بلدي نيوز – (تركي المصطفى)
مقدمة
مع بدء تنفيذ المرحلة الثانية من بنود اتفاق "سوتشي" المتفق عليه بين تركيا وروسيا يوم 17 أيلول/سبتمبر الماضي، لا تزال الكثير من المدن والقرى المحررة تحت تهديد الصواريخ، التي تطلقها ميليشيات إيران وقوات النظام، من المناطق الشطرية الواقعة تحت نفوذ روسيا وحلفائها.
وكأحد سكان " المنطقة العازلة" فقد عايشت كغيري العدوان الجوي الروسي المدعوم بميليشيات إيران وقوات النظام ضد المناطق المحررة، ونعايش الآن تنفيذ اتفاق سوتشي، وبالإمكان الحديث عن الشكل النهائي للمنطقة العازلة بحسب استراتيجية الروس، مما يسهل تفسير ما يجري من تنفيذ بنود الاتفاق الذي يقودنا إلى استنتاج بديهي، بأن روسيا في الاتفاق الذي رعته لا تعمل على تحقيق أي تسوية سياسية تفضي إلى سلام في سوريا.
ومن أبرز الوقائع المؤكدة على هذا المذهب، توظيف كل الهدن السابقة التي أبرمتها مع المعارضة وقضمت بنتيجتها كل المناطق المحررة في حمص ودمشق والجنوب السوري، ومن دواعي دوافع تبني روسيا وأحلافها عدوانها المرتقب ضد المناطق المحررة، هو ما يمكن ملاحظته من تصرفات وتصريحات تفيد بتقديم خيار العدوان على خيار السلام، وهذا ما لوّح به وزير خارجية نظام الأسد "وليد المعلم" الذي أكّد على أن "قوات نظامه" تتواجد في منطقة إدلب، وجاهزة للتحرك عسكريا رغم ما أنجز في المرحلة الأولى من سحب السلاح الثقيل من المنطقة بحسب نصوص الاتفاق.
وتعدّ المرحلة الثانية من الاتفاق الذي ينص على إخراج "الفصائل الراديكالية" من المنطقة العازلة، اختبار حقيقي للشراكة التركية الروسية من خلال التفاهم على تمديد تنفيذ هذا البند، باعتبار "هيئة تحرير الشام" تشغل غالبية نقاط الرباط في المنطقة المتفق عليها، والتي كان من المفترض إخلاؤها بحلول 15 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي.
وفي أول تعليق لها على الاتفاق الروسي - التركي، لم تأت "هيئة تحرير الشام" على ذكر المنطقة منزوعة السلاح، وفي موازاة تقديرها جهود تركيا من دون أن تسميها لـ "حماية المنطقة المحررة"، حذرت من "مراوغة المحتل الروسي"، وأكدت أنها "لن تتخلى" عن سلاحها و "لن تحيد عن خيار الجهاد والقتال سبيلاً لتحقيق أهداف ثورتنا".
لذلك، يشي الهدف السياسي من الوفاق الروسي التركي في المحافظة على سريان الاتفاق في هذه المنطقة الحساسة، نظرا لأنها قابلة لأن تتحول المنافسة فيها إلى الانفجار الذي يفتح باب الخطر على مصراعيه، خاصة بعد الانفراج والعودة إلى العلاقات التقليدية بين واشنطن وأنقرة، إثر تسوية قضية القس الأميركي.
وبذلك فالعراقيل التي تواجه تطبيق سوتشي تعود في أساسها إلى تغيّر ساحة الصراع، حيث لم يعد هناك "معارضة ونظام"، بل خمسة متصارعين؛ "الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وتركيا وإيران"، كأطراف أساسية في التنافس على سوريا.
المنطقةُ العازلة حولَ إدلب بلا أسلحةٍ ثقيلة
بعد إنشاء المنطقة منزوعة السلاح بعمق 15-20 كم، أنجز سحب الدبابات وراجمات الصواريخ المتعددة والمدفعية ومدافع الهاون الخاصة بفصائل المعارضة، من داخل المنطقة منزوعة السلاح المشار إليها، وذلك بتاريخ 10 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، وفي السياق؛ أعلن الكرملين أمس أن الاتفاق الذي ينص على إنشاء منطقة عازلة في محافظة إدلب شمال غربي سوريا "قيد التنفيذ".
وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف: "بالاستناد إلى المعلومات التي نحصل عليها من عسكريينا، يتم تطبيق الاتفاق، وجيشنا راض عن الطريقة التي يعمل بها الجانب التركي"، مما يعني تحقيق روسيا مما يلي:
أولاً؛ تجريد المعارضة من السلاح الثقيل في المنطقة العازلة، لأن بقاء هذا السلاح بيد فصائل المعارضة يعني وجود هذه الفصائل سياسيا ضمن معادلة الصراع السوري الدائر، ومع إبعاد هذا السلاح عن المنطقة العازلة حققت روسيا نتيجتين:
• خروج فصائل المعارضة من المعادلة السياسية، لذلك كانت الحملة الروسية ضارية ضد سلاح المعارضة دون الحديث عن الأسلحة الثقيلة لنظام الأسد، وهذا يعني أن البلدات والقرى الواقعة ضمن المنطقة العازلة ستؤول للسقوط في حال شنت قوات الأسد هجوما على هذه المنطقة.
• تعميق التناقضات بين فصائل المعارضة "الجبهة الوطنية ضد هيئة تحرير الشام"، وغدا "هيئة تحرير الشام ضد حراس الدين"، دون أن تدرك تلك الفصائل مخاطر ما ترمي إليه الاستراتيجية الروسية من خلال إنهاكها واستنزافها، باعتبارها امتدادا للقوة العسكرية التي تصدت لعدوان الأسد بين عامي " 2012- 2017 "، وبالتالي فإن الهدف الأبرز لاستراتيجية روسيا من خلال المنطقة العازلة هو تدمير فصائل المعارضة.
ثانيا: تحطيم القوة المسلحة للثورة السورية، ووضع كل الفصائل بشكل تدريجي في سلّة "الإرهاب" وانتفاء أي مجال لعمل عسكري ضد ميليشيات نظام الأسد وإيران وروسيا، فالنصوص المعلنة في سوتشي هي عدم المساس بهذه القوى المحتلة.
ومع إصرار روسيا على فرض المنطقة منزوعة السلاح في عمق أراضي المعارضة، هذا يعني أن كامل المنطقة الواقعة جنوب طريق حلب ــ اللاذقية، وشرق طريق حلب – دمشق، أي ثلثي المساحة التي تسيطر عليها المعارضة باتت من دون أي سلاح ثقيل.
المرحلة الثانية: إخراج الفصائل "الراديكالية " من المنطقة العازلة دون تنفيذ
يعتبر بند إخراج الفصائل التي تصفها روسيا بـ " الراديكالية أو المتطرفة"، هو البند الأبرز من الاتفاق الذي صاغته في "سوتشي"، وتركز على تنفيذه بالقوة العسكرية إن تطلّب الأمر ذلك، أو تفريغه من مضمونه بالوسائل السياسية كما حدث في درعا وغيرها من مناطق "المصالحات".
ويتضمن هذا البند إخراج هيئة "تحرير الشام" القوة الضاربة في المناطق المحررة من خطوط المواجهة كطرف مباشر في القتال ضد نظام الأسد وميليشيات إيران في كل المناطق المشمولة بالاتفاق، ودفعها إلى عمق المناطق المحررة كوسيلة من وسائل قفل الأبواب أمام أي محاولة للهجوم ضد قوات الأسد، ولكن "هيئة تحرير الشام" تعمل وفق براغماتية واضحة، من خلال تأكيدها أنها "لن تتخلى" عن سلاحها و "لن تحيد عن خيار القتال سبيلاً لتحقيق أهداف ثورتنا"، من دون أن تأتي على ذكر المنطقة المنزوعة السلاح. وأبدت الهيئة في بيانها تقديرها لمساعي تركيا من دون أن تسميها.
وجاء في البيان؛ "نقدر جهود كل من يسعى في الداخل والخارج إلى حماية المنطقة المحررة، ويمنع اجتياحها وارتكاب المجازر فيها"، لكنها حذرت من "مراوغة المحتل الروسي أو الثقة بنواياه ومحاولاته الحثيثة لإضعاف الثورة"، مضيفة، "هذا ما لا نقبل به بحال مهما كانت الظروف والنتائج"، ولم يتضمن موقف "هيئة تحرير الشام" رفضاً صريحاً للاتفاق.
وتحمل مصطلحات البيان وصياغته، تلميحا في القبول الضمني وكذلك الرفض لاتفاق سوتشي ومخرجاته، وهو ما شكل اختباراً لقدرة تركيا على تنفيذ الاتفاق وفي الوقت ذاته اختبار لنوايا الطرف الروسي وجديته في استمرار الاتفاق من خلال التمسك بحرفية النص، أو إبداء ليونة مع الطرف التركي الضامن للفصائل.
وتبدو تركيا ليست متضايقة من الفصائل الرافضة لتنفيذ بند الخروج من المنطقة العازلة، لأن الرؤى المختلفة للفصائل ليست مناطة برجل أو فصيل بعينه، لذلك وجدت نفسها أمام تيار يتبنى سياستها كخيار أوحد لا يملك سواه، وتيار متصلب يقدم مجموعة مقترحات مقابل إخلاء المنطقة منزوعة السلاح باعتبارها تشكل تداعيات خطيرة على أمن ومستقبل باقي المناطق المحررة.
وفي هذا السياق؛ قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أمس الأربعاء للصحافيين؛ "إن التأخير لمدة يوم أو يومين في إنشاء المنطقة منزوعة السلاح لن يُحدث فرقاً".
ثغرات الاتفاق وطوارئ سياسية تجبر روسيا على تمديد المهلة
تدرك روسيا أنه من الصعب تطبيق الاتفاق وفق المهلة المنصوص عليها في سوتشي، وبالتالي يتطلب الأمر المزيد من الوقت مع انتهاء مهلة خروج فصائل المعارضة المعنية يوم الاثنين الماضي، لكن روسيا تكثف جهودها لتنفيذ الاتفاق ولذلك منحت تمديدا إضافيا للمهلة المحددة، وهي منحة أكرهت عليها لأن الجزء المنشور من الاتفاق يحتوي على ثغرات، من بينها عدم تسمية الفصائل المعنية بالخروج من منزوعة السلاح، إنما اكتفى نص البيان بالإشارة إلى مجموعات "راديكالية"، ولم يحدد آلية تراقب تنفيذ هذا البند، تزامنا مع دعوة واشنطن تحريك العملية السياسية المجمدة في سورية، ووصول جيفري المبعوث الأميركي إلى سوريا، ولقائه بأعضاء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة.
من هنا، سارعت روسيا بعد انقضاء المهلة المحددة، بالاتفاق مع الضامن التركي على تمديد مهلة تطبيق المرحلة الثانية من اتفاق إدلب، والتي تشمل انسحاب الفصائل "الراديكالية" من المنطقة منزوعة السلاح، و قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف: أن اتفاق إدلب "قيد التنفيذ"، وأضاف "بالاستناد إلى المعلومات التي نحصل عليها من عسكريينا، يتم تطبيق الاتفاق، وجيشنا راض عن الطريقة التي يعمل بها الجانب التركي"، فيما قال وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو: "لا يوجد أي مشكلة في سحب السلاح الثقيل، ولا يبدو أن ثمة مشكلة في انسحاب بعض المجموعات المتطرفة من هذه المنطقة".
وأضاف: "بالتأكيد، إنها عملية مستمرة"، في إشارة تركية واضحة في تحذيرها من مغبة المساس بالاتفاق، وبالأخص نظام الأسد الذي يهدد باللجوء إلى القوة العسكرية في حال عدم تطبيق بنود الاتفاق، ليصطدم بإعلان الرئيس أردوغان الذي قال في غير مناسبة إنّ "مستقبل إدلب لا يتعلق بمستقبل سوريا، بل بمستقبل تركيا "، وهذا تحذير واضح إلى من تراوده نفسه في العدوان على مناطق النفوذ التركي، وهذا ما تعيه إيران في الوقت الذي تزداد فيه الدعوة الأميركية إلى إخراجها نهائيا من سوريا، مقترنة بتكثيف العقوبات الاقتصادية ضدها، ولا تريده روسيا في الظروف الماثلة التي تسعى لبناء شراكة استراتيجية مع تركيا لإبعادها عن حلفها التقليدي مع دول الغرب، دون إهمال لجوء روسيا إلى تخريب الاتفاق في حال لم يخدم مصالحها.
خاتمة
يبدو أن ثغرات بنود اتفاق سوتشي متعددة، وبالإمكان إضافة ثغرة أخرى تتمثل في عدم وجود إدارة تضع حدا لوقف تعديات نظام الأسد المتكررة على المنطقة التي باتت بلا أسلحة ثقيلة، وفي حين نفذت فصائل المعارضة بكافة تياراتها كل البنود التي تخصّها في هذه المناطق، فإن نظام الأسد لم ينفذ بندا واحدا يخصّه لا في المنطقة العازلة ولا في وقف إطلاق النار، بل فسّر الاتفاق على أنّه يحميه في حال زحفه لتطويق المنطقة المنزوعة السلاح والتي تشكل ثلثي المناطق المحررة، ولكن روسيا مضطرة للهدنة والتهدئة في تنفيذ الاتفاق نتيجة للموقف الدولي الذي يعتبر شريكا بالاتفاق، ولأنها لا يمكن لها إطلاق معركة بقوات الأسد المهترئة، والأهم من كل ذلك إدخال القوات التركية سلاحها الثقيل إلى المنطقة العازلة، مما يعني في حال التصعيد العسكري، اقتراب كافة الأطراف من ميدان القتال في لحظة من اللحظات.
من هنا أبدت روسيا مرونة في تمديد تنفيذ الاتفاق في مرحلته الثانية، باعتباره الخيار المتاح حاليا لتحقيق مصالحها.