بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
توطئة:
إنّ الحرب التي طحنت سوريا خلال ست سنوات، لم تحسم لصالح أي من طرفي الصراع (فصائل الثورة أو نظام الأسد), ووصل الطرفان إلى مرحلة الإنهاك التي عملت لأجلها دول الإقليم, فأرغمتهما على البحث جديا للقبول بتسوية سياسية بما يتوافق ومصالحها المتناقضة, مع اختلاف في توصيف الأطراف قدرة ودورا وموقعا ومفهوما للتسوية بين المعارضة من جهة ونظام الأسد من الجهة الأخرى, بصرف النظر عن دعاوى نظام الأسد بأنه يعمل على إعادة السيطرة على كامل سوريا, أو تصميم فصائل الثورة على تغيير نظام الأسد بالقوة، ولو بمقدورهما فعل ذلك لما جلسا إلى طاولة المفاوضات.
مقدمة:
منذ إعلان وقف إطلاق النار في أنقرة, وما تلاه من تفاهمات في آستانة يشير إلى اعتماد سياسة "إحتواء" طرفي الصراع تزامنا مع إطلاق يد الميليشيات الإيرانية باستهداف المناطق المحررة, وهي سياسة بديلة في حال فشل المفاوضات, أو اختلاف المصالح بين أنقرة وطهران حيث ستسعى إيران إلى توسيع دائرة الصراع، وتنويع أدوات المواجهة، وزعزعة الأمن والاستقرار في المناطق المحررة, باعتبار أن حربهم في سوريا والمنطقة حرب معتقد ووجود بحسب تعبير قادتهم في مناسبات متعددة. حتى وإن نجحت الأطراف في التوصل إلى تسوية ما وكان نتيجتها إزاحة الأسد عن السلطة فالإيرانيون يعملون على الرغم من ذلك على بقائهم داخل المشهد السياسي السوري.
رهانات الإيرانيين تعترضها عوائق متعددة, فالأتراك دخلوا عسكريا في الشمال السوري إلى جانب فصائل من الثورة ( درع الفرات) بتوافق مع روسيا, ويعملون على تشكيل جيش وطني سوري ومنطقة آمنة, وتتمركز قواتهم على تماس مع الميليشيات الإيرانية في ريف حلب الشمالي الشرقي تترقب إشارات واشنطن لتتوغل قواتها باتجاه مدينة الرقة.
أمام هذا المشهد السوري المرهق يمكن فهم أهمية الدور الذي تلعبه إيران وتركيا في التسوية السياسية بالضغط على طرفي الصراع في حال التوصل إلى صيغة تفاهم مشتركة.
حتى الآن، ما يزال كلا الطرفين يتمسكان بخيار القوة، لكن دون امتلاك أي طرف منهما مؤهلات الحسم التي تقود إلى التوصل لإنهاء الحرب المرهونة بظروف داخلية ودولية, يريد كل طرف منهما في المفاوضات تبدلّها لمصلحته في حال استطالة أمدها، بناءً على استقراء تعرجات القضية السورية وفق مقتضيات المرحلة بعد بلوغ الرئيس الأميركي ترامب سدة الحكم التي قد تفضي سياساته في المنطقة إلى آفاق جديدة يكون فيها طرفا الصراع في حالة مغايرة بعد تقهقر تنظيم "الدولة" من جهة, وارتفاع وتيرة المواجهة في درعا وريف حماة, فضلا عن تحولات إقليمية ودولية قد تحدث قريبا بالضغط على إيران التي تعمل على إطالة الحرب.
وقد كشفت التجاذبات السياسية في سوريا عن وجوه كثيرة من التباعد بين الأدوات الدولية "الميليشيات الإيرانية وحليفها الروسي, وبين تركيا الداعمة للجيش السوري الحر". وفيما يلي سيجري الوقوف على كل هذه المفردات بالقدر الذي يرصد مآلات الوضع ويقف على تفاعلاته.
تركيا وخياراتها الإستراتيجية
بدأت فعليا عملية توحيد فصائل الثورة السورية العاملة في الشمال السوري تحت اسم "الجيش الوطني" بدعم مباشر من الدولة التركية, ويتألف الجيش الوليد من 6 فصائل ثورية وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد قال قبل نحو أسبوع: "إن الجيش السوري الحر يجب أن يكون الجيش الوطني في سوريا", كما لمح أردوغان في أيلول سبتمبر الماضي إلى بناء جيش وطني من المعارضة السورية في المنطقة الآمنة التي تعمل أنقرة على إنشائها في شمال سوريا بالقرب من حدودها. وسيكون الجيش الوطني بمثابة حاضنة لكل فصائل الجيش الحر.
وأصبحت الحاجة إلى جيش وطني مطلبا دوليا, وهذا ما دعا فصائل الثورة إلى بناء تكتلات عسكرية في ظل ضغوط دولية متزامنة مع الانتقال إلى مرحلة جديدة في مسار الأحداث السورية، وبالتحديد في ظل الاتفاق المستمر على وقف إطلاق النار الهش وانطلاق المفاوضات السياسية في جنيف وقبلها في آستانة. وهذا ما أدركته أنقرة التي أطلقت عملية "درع الفرات" في المنطقة المحاذية لحدودها من جرابلس شرقا ولغاية إعزاز غربا, وإلى منبج وأطراف مدينة حلب جنوبا، التي تشكل الجزء الأكثر حساسية وتأثيراً في الخاصرة الطبيعية لتركيا؛ فموقعها المحاذي للشريط الحدودي, ووجود مدن منبج والباب وأخترين والراعي, وموقعها المتوسط بين منطقتي عفرين وعين العرب "كوباني"، أعطاها أهمية كبيرة في وأد حلم الأكراد الانفصاليين, وما يتبع ذلك من قيمة استراتيجية وجيواستراتيجية.
لذلك كان من أولويات "درع الفرات" تحرير المنطقة بالسيطرة على كامل الشريط الحدودي بعمق عشرات الكيلو مترات.
كما تكمن الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، في كونها إحدى أهم نقاط الوصل والفصل الجغرافي بين ما يسمى بمنطقتي غرب وشرق الفرات بفضل موقع المنطقة الذي يمتد من عفرين غربًا إلى جرابلس شرقا وهو ما يضعها ضمن خريطة من يسعى لتحقيق نصر عسكري ضامن للوحدة السورية كما هو هدف الجيش السوري الحر أو ضدها. كما يحلم الفصيل الكردي الانفصالي.
في ظل هذه المعطيات، يمكن تفسير التعامل المبكر مع هذه المنطقة من قبل تنظيم "الدولة" وأكراد صالح مسلم, لتأتي عملية "درع الفرات" كخطوة عسكرية ذكية قطعت الطريق مبكرًا أمام أية محاولة لجعل المنطقة عائقًا دون وصول قوات صالح مسلم إلى غايتها في الربط بين كانتون عين العرب وكانتون عفرين, أو تنظيم "الدولة" الذي فقد أي منفذ حدودي له أو ايران وميليشياتها التي تعمل على قضم أكبر مساحة من الأرض السورية.
واستكمل "درع الفرات" بدعم تركي عملية تحرير المنطقة الشمالية من سورية, لتكون أساسًا لمنطقة آمنة تسعى تركيا لإنشائها منذ أكثر من عامين.
يبدو الموقف التركي واضحا في تعاونه مع "درع الفرات" في ريف حلب الشمالي لكن الأمر ذاته يتراجع بما يتعلق بالفصائل الأخرى، سواء في إدلب أو ريف حماة بعد عملية التكتل المتباينة بين الفصائل, "هيئة تحرير الشام" التي يقودها هاشم الشيخ أبو جابر القيادي السابق في حركة أحرار الشام, وتضم فصائل قريبة من تركيا مثل حركة نور الدين الزنكي التي قد لا تتوافق مع الرؤية التركية في الوقت الراهن, فهيئة تحرير الشام, هي الطرف الذي يعمل على شن هجمات متكررة سواء في ريف حماة أو محافظة درعا في الجنوب السوري, ويرسم الفرز الجديد قوة المفاوض التركي في الأروقة الدولية, ويبدو تركيز الأتراك منصباً على حركة أحرار الشام التي تبقى رقماً أساسياً في المنطقة سواء في ظروف الحرب أو السلام.
وفِي هذا الصدد يستمر الحراك التركي الدبلوماسي في منطقة الخليج إثر زيارة أردوغان إلى السعودية وقطر والبحرين لكسب تأييد ودعم دول الخليج في القضية السورية وخاصة ما يتعلق بالمنطقة العازلة, وبناء جيش وطني سوري والوقوف في وجه النفوذ الإيراني وتفعيل دور تلك الدول في المفاوضات السياسية الجارية في جنيف.
الوهن الإيراني بين الاستياء الروسي والتهديد الأميركي
أخطر ما يصبو إليه الإيرانيون توظيف قضايا دولية للدفع بسوريا إلى حرب مفتوحة تحت عنوان محاربة الإرهاب التي يعزف على وتيرتها الإعلام الإيراني والمصحوبة باستجداء الغرب وقوى أخرى للوقوف معها. وهي تدرك أن ورقة الحرب على الإرهاب باتت مستهلكة، وأن حقيقة التدخل الإيراني يأتي في إطار مشروع هيمنة على الإقليم يزيد من استعارها قضايا مذهبية حتى إنها صنفت كل معارضي نظام الأسد بالإرهاب, لكن دعوتها لم تعد مقبولة حتى عند حلفائها الروس.
وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على التدخل العسكري الإيراني في سوريا, لم تستطع التقدم على الأرض إلا بعد التدخل المكثف للطيران الروسي الذي اتبع سياسة الأرض المحروقة في إطار الحرب العدوانية ضد المدنيين, بغية تحقيق نصر عسكري يدخل في الحسابات الدولية, لذلك أوقفت روسيا عدوانها عند أول تسوية في حلب, بينما كانت إيران تعمل على ارتكاب مجازر كبيرة تطال كل المدنيين بدعاوى مذهبية, ومن هنا يتضح الخط البياني الفاصل بين أهداف إيران الإيديولوجية, والمصالح الروسية, وأصبحت الخلافات تظهر علنا إثر اتفاق حلب الذي أوقف الحرب, وأفضى إلى تهجير المدنيين والمسلحين من المدينة دون علم إيران وحليفها نظام الأسد.
حيال هذا الخلاف المعلن الذي تجسد في حلب لاشك أن ما يجري هو استمرار متصاعد للخلاف الروسي الإيراني, وعبر عن ذلك كلا الطرفين سواء في قضية الأسد من حيث استمراره في السلطة أو مستقبل الميليشيات الإيرانية, أو العلاقة الروسية الاستراتيجية مع إسرائيل, وأطماع إيران في الحصول على منفذ بحري في سوريا, ولا شك أن تغييرا طرأ على نمط التعامل الروسي مع إيران وفق تفاهمات مع الولايات المتحدة وإسرائيل, وتركيا, في إشارة إلى أن القرار بيد روسيا وما على إيران سوى التنفيذ, وتعهدت روسيا بتحجيم الدور الإيراني المتعاظم في سوريا، وتحول العلاقات الروسية الإيرانية في أبعادها العسكرية والسياسية والاقتصادية, بدأت بالظهور منذ التدخل العسكري الروسي في سبتمبر/أيلول عام 2015م, , وقد صرح رأس النظام الإيراني حسن روحاني أن التنسيق مع روسيا لا يعني أن طهران توافق على كل خطوة تقوم بها موسكو في سوريا. وتصر روسيا على المضي في التسوية السياسية وتدرك أن اهتمامات إيران هي التوسع في المنطقة ولا تتعدى منافستها لتركيا وإسرائيل والسعودية. وتعلم أن إيران تدور في فلك السياسة الأميركية وخاصة في التعاون على مدى عقود في أفغانستان والعراق واليمن والبحرين ولبنان وفلسطين وسوريا, وموقف أميركا المتواطئ مع إيران في ملفها النووي, وما الشتائم الإعلامية الإيرانية ضد أميركا إلا وسيلة للاستهلاك الإعلامي المحلي, بينما الموقف الرسمي الإيراني يتجلى في خدمة المصالح الأميركية, ولكن إدارة الرئيس الأميركي الجديد ترامب ترى أن الأطماع الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط راحت تتجاوز المهام الموكلة لها لذلك جاءت تصريحات واشنطن شديدة اللهجة بما يخص عمليات القرصنة الإيرانية في مضيق باب المندب أو تجارب إيران الصاروخية.
في الواقع، إن المجتمع الدولي الذي يراقب المشهد السوري تبدو له صورة نفوذ الإيرانيين على نظام الأسد واضحة جدا, فهيمنة ملالي طهران على نظام الأسد ليست محل نقاش, فلولا ميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية، والإيرانية بالطبع, لانهار نظام الأسد منذ سنوات، لذلك تدرك روسيا أن تخلي إيران عن الأسد يعني نهايته وانهيار قواته المنهكة.
التفاهمات السياسية حول سوريا وآفاق المواجهات
بعد عودة العلاقات الروسية - التركية بدأت روسيا تتوجس من الامتداد التركي من الباب إلى الرقة ومنبج مما سيؤدي إلى ترسيخ المناطق الآمنة التي تحول روسيا ضد إقامة أي شكل من أشكال المناطق في سوريا ولاسيما مناطق يحظر فيها الطيران، التي لن تكون خاضعة لسيطرة نظام الأسد.
وتنصب الجهود الروسية حاليا على عدم إتاحة المجال للجيش السوري الحر والقوات التركية الخاصة لتنفيذ مرحلة ما بعد "الباب", وتعمل روسيا على دعم الميليشيات الإيرانية, وقوات نظام الأسد للتمدد باتجاه مطار الجراح وبلدة مسكنة لقطع الطريق أمام الجيش الحر بهدف ترسيخ مواقعها أكثر وإملاء شروط موسكو وحلفائها في التسوية التي لم تتضح آفاقها السلمية بعد.
ومع وصول إدارة جديدة للبيت الأبيض ووعود دونالد ترامب بالقضاء على تنظيم "الدولة" أعطى أنقرة فرصة جديدة في أن تلعب الدور الرئيسي في مكافحة "الإرهاب" في سوريا، مما سيدفع بروسيا إلى التراجع عن دورها الذي تقوم به في التسوية السياسية السورية حسب مصالحها, وهو ما لا سيقبل به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يتعامل مع القضية السورية بعقلية القيصر بهدف إعادة أمجاد بائدة بإيديولوجيا مغايرة, بالتوافق مع الولايات المتحدة في عهد إدارة أوباما, ولم تبتعد الإدارة الأميركية الجديدة عن سياق هذا التفاهم, بصرف النظر عن المشادات الإعلامية التي هي بمثابة وسيلة للاستهلاك الإعلامي, بينما الموقف الرسمي يتجلى في خدمات استراتيجية متبادلة بين الطرفين في سوريا خاصة, وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. وفي التفاهمات الأميركية - الروسية الأخيرة جاء الاتفاق على بيانات مشتركة تقضي بأن يكون الحل السياسي في سوريا يخص السوريين وحدهم بمعنى إبعاد أي دور إقليمي في سوريا المستقبل مع التركيز على حفاظهما للأمن القومي الإسرائيلي من خلال فدرلة سوريا أو تقاسمها مناصفة كما هو الوضع الراهن, حيث لروسيا الساحل السوري وحلب وادلب تتصرف في هذه المنطقة كما تشاء وترسيخ قواعدها في الساحل السوري, وللولايات المتحدة السيطرة على المنطقة الشرقية مع توسيع قواعدها في المنطقة الشرقية في الرميلان وكوباني.
إلى ذلك ثمة هواجس روسية من حدوث مواجهات عسكرية بين الجيش السوري الحر المدعوم من أنقرة, والميليشيات الإيرانية في ريف حلب الشرقي وتسعى روسيا للحيلولة دون نشوب صراع عسكري منعا لتعكير الاستراتيجية الروسية في التسوية السياسية الجارية في جنيف والتي مهدت لها بالتفاهم مع أنقرة في الآستانة.
خلاصة:
ثمة سؤال يلوح في الأفق السياسي, هل يمكن، انطلاقاً مما سبق، أن تتوصل أنقرة وطهران إلى صيغة توافقية لإيجاد تسوية سياسية تضع حدا للحرب السورية؟
يبدو، نظريًا، أنّ سياق التغيّر الروسي يتجه نحو تسوية سياسية رغم حقل الألغام الإيراني الذي يعترض اتفاق وقف إطلاق النار، والحل الروسي، وعرقلة جنيف4، إذ أن طهران تصر على الحسم العسكري في جميع المناطق السوريّة، وكذلك غموض موقف إدارة الرئيس ترامب, وتصاعد الموقف التركي المنافس الأكبر لإيران في المنطقة.
هذه التطورات المتلاحقة توجب على المعارضة السورية مراقبة الواقع الميداني بدقّة، لمحاولة فهم تغير الاستراتيجية الروسية, ومحاولة قراءة موقف الجمهوريّين الأميركيين, كل ذلك لمحاولة فهم واستيعاب التذمر الروسي من السلوك الإيراني تزامنا مع التركيز أكثر على الولايات المتحدة، فالقرار الأميركي الحاسم هو ما تنتظره القضية السورية.
أخيرا تدرك الأطراف الدولية أن إيران لا تملك منفردة الإمكانات الاستراتيجية أو العسكرية أو حتى السياسية لحسم المعركة لمصلحة حليفها الأسد, في الوقت الذي تبدو فيه تركيا جادة للمشاركة في إيجاد تسوية سياسية تضع حدا للحرب السورية. وهذا توجه جميع الأطراف الدولية والإقليمية بعيدا عن عربدة إيران وحليفها الأسد.