بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
تمهيد
يناقش هذا الملف مؤتمر جنيف4 في إطار العملية السياسية التي أطلقها المجتمع الدولي منذ العام 2012م بين وفد المعارضة السورية المتنوع من جهة, ووفد نظام الأسد الواجهة التمثيلية لموسكو وطهران من جهة أخرى, ونمهد لهذا النقاش باستعراض تحليلي موجز لمؤتمرات جنيف السابقة, والظروف التي أحاطت بالمؤتمر وصلة ذلك بما سيتمخض عنه وارتداداته الداخلية والخارجية.
ثم نتناول بالتحليل جوانب مخرجات المؤتمر أطرافا وخططا وتفاعلات ونتائجاً, ونقف عند وفد المعارضة ممثلا بالهيئة العليا للمفاوضات ودور منصتي القاهرة وموسكو, وندرس تباينات التفسيرات حول القرارات الدولية (2254 و 1118) وتخبط الاستراتيجية الروسية المتعجلة في التوصل لتسوية سياسية كما تريدها, وموقف الإدارة الأميركية مما يجري في جنيف وخياراتها المحتملة وانعكاسات كل ذلك عما يجري في جنيف4.
مقدمة
بدأت فعاليات مؤتمر جنيف بنسخته الرابعة يوم الخميس23 شباط/فبراير الماضي بتوتر لافت إثر قيام المبعوث الدولي إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، بتجزئة ممثلي المعارضة السورية إلى ثلاثة وفود: وفد الهيئة العليا للتفاوض الذي شكلته قوى الثورة والمعارضة، ومنصتا القاهرة وموسكو، الواجهة الفعلية لروسيا, وحافظ وفد الهيئة العليا على تماسكه تفاديا للانسحاب من المؤتمر الذي يحاول نظام الأسد تلغيمه ومن ثم نسفه كما حصل في المؤتمرات السابقة, مما حدا بالمبعوث الدولي ديمستورا الإيحاء أن المفاوضات تسير على ما يرام لتحقيق نجاح في هذه الجولة قبل انتهاء مهمته أواخر شهر آذار الجاري, حيث فشل على مدار ثلاث سنوات ونصف من تحقيق أي تقدم في العملية السياسية. وسجلت مجريات المحادثات مماحكات بين وفدي المعارضة ونظام الأسد حول مسألة الانتقال السياسي, الذي تراه المعارضة انتقالا من نظام الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يرفضه الأسد ونظامه إذ أن الانتقال السياسي يعني ما جاء في بيان جنيف1، أي هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات.
ومن الواضح إصرار المعارضة على أن يكون الوفد المفاوض باسم المعارضة محصوراً بالهيئة العليا، وإيجاد مخرج لمنصتي القاهرة وموسكو كما فعل ديمستورا في جنيف السابق إذ أطلق على باقي المنصات والشخصيات المشاركة صفة مستشارين, بينما تحاول روسيا نقل جنيف4 لاستكمالها في الآستانة من خلال مفاوضة ممثلي فصائل الثورة السورية وصولا إلى تسوية سياسية تتوافق مع رؤية نظام الأسد بتشكيل حكومة وحدة وطنية تحت سقف مظلة الأسد، انعكاسا لآراء موسكو في مناقشة التحول السياسي في الآستانة لتفريغ مؤتمر جنيف من مضمون قراراته الفعلية.
واتضح الموقف الأميركي عبر رسالة لوفد المعارضة تشير في مضمونها إلى أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تركز على مكافحة التنظيمات الإرهابية وتثبيت مناطق النفوذ في سوريا، ولا تهتم في مفاوضات جنيف الحالية وعبرت عن ارتياحها على وقف إطلاق النار ما دام يفضي إلى مقاتلة التنظيمات الإرهابية, بينما يرتاب الاتحاد الأوربي من أن ينقل الروس الملف السياسي السوري بالكامل إلى أستانة لذلك تدعم المسار السياسي في جنيف.
وفي تفاصيل محادثات جنيف بنسخته الرابعة, وارتدادته على مختلف الفرقاء, لابد من إيضاح النقاط التالية:
الهيئة العليا للتفاوض وزرع منصتي موسكو والقاهرة:
شهدت جنيف عام 2014م انفراد الائتلاف الوطني لقوى الثورة بالتفاوض, وفي الرياض تشكلت الهيئة العليا للمفاوضات انطلاقاً من مشاركة أطراف المعارضة كافة, ويعتبر وفد الهيئة العليا للتفاوض الممثل الشرعي لمحادثات جنيف, وفي ذات الوقت تعتبر منصتا القاهرة وموسكو نفسيهما تمثلان المعارضة, ومن المعروف أن منصة موسكو تتبنى الموقف الروسي بحذافيره وعلى رأس هذه المنصة قدري جميل الوزير في حكومة الأسد السابقة في ظل الثورة السورية, وهذه المنصة تستمد قيمتها من حاجة الروس إليها, ومدى قدرتها على اختراق المعارضة, وإجبارها على القبول بخطة إبقاء الأسد في السلطة, والوقوف ضد تطلعات الشعب السوري الثائر. لذلك قامت روسيا بسحبها من منظومة الأسد لتنشط كطرف معارض ضمن محور موسكو تكريسا للاحتلال الروسي, ودأبت روسيا على تشتيت المعارضة عبر المنصات بهدف التحكم بتحديد المعارضة التي تتوافق ومصالحها, واستبعاد المعارضة الخارجة عن إطار رؤيتها فوضعت منصة القاهرة في تنافس مع الهيئة العليا للمفاوضات والتي تطالب بحصة مساوية لها بعد استحواذ الشخصيات المستقلة عليها, وتعمل بشكل رئيسي على التقليل من دور وفد الهيئة العليا للتفاوض تجسيدا لمصالح الدول الداعمة لها بقصد تفريغ مؤتمر جنيف من مضمونه, وهذا ما يدركه وفد الهيئة العليا, ويسعى إلى احتوائهم, أو فضحهم أمام الشعب الذي يدعون تميثله.
طائرات الأسد والروس في سماء جنيف!
لم تتوقف قوات نظام الأسد بمساندة الميليشيات الإيرانية وبغطاء جوي روسي في محاولة التقدم في محيط العاصمة دمشق, وفي ريف حلب الشرقي, علاوة على القصف المكثف لريفي ادلب وحي الوعر في حمص مما أسفر عن ارتقاء أكثر من خمسمئة شهيد غالبيتهم من الأطفال والنساء, بهدف الضغط على وفد الهيئة العليا للتفاوض في محادثات جنيف الجارية, والتوصل إلى تطبيع علاقاته مع المجتمع الدولي مقابل تطبيق القرار 2254 وفقا لرؤية روسيا, والذي يعني تشكيل حكومة انتقالية يكون الأساس فيها المنصات التي ترعاها موسكو, وتشرف على انتخابات بعد 18 شهرا بالتنسيق مع خبراء دوليين ضمن التركيز على إعادة الإعمار, وعودة بعض النازحين تحت شروط الولاء للرئيس الوريث والعداء لمعارضيه تزامنا مع حملة إعلامية لمحور الممانعة تقودها إيران.
عطفا على ذلك, فالأسد يدرك ومعه طهران وموسكو أنه إذا ما طبقت القرارات الدولية التي أجمع عليها أعضاء مجلس الأمن في جنيف1 و2 فإنها ستطيح به, لذلك تنبهت روسيا ومعها إيران على خطورة مأزق الأسد في المحافل الدولية فكان عملها المشترك بالتنصل من تطبيق القرارات الدولية التي باتت حبرا على ورق في ظل عالم يتفرج على مذبحة الشعب السوري, ونجحت المناورات الروسية في تمييع الوثائق الدولية بعد أن تمكنت من سوق المعارضة إلى الآستانة فعطلت القرار الدولي 2118. الذي ينص على رحيل الأسد ونظامه, كما قامت باستبدال القرار 2254 الذي ينص على هيئة حكم انتقالية مرجعيتها القرارات الدولية, إلى حكومة وحدة وطنية مرجعيتها الأسد, لذلك يعتقد الأسد أن بمقدوره الحسم العسكري الذي يعني بالنسبة له الحل السياسي ظنا منه أن وجود تنظيم "الدولة" والمنظمات المصنفة إرهابية جلبت له قبولا دوليا, فقام في اليوم الأول من انطلاق مؤتمر جنيف4 بالضغط على وفد المعارضة عبر ارتكابه مجازر مختلفة بحق المدنيين لانتزاع تنازلات سياسية من المعارضة أو دفعها إلى تعليق مشاركتها في المفاوضات لتقديم نفسه كطرف متمسك بالمسار السياسي أمام المجتمع الدولي.
وبالنتيجة فنظام الأسد هو المسؤول مع حلفائه عن تعطيل المفاوضات منذ بداية الثورة السلمية في رفضه لأي حل سياسي باستخدامه العنف المفرط ضد الشعب السوري, وتركيزه على محاربة الإرهاب وتنصله من الاستحقاقات السياسية التي تلاحقه ونظامه في إطار الجرائم التي ارتكبها على مدار سني الثورة.
ألغام جنيف وتفجيرات حمص
تزامن تفجير المربع الأمني في حمص مع سير المفاوضات في جنيف, وقبل أن يتبنى أي طرف مسؤوليته عن التفجيرات اتهم الأسد المعارضة بتلك التفجيرات, لزجها في موقع دفاعي بقصد إحراجها مع داعميها في الوقت الذي استخدمت كل من روسيا والصين "الفيتو السابع" للدفاع عن الأسد الذي استخدم السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري وفق ما خلصت إليه تحقيقات اللجنة الأمنية الخاصة بهذا الموضوع الذي طرح للتصويت في مجلس الأمن, فتسلطت الأضواء على تفجيرات المربع الأمني لوضعها في خانة العمليات الإرهابية في مناطق سيطرة الأسد. وطغت أجواء تشاؤمية على جنيف وتناغم واضح بين المبعوث الدولي ديمستورا, ووفد نظام الأسد ممثلا بالجعفري لتوظيف الأخير هجمات حمص تبريرا لفشل المفاوضات, وتجاهل المبعوث الدولي التصعيد الميداني الذي يقوم به الأسد والإيرانيون في العديد من المناطق السورية حيث قضى أكثر من خمسمئة شهيد في المناطق المحررة منذ انطلاق مؤتمر جنيف4.
صراعات جنيف الدولية
تستعجل روسيا التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا وفق مفهومها أمام تسارع وتيرة الأحداث إذ تخشى من غموض الدور الأميركي الذي يعمل على تفكيك علاقاتها مع تركيا, ووضع حليفها الإيراني في زاوية محرجة, وبالمقابل ترى روسيا أن تمدّد النفوذ الإيراني واستطالته يختلف مع استراتيجيتها ويهددها, فنظام الأسد لم يعد يمتلك سوى ميليشيات غير قادرة على السيطرة بمفردها على أي منطقة في سوريا, لذلك بسطت الميليشيات الإيرانية سيطرتها على غالبية المناطق السورية المحتلة وفق خططها في ترسيخ مشروعها الهلال الشيعي, لذلك اصطدمت الاستراتيجية الروسية بالاستراتيجية الإيرانية. ما شكل منطلقا للخلاف السياسي والعسكري بينهما.
لكن روسيا تؤكد على دعم نظام الأسد لـ"مكافحة الإرهاب", وفي ذات الوقت تنشط عملية التسوية السلمية للتوصل لوفاق سوري - سوري, ورغم وصول الوفد الروسي إلى جنيف الذي تعتبره نتيجة مباشرة لما تم التوصل إليه في الآستانة بشأن وقف إطلاق النار الذي تتغنى به, فإن المسؤولين الروس طلبوا علنا من نظام الأسد والميليشيات الإيرانية وقف إطلاق النار خلال فترة المفاوضات, ولم يأبه نظام الأسد بالمطلب الروسي لسببين: الأول لأن روسيا لا تريد توقف القصف, فتستخدم لغتين, والثاني, أنها غير قادرة على التأثير على نظام الأسد وإيران, علما أن يد روسيا فوق رؤوس كل حلفائها, وبذلك يبدو مسار التفاوض في جنيف4 تجسيدا لإرادة الأطراف الدولية والإقليمية التي تعمل على إطالة الصراع المسلح لفرض إملاءات على الأطراف الأخرى بصرف النظر عن القتل والتدمير, ومن هنا يتباين تفسير بيانات جنيف من قضايا رئيسية كمسألة هيئة الحكم الانتقالية والموقف من مصير الأسد, والمناطق الآمنة, وهياكل حكم, وهذا ما تتوجس منه دول الاتحاد الأوربي التي ترى أن ديدن روسيا تمييع القرارات الدولية ونقل الملف السوري برمته من جنيف إلى آستانة وسط ترقب ما ستفعله إدارة الرئيس الأميركي ترامب المنشغل في وضع أطر جديدة للسياسة الأميركية في المنطقة.
ارتدادات مؤتمر جنيف4
إن مسار العملية التفاوضية الجارية في جنيف توجب على وفد الهيئة العليا للتفاوض, العمل على تفصيل كل قرار وتصريح دولي بعمق، والتوقف عند كل جزئيّة، سياسيّة أو عسكرية, فالروس يحاولون زج معارضة الأسد الداخلية المتمثلة بمنصة موسكو, وبعض الشخصيات المستقلة من منصة القاهرة, وكلاهما ينحدر من تيارات هزيلة مرتبطة بأجهزة الأسد الأمنية, حيث إن غالبية هذه التيارات تصر على بقاء الأسد رئيسا, وتعمل وفق أجندات أجهزته الأمنية برعاية روسيا التي تعمل على تذويب المعارضة الحقيقية ضمن معارضات متباينة, وإفراغ مطالبها من مضمونها.
وعلى الهيئة العليا للتفاوض أيضا, مراقبة تطورات عودة الأوربيين إلى الملف السياسي السوري خشية انفراد روسيا به, كما أن دعوة ترامب إلى إقامة مناطق آمنة في سوريا تتطلب دراسة معمقة, ولابد من مراقبة كل الأطراف الدولية التي تعمل على إيجاد مخرج للقضية السورية بعد أن باتت عبئا على الجميع إقليميا ودوليا.
خلاصة
من خلال استعراض تداعيات مؤتمر جنيف, وما يعترض مساراته من ألغام وتفجيرات وتباينات في تفسير القرارات الدولية, ينبغي على المعارضة السياسية العمل المنظم في إدارة الصراع السياسي من خلال التمسك بثوابت الثورة السورية وفق القرارات الدولية الصادرة في جنيف كأساس عملي لأي تسوية سياسية, ولا يكفي إعلان وفد الهيئة تحفظهم على بعض الرؤى المتعارضة مع تطلعات الشعب السوري, ما دام رعاة ودعاة التسوية السياسية طرفا في العدوان على الشعب السوري الثائر, وهنا يفترض بوفد المعارضة السياسية التفاعل مع حاضنة الثورة للوقوف ضد كل المشاريع التي تحاك في دهاليز السياسة الدولية والإقليمية والمحلية سواء في جنيف4 الجاري, أو سواه من محافل دولية.