بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
قبل الدخول إلى عمق الملف, أود نقل صورة شاهدتها عن كثب, وأنا أراقب ما يجري حولي في حيز جغرافي من المنطقة "ب", سرب طائرات روسية مختلفة الأنواع, وثلاث طائرات تحمل حاويات متفجرة, وطائرة سوخوي22, و ميغ 23, تفرغ حمولتها بشكل عشوائي على هذه المنطقة الواقعة بين أوتستراد حلب - دمشق, وسكة حديد الحجاز, وأربع راجمات صواريخ تقصف بشكل مستمر, وقبل أن تغادر تلك الطائرات, تدخل مكانها, طائرات بذات العدد أو أكثر, لا نسمع سوى صوت الانفجارات المرعبة, والحرائق تلتهم البلدات والقرى, ودوي صفارات الإنذار والإسعاف تتخللها صرخات الأطفال والنساء, وعندما تزول الشمس, يغيب الطيران قليلا, ليجد الناس فرصة, لدفن شهدائهم في مقابر جماعية, والأكثر دهشة هو التغير المستمر لمعالم القرى والبلدات, فهناك حارات كاملة سويت بالأرض, وأخرى أخذت أشكالا هندسية مختلفة.
ليست الاستراتيجية التي عاينتها, واتبعها العدو, تعني سياسة الأرض المحروقة فحسب, إنما هي دمار شامل لحركة الحياة, المستهدف فيها البشر.
تردنا الأخبار من الجبهات, الميليشيات الطائفية والمذهبية, الأجنبية والمحلية, المدعومة من دولة عظمى وأخرى إقليمية, وبقايا نظام متهالك, لا تجد أمامها سوى مقاتلين من أبناء المنطقة ممن انضووا تحت فصائل متنوعة, لا يملكون سوى بنادق خفيفة, فيما الفصائل المنظمة تغيب عن مسرح المعارك, لتقع المنطقة "ب" ضحية التفاهمات السرية التي جرت في آستانة 6 بمشاركة علنية من بعض قوى الثورة.
تمهيد
يناقش هذا الملف المعركة الدائرة في المنطقة "ب" بحسب تقاسم النفوذ في اتفاق آستانة6, بين فصائل المعارضة السورية المسلحة من جهة, وبين قوات نظام الأسد والميليشيات الطائفية من جهة أخرى في إطار المعارك الناشبة في سوريا.
ونوطىء لهذا الملف باستعراض تحليلي موجز لأهمية هذه المنطقة في بعدها العسكري المتصل بنتائج المعركة وأهدافها.
ثم يتناول الملف بالتحليل جوانب هذه المعركة, خططا وتفاعلات ونتائج , كما نقف على آفاقها المحتملة اعتمادا على توجه عجلة المعارك ومحركاتها الدافعة التي جعلت من الحرب في سوريا، كما أنها تجري بتوافق أطراف النزاع المحلية والإقليمية, وفق سيناريو منظم أعده وينفذه راعي آستانة والجوقة التي توافقه رغبة ورهبة.
مقدمة:
تستمر الحملة الجوية الروسية المساندة للميليشيات الأجنبية البرية في تعاظم, بهدف تنفيذ اتفاقية آستانة 6, وبعد أن استكملت احتلالها لمنطقة شرق سكة حديد الحجاز تحولت إلى المنطقة "ب" بدعوى تنظيفها من "الإرهاب" برفقة تنظيم "الدولة" الذي شارك (الروس ونظام الأسد والميليشيات الشيعية الإيرانية), في كل مراحل المعارك, يدفعهم سباق متسارع لحسم الحرب عسكريا, باعتبارها خيار روسيا العلني في وأد الثورة السورية, تزامنا مع انسداد الأفق السياسي والخلل الواضح في موازين القوة, مما جعل روسيا وحلفاءها يستثمرون أوراق آستانة بعملية عسكرية واسعة يرسم مسارها أسلحة الدمار الشامل في استعجال واضح لجر الجميع إلى حظيرة الأسد, وفرض تسوية سياسية على مقاس الروس قبل استكمال ما يلوح في الأفق من مقاربات المجتمع الدولي والقوى الدولية المؤثرة في الحرب السورية, في سباق متسارع لاقتسام النفوذ, ومهما تباينت التحليلات, فإن مجمل المعطيات تدل على أن المنطقة "ب" وقعت ضحية التلاعب الروسي بمخرجات آستانة, وبتواطؤ علني من الضامنين, ومن قوى الثورة الموقعة على الاتفاق, والذي استجابت لتنفيذه كافة أطراف الصراع على الأرض, مخلفة أوضاع كارثية على سكان المنطقة الذين وقعوا بين خيار القتل, أو التهجير القسري.
ولا تزال الميليشيات في تمدد مستمر على خريطة المنطقة "ب" لتبقى مثار جدل حول تعثر فصائل المعارضة في مواجهة الحملة أو إيقافها.
الأهمية الاستراتيجية للمنطقة "ب":
يمكن وصف المنطقة "ب" بأنها الجزء الأكثر حساسية وتأثيرا في قلب الشمال السوري باعتبارها بوابة لمحافظات حلب وادلب وحماة, وتعتبر خزانا بشريا ضخما يمد قوى الثورة بالمقاتلين.
وعلى أطرافها الغربية, يمر الأوتستراد الدولي الرابط بين شمال وجنوب سوريا, ويعبر من شرقها سكة حديد الحجاز, وتشكل امتدادا لمعاقل المعارضة في ريف حلب الغربي وادلب, وفي جوارها يقع مطارا أبو الظهور وتفتناز العسكريين, وإلى الشرق منها تمتد الصحراء السورية حتى حدود العراق.
ويتبع ذلك قيمة استراتيجية وجيواستراتيجية للمنطقة من خلال تنوع تضاريسها بين السهلية والهضبية التي يخترقها نهر قويق, مما أعطاها ميزة اقتصادية باعتبارها سلة الشمال من القمح والمنتوجات الحيوانية, ما جعل لها أهمية كبيرة في ظروف السلم والحرب.
عسكريا:
يعتبر التحكم بطرق الإمدادات الرئيسية "الطريق الدولي, وسكة حديد الحجاز" وتلك الفرعية الرابطة بين الداخل المحرر, تهديدا لتماسك قوى الثورة, وتشكل تأثيرا مباشرا على أفكار القادة ومقاتليهم وتربك حساباتهم, وتشل تحركاتهم, وتحد من خياراتهم.
هنا تجدر الإشارة إلى أن من بين ما ركز عليه نظام الأسد, إحكام قبضته على هذه المنطقة وسعيه لإخضاعها كاملة, بوصفها ثقل جغرافي وسكاني, ومركزا مهما للحراك الثوري.
الواقع الميداني القائم:
تكشف المعارك الجارية في المنطقة "ب" عن تفاوت كبير في موازين القوى العسكرية, واللوجستية, والسياسية, بين فصائل المعارضة المسلحة, وبين قوات الأسد والميليشيات المذهبية الرديفة, وما يتبع ذلك من عدم وجود تنسيق على الأرض بين فصائل المعارضة بمختلف تياراتها, يجسده تهاوي تدريجي للمنطقة, بدءا من أم حارتين في ريف حماة الشمالي مرورا "بأبو دالي" في ريف ادلب الشرقي, وصولا إلى أم الكراميل في ريف حلب الجنوبي.
ولا بد من رصد سير المعارك وتفاعلاتها المهمة من خلال معرفة طرفي القتال.
أولا: فصائل المعارضة المسلحة:
تدخل غمار هذه المعركة بعدة فصائل للجيش الحر هي "النصر والعزة وإدلب الحر وجبهة ثوار سراقب وفيلق الشام", يملكون سلاحا خفيفا ومتوسطا وثقيلا اغتنموه أثناء المواجهات مع نظام الأسد, و يرأسهم عدد من القادة من بينهم ضباط أبرزهم "المقدم جميل الصالح قائد لواء جيش العزة , والرائد محمد منصور قائد جيش النصر, ومحمد هلال أبو طراد قائد جبهة ثوار سراقب, وانضمت إليهم مؤخرا, مجموعات من الجيش الحر ذات مهام قتالية ولوجستية تمتلك صواريخ الـ "تاو", وهناك هيئة تحرير الشام, وهي تشكيل قتالي, مستقل القيادة, ينسق بينه وبين الفصائل الأخرى أثناء خوض المعارك المشتركة, يتألف من مجموعة مقاتلين اكتسبوا قدرات قتالية عالية المستوى.
ثانيا: قوات الأسد والميليشيات الإيرانية:
عادة ما يعبِّر الروس وأشياعهم, عن القوات، التي يخوضون بها المعركة الحالية، بـ"الجيش والقوات الرديفة", ما يعني أن هذه القوات تتضمن كيانين منفصلين، هما: جيش الأسد, والميليشيات الإيرانية ولجان الدفاع الوطني " الشبيحة". وقد أطلق هذا التوصيف منذ وقت مبكر, لإظهار هذه الميليشيات كقوة موازية لقوات الأسد، وباتت تلك الميليشيات سلطة الأمر الواقع، المنفردة بالقرار بعد انهيار قوات الأسد خلال الأعوام الأولى من عمر الحرب.
ومنذ التدخل العسكري الإيراني ولاحقا الروسي, شرعت إيران, وتلتها روسيا في إخضاع قوات الأسد لسيطرتهما، ومع مرور الوقت، تماهت مع سلطة الايرانيين, والروس, لتتحول قوات الأسد إلى ميليشيا تنفذ أوامر حلفاء الحرب.
معركة بلا مواجهة
حقق الطيران الروسي قدرة فائقة في عملية التدمير الممنهجة للبلدات والقرى الواقعة في المنطقة "ب" مما سمح لقوات الأسد والميليشيات الرديفة بالتقدم على حساب فصائل المعارضة السورية, مع استمرار حركة نزوح السكان من المنطقة, وبعد استكمال السيطرة على منطقة شرق سكة حديد الحجاز, تقدمت القوات المهاجمة إلى المنطقة "ب", وتمكنت من التوغل في عمق المناطق الإدارية التابعة لمحافظتي حلب وادلب, وسط اشتباكات طاحنة تدور منذ أسبوعين, إذ تمكنت قوات الأسد, والميليشيات الرديفة, من تحقيق تقدم جديد والسيطرة على عدد من البلدات والقرى في إطار هجومها الهادف للسيطرة على المنطقة "ب", وتأمين طريق استراتيجي, يربط مدينة حلب، ثاني أكبر مدن سوريا بدمشق.
وتتركز المعارك التي يرافقها قصف جوي مكثف من الطيران الروسي بكافة أشكاله, وذاك التابع لنظام الأسد, عبر محورين الأول: المنطقة الواقعة غربي منطقة أبو الظهور, وتمكنت القوات المهاجمة من السيطرة على القرى المتناثرة على الطريق الواصل بين مدينتي سراقب وأبو الظهور, وهي على التوالي من الشرق الى الغرب (تل الكلبة وتل السلطان وتل الطوكان) وكل القرى المحاذية لها من اليمين واليسار والتي تقدر بعشرين قرية, والمحور الثاني: البنجيرة وهي مركز متقدم للميليشيات الشيعية الإيرانية تقع في ريف حلب الجنوبي, إذ تمكنت تلك الميليشيات الشيعية من التقدم والاستيلاء على كامل ما تبقى من منطقة شرق سكة الحديد, العطشانة الغربية والشرقية, وأم الكراميل وتل الفخار وتليجينة, ثم تقدمت غربا إلى تل علوش ووريدة لتلتقي بقوات الأسد وميليشياته في قرية الواسطة.
وبات المشهد الميداني واضحا من خلال خط الطيران الذي قسم المنطقة "ب" إلى دوائر يتم تدميرها, لينتقل إلى الدائرة الأخرى بعد أن تسيطر عليها الميليشيات, وتدور المعارك اليوم في قلب المنطقة المستهدفة في دائرة تمتد من بلدة تل الطوكان الى قرية حوير العيس, ومن تل الطوكان إلى سراقب امتدادا على طول الطريق العام الواصل إلى قرية تلحدية.
وتركزت فصائل المعارضة في ثلاث جبهات أساسية في محور تل الطوكان حيث جبهة ثوار سراقب ومعها فصائل مساندة, تمنع الميليشيات من التقدم غربا باتجاه سراقب, وعلى محور جزرايا تتمركز قوة كبيرة لحركة أحرار الشام, وفي محور زمار وحوير العيس تتصدى هيئة تحرير الشام لهجمات الميليشيات المتكررة.
ودفعت هذه المعارك المستمرة بضراوة منذ نحو أسبوعين مئات آلاف السكان إلى النزوح من مناطق الاشتباك وتلك المحاذية لها, وسط استهدافها بمختلف أنواع الطيران والمدفعية مما زاد في عدد المجازر, إذ لا تزال أكثر من عشر عائلات عالقة تحت الأنقاض بين بلدة جزرايا وقرية الواسطة دون أن تمكن فرق الانقاذ والدفاع المدني من الوصول إليها.
- تفاعلات معركة المنطقة "ب" ونتائجها:
ازدادت ضراوة المعركة في المنطقة "ب" بعد أن اعترضت الميليشيات الإيرانية الموجودة في ريف حلب الجنوبي, وبموافقة روسيا, الرتل التركي المتوجه إلى تلة العيس لتثبيت نقاط مراقبة بحسب بنود اتفاقية آستانة 6, وبالتنسيق بين راعي آستانة وضامنيها أنقرة وطهران, عاد الرتل التركي أدراجه من حيث آتى, لتكشف شبكة بلدي نيوز في سبق جديد, حقيقة بنود الاتفاقية المتعلقة في المنطقة "ب".
وقالت بلدي نيوز إن مباحثات جرت قبل أيام بين ضباط روس وأتراك داخل أحد القواعد العسكرية التركية, بحث خلالها الجانبان التركي والروسي أبعاد الاعتداءات الأخيرة على القوات التركية داخل الأراضي السورية من قبل عناصر إيرانيين موجودين بريف حلب الغربي، واتفق الجانبان على إعادة دخول القوات التركية إلى الأراضي السورية.
وأضافت بأن اتفاقاً جرى بين الروس والأتراك على تنفيذ اتفاق المنطقة (ب) الواقعة بين "سكة الحجاز وأتوستراد حلب - حماة شمل آلية التنفيذ وتوزيع مناطق الانتشار والمدة الزمنية اللازمة لتنفيذ وقف إطلاق النار" .
وأردفت الشبكة نقلا عن مصادرها "بأنه تم الاتفاق على نشر مخافر للشرطة الشيشانية على أطراف سكة الحجاز التي تمتد من "أم حارتين" بريف حماة الشرقي حتى "حي الراشدين" بحلب، حيث سيتم وضع مخافر على مسافة بين ٢٠ و٣٠ كم، وفي الجانب المقابل سيتم وضع مخافر تركية على أتوستراد حماة - حلب بشكل متناظر مع مخافر الشيشان".
وأشارت إلى أن "المنطقة الواقعة "بين سكة الحجاز وطريق الأتوستراد" سيتم نزع السلاح الثقيل والمتوسط منها وتنتشر فيها "الشرطة الحرة" التابعة للجيش الحر، وسيقوم على تسيير أمورها المجالس المحلية التابعة لكل منطقة، موضحاً أن الفترة الزمنية لتنفيذ الاتفاق هي خلال الأشهر الثلاثة القادمة".
وعن عودة الجيش التركي للدخول إلى الأراضي السورية المحررة، قالت: "بأن الجانب التركي سيعاود الدخول، إلا أن ما يعيقه حتى اللحظة هو التحفظ على عدة نقاط من الاتفاق الأخير، والذي أبدته الميليشيات الإيرانية المتمركزة في منطقة "الحاضر والوضيحي" جنوب حلب، حيث قالت: "إن الاتفاق تم عرضه على ضباط إيرانيين أبدوا امتعاضهم من الاتفاق الأخير"، مؤكدة أن المفاوضات ما زالت جارية بين الإيرانيين والروس بغية تمرير الاتفاق.
وختمت "بأن المنطقة المسماة (ب) وفق اتفاق أستانا (خفض التصعيد) في إدلب، تشهد منذ أيام تصعيداً كبيراً من قبل روسيا والنظام الذي عمد إلى إحراق المنطقة الممتدة بين أبو الظهور وسراقب، وريف حلب الجنوبي، وجزء من ريف حماة الشمالي، بغية إفراغها من القوى العسكرية والسكان، تمهيداً لتنفيذ الاتفاق".
وبالتالي, فإن استثمار معركة المنطقة "ب" يشير إلى مدى التفاهم البيني لراعي آستانة وضامنيها على حساب الشعب السوري الثائر, نتيجة الإرتهان الخارجي للقوى السياسية والعسكرية للمعارضة السورية, وحساباتها الضيقة المغايرة لأهداف الثورة السورية, ولن تتوقف المعارك الجارية عند حدود الاتفاقية المسربة, فهناك معارك أخرى في انتظار ما تبقى من مدن وأرياف محررة لن يوقفها حل سياسي, لأن الروس يعتمدون استراتيجية إخضاع الجميع على الطريقة الشيشانية, القائمة على نهج القتل والتدمير والتهجير, تحقيقا لمكتسبات سياسية, يقف على رأسها, تثبيت الطائفة العلوية في موقف قوة داخلية بوصفهم أقلية دينية يجني استثمارها في خدمة مصالحه.