتهاك كلّ محرم؛ من مالٍ، وعرض، ودم، وقامت في كل مرة بتكريم ومكافأة قادة في الفيلق الخامس، كل بقدر حجم جرائمه في استباحة الدم السوري. لتندرج كل الجرائم الروسية تحت شعار وأد الثورة، الأمر الذي لم تستطع تحقيقه، لذا لجأت إلى حالة التطبيع القسري للإقرار بالواقع الأسدي المستأثر بالسلطة الموروثة بالقوة العسكرية، فكان مؤتمر الحوار في "سوتشي" هو الأكثر فاعلية ويبدو أنه الأسبق في التنفيذ من أي مسعى سياسي قدمته الأطراف الدولية في جنيف، أو في التفاهمات الثنائية بين واشنطن وموسكو، ومهدت له بآستانة بقصد تثبيت وقف إطلاق النار لعزل فصائل الثورة عسكريا عن الصراع الدائر وقتذاك ضد تنظيم "داعش" في وادي الفرات، تمهيداً للدخول في مفاوضات لحلّ الأزمة سلمياً، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فكان الخيار العسكري هو الأسبق، لفرض السيطرة الروسية بالقوة المسلحة على البلاد كلها ونسف كل مبادرات السلام التي دعت إليها في آستانة، بعد الالتفاف عليها طويلاً، وفق استراتيجية من يجيد تقدير الموقف من الحسم العسكري تقديراً دقيقاً، لذلك جاء سوتشي لوصد الأبواب أمام أيّ مسعىً حقيقي إلى السلام، ونسف "قرارات جنيف" التي أقرها ممثلو الدول الكبرى لتسجل الدعوة إلى هذا المؤتمر شهادةً أخرى على أنّ تجربة الحسم العسكري في تثبيت سلطة الأسد المستولى عليها، هي المألوف في الاستراتيجية الروسية، وأنّ ما سوى ذلك لعب بالوقت ومحاولات ابتزاز سياسية بهدف تمكين سلطة الأسد بالقوة، وطي وثائق جنيف باعتبارها أقوى الوثائق السياسية الدولية لحل الصراع في سورية.
مستقبل سوريا.. العدالة الدولية لا الحوار بمنطق الطائفي المنتصر
ختاما؛ يرتبط الحديث عن الحوار الذي تسعى إليه روسيا بالقرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن بشأن سوريا، إذ يؤكد التزامه القوي بسيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدتها وسلامتها الإقليمية، وبمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه، كأساس لانتقال سياسي بقيادة سورية وفي ظل عملية يمتلك السوريون زمامها من أجل إنهاء النزاع في سورية، ويشدد القرار على أن الشعب السوري هو من سيقرر مستقبل سورية، ولكن بعد كل أعمال القتل والتهجير والتدمير والمواجهات المسلحة التي قام بها الأسد ومحاليفه خلال نحو ثمانية أعوام، لم تكن لتحدث لولا التوجيه الأميركي الذي غالباً ما يستشعر الخطر تجاه مصالحه، مع أي تنامٍ للقوى السورية المناهضة للأسد، وقد كان ذلك فرصة مواتية لمراكز القرار الدولي تصفية الثورة، والتي جاءت بهيئة مفاوضات أراجوزية معطلة الصلاحيات، وأسهمت في حوارات طائفية وكأن كل ما جرى هو عبارة عن " قتيلة قرية" تنتهي بتقبيل اللحى والشوارب، ومما زاد من تعقيدات المسألة السورية تدخلات أطراف إقليمية ودولية متناحرة جعلت من سوريا ساحة بديلة لصراعاتها، ومن ذلك "إيران، وإسرائيل, وروسيا, والولايات المتحدة"، لتجد كافة أطراف الصراع نفسها أمام وضع مضطرب داخل بلد حولت مطالب شعبه العادلة المنتفض ضد حكم استبدادي إلى حرب أهلية، ومن تنفيذ مخرجات القرارات الدولية العادلة إلى حوار عشائري – طائفي، يكرس الصراع بأبشع صوره.