بلدي نيوز- (تركي المصطفى)
مقدمة:
يمثل التصعيد العسكري للروس في محافظة إدلب والمناطق المحررة المحيطة بها الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة السورية المسلحة؛ استمرارا لاستراتيجيتها في سوريا باعتبار أن مخرجات "سوتشي" الابن المشوّه لـ "آستانا"، الأكثر فاعلية والأسبق في التنفيذ من أي مسعى سياسي قدمته الأطراف الدولية في جنيف، أو في التفاهمات الثنائية بين واشنطن وموسكو لفرض السيطرة الروسية بالقوة المسلحة على البلاد كلها، ونسف كل مبادرات السلام التي دعت إليها في "أستانا" بعد الالتفاف عليها طويلاً، وفق استراتيجية من يجيد تقدير الموقف من الحسم العسكري تقديراً دقيقاً، لذلك اعتمدت روسيا منذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015م، أسلوب المخاتلة السياسية وفق استراتيجيتها في " التفتيت الاستراتيجي" لضرب القوى المعارضة لها، وبناء تحالفات إقليمية لتوظيفها في خدمة مصالحها.
فقد استغلت حادثة إسقاط تركيا لطائرة " السوخوي 24" والأحداث الداخلية التي عصفت بتركيا عام 2016، وما تلاه من توتر في العلاقات التركية مع دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، إثر فشل محاولة الانقلاب العسكري وإجبار أنقرة على العمل مع موسكو في الملف السوري عبر اعتماد مسار سياسي مغاير لما تم التوصل إليه في جنيف، وبذلك أوصدت موسكو الأبواب أمام أيّ مسعىً حقيقي للسلام وفق القرارات الدولية، ونسف حتى القرارات التي التزم بها بوتين مع الرئيس التركي في "سوتشي" في إشارة واضحة إلى الابتزاز السياسي الذي يجيده الروس، بهدف الهيمنة المطلقة على سوريا بصرف النظر عن تشدقهم بمحاربة "الإرهاب"، حيث يدعي الروس أنه حيثما تسقط قنابل طائراتهم يكون عناصر "الإرهاب"، فيما قتلت قنابلهم وصواريخهم أضعاف ما قتله تنظيم "داعش" من المدنيين بعشرات المرات.
وبعد ذلك تجلّت الاستراتيجية الروسية في سياقات متعددة، تتلخص في كيفية انتزاعها عناصر الأهمية التي كانت تشغلها المعارضة المسلحة في المنطقة المحررة لتقوية موقفها العسكري والاقتصادي، وما أتاحته الاتفاقيات والهدن المحلية التي رعاها الروس من عملية التهجير المنظم للمقاتلين والأهالي، ومن ثم القضم التدريجي للمساحات الشاسعة في جنوب سوريا وفي المنطقة الوسطى والبادية السورية، وتقلصت مساحة سيطرة المعارضة إلى بقعة جغرافية واحدة في أقصى الشمال السوري "إدلب وأجزاء من أرياف حماة وحلب واللاذقية"، فيما باتت روسيا تحتل مجمل الساحل السوري وكافة المناطق التي خسرتها المعارضة المسلحة.
علاوة على هذه الأهداف؛ تسعى روسيا وفق استراتيجيتها إلى تحقيق أهداف ذات ارتباط ببتر أذرع شريكها الإيراني، اعتمادا على استراتيجية لافروف في سياسة الخطوة خطوة، أو ما يسمى بسياسة الهيمنة المرحلية في السيطرة على معاقل النفوذ الإيراني، حتى تمكنت من حصر النفوذ الإيراني في معقله الأخير في جنوب مدينة حلب، فيما تكفلت "إسرائيل" بالاتفاق مع روسيا باستمرار استهداف الميليشيات الإيرانية في الجنوب السوري وفي محيط العاصمة دمشق.
هذه الاستراتيجية مكنت روسيا من الهيمنة على معاقل نظام الأسد وتحجيم النفوذ الإيراني، وتقليص نفوذ المعارضة المسلحة وجعلتها قادرة على تحريك الأطراف الفاعلة في التنازع على سوريا، ويمكن رصد الاستراتيجية الروسية وفق المحاور التالية:
حلف آستانة والتخلص من المعارضة السورية
بعد عملية تهجير عشرات آلاف المدنيين والمقاتلين المعارضين من شرق حلب؛ بدأ الروس استثمار الملف سياسياً وباشروا الحديث عن استئناف العملية السياسية بالشراكة مع تركيا، فاختار الروس كازاخستان في أواسط آسيا لإطلاق عملية تفاوضية بعيدة جغرافياً عن جنيف، مقر جولات التفاوض السابقة بين المعارضة والنظام برعاية أممية، للالتفاف على مقررات جنيف السابقة وفرض حل سياسي بعيداً عن القوى الغربية التي تراجع حضورها في الملف السوري، والتي بات دورها يقتصر على التنديد والاستنكار والاكتفاء بالتعبير عن القلق والشجب والاستنكار وطرح مشاريع تصطدم دوما بالفيتو الروسي في مجلس الأمن الدولي. لذلك تعمل موسكو على التفرد بالملف السوري بعيدا عن الرقابة الدولية في الأمم المتحدة ضاربة بعرض الحائط كل القرارات الأممية المتعلقة بالملف السوري.
تصاعدت الخلافات الروسية الإيرانية في قضايا مهمة تتعلق بعرقلة إيران للهدن والاتفاقيات التي رعتها روسيا، وأهداف كل منهما حول مصير الأسد، وفي محاولة إيران السيطرة على منفذ بحري على الساحل السوري، والإرادة الإيرانية في الاحتلال بأبعاده الإيديولوجية الطائفية. في الوقت الذي باتت الميليشيات التابعة لروسيا تسيطر على مجمل مناطق الساحل السوري، وكذلك تهيمن على أرياف حماة واللاذقية وإدلب، وثمة تزايد في قدرات هذه القوات وتوسع انتشارها، وبالنظر إلى هذه الخلافات ونتائجها؛ تتكشف أبعاد الاستراتيجية الروسية في إضعاف النفوذ الإيراني في إطار التنافس على الهيمنة وذلك بالاستفادة من استقلالية التشكيلات العسكرية التابعة لها، ومن ميزة الاستفادة من المناطق الاستراتيجية التي أزاحت منها الميليشيات الموالية لإيران ومنها: المعابر الواصلة بين مناطق نفوذ المعارضة وتلك الواقعة تحت نفوذ الأسد، بالإضافة إلى نقاط المراقبة العسكرية المنتشرة في أرياف ثلاث محافظات علاوة على قواعدها العسكرية في الساحل السوري، وإمكانية اضطلاعها بدور كبير في أي صدام قد يندلع بينها وبين إيران التي انحسر ثقلها العسكري في ريف حلب الجنوبي، فيما تكفلت "إسرائيل" بالاتفاق مع روسيا على مواصلة استهداف الميليشيات الإيرانية في الجنوب السوري وفي محيط العاصمة دمشق.
الهيمنة الروسية المطلقة على قرار الأسد
شكلت روسيا بشكل تدريجي قوات كبيرة في سوريا عمادها الفيلق الخامس اقتحام، وصنعت شخصيات عسكرية كـ "سهيل الحسن" لتعبئة طاقات العلويين المنهكة في العام 2015م، وهو عام التدخل الروسي، حينها كانت إيران تلعب الدور الأساسي في الهيمنة على قرار الأسد، لهذا ارتكزت استراتيجية روسيا على محدد رئيسي هو: تشكيل قوات بهدف تحقيق أهداف تدخلها في سوريا، ويتمثل الإطار العام لهذه الاستراتيجية في إضعاف ميليشيات الأسد، وخلق انطباع سلبي داخليًّا وخارجيًّا إزاء قدرتها على تحقيق أي تقدم على الأرض دون الغطاء الجوي الروسي، ومن ثم راحت موسكو تعمل على التغلغل في مفاصل النظام اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، حيث سحبت العديد من ضباط الأسد لصالح تنفيذ أجنداتها، وفي مقدمتهم العقيد "سهيل الحسن" العميل السابق لإيران، وقد لعب "الحسن" دورا كبيرا في تطويع العدد الأكبر من العلويين في الميليشيات التابعة لروسيا، واعتمدوا على شخصيات سياسية ودينية نافذة وتحويلها إلى ذراع روسيا من خلال دعمها وتنسيقها مع كافة الأجهزة الأمنية لسحب العناصر المحليين من الميليشيات الإيرانية وتطويعها في الفيلق الخامس، مقابل رواتب شهرية تتراوح بين (200- 400) دولار بحسب رتبة المتطوع، كما قامت روسيا في التحكم بالمعابر الرابطة بين مناطق نفوذ المعارضة وتلك الواقعة تحت نفوذ نظام الأسد، وآخر ما قامت به روسيا هو طرد عناصر مكتب أمن الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد من معبر مورك، علاوة على السيطرة على الشريط الساحلي السوري بما يحوي من موانئ ومطارات وإقامة قاعدتين عسكريتين الأولى جوية في مطار حميميم شرق مدينة اللاذقية، والقاعدة الأخرى بحرية قبالة مدينة طرطوس، وأقاموا نقاطا عسكرية برية شملت معظم المنطقة الجبلية الغربية معقل الطائفة العلوية ومسقط رأس الأسد، مما قيّد حركة الأسد في حال تفكيره في التحول للحضن الإيراني بعد تبني الروس لعدة شخصيات عسكرية ومدنية علوية.
مستقبل العلاقة بين حلفاء "آستانا"
تتمحور الاستراتيجية الروسية حول تقاسم مناطق النفوذ في سوريا بين أضلاع حلف "آستانا"، بعدما باتت في المنظور الروسي أشبه بذبيحة تحاول الاستحواذ على الحصة الأهم منها، في محاولة لإخراج الجميع من حساباتها المستقبلية، على الرغم من تمسكها بادّعاء البحث عن مصالح السوريين وحقوقهم، لنصبح في الآونة الأخيرة أمام مشهد يوضح بجلاء أن لا قيمة لحلفائها مهما كان موقفهم أو اتجاههم، لكن لا يعني أنّ التضارب الاستراتيجي بين أطراف "آستانا" إهمال أهمية اتفاق "سوتشي"، ولا تجاهل تأثيره، لكنه يشخِّص الكيفية التي عمد من خلالها الروس إلى استثماره بما يلائم محددات مصلحتها، ومن الواضح أن الخلل في آلية تنفيذ "سوتشي" سيمثِّل محطة فارقة في علاقات تركيا وروسيا، لأنه هذه المرة سيستهدف تركيا وأمنها بصورة مباشرة، ويبدو أن روسيا تتصرف على أساس أن تركيا هي الطرف الأضعف في الشراكة البينية في سوريا، وعملت على استخدامها جسرا لتحقيق أهداف تعزيز سيطرة نظام الأسد والظهور بمظهر المنتصر.
ولكن أنقرة وطهران تؤكدان من خلال تعزيز تواجدهما العسكري في المنطقة العازلة على أنهما ليستا الطرف الأضعف، كما يرى شريكهما الروسي، وأن بنود "سوتشي" لا يمكن أن تنفذ دون أخذ مصالحهما في الاعتبار، إلّا أنّ مؤشرات تحول إدلب إلى مصيدة من خلال تنفيذ "سوتشي" قد تدفع إلى المواجهة المباشرة بين تركيا وروسيا وإيران، خاصة بعد تصاعد الدور الروسي في سوريا واستعجاله لإنجاز تسوية سياسية تلبي مطامعه في الهيمنة المطلقة على سوريا.