بلدي نيوز
يعكس الإرث الموسيقي لسوريا تاريخا حيا، وثقافات متنوعة تتجاوز السياسات والحروب الراهنة، فهذا البلد العريق ربما أعطى العالم أولى أغنياته.
الموسيقى في سوريا متأصلة في نسيج المكان أكثر من أي بقعة أخرى، فقبل آلاف السنين من إنشاء سوريا الحديثة عام 1946، عرفت تلك البلاد إرثا موسيقيا ثريا.
وفي خمسينيات القرن الماضي عثر علماء الآثار على 29 لوحا من الصلصال ترجع لنحو 3400 عام مضت، داخل ما يشبه مكتبة صغيرة وسط أطلال مدينة "أوغاريت" القديمة على ساحل المتوسط.
وقد تحطم أغلبها إلى قطع صغيرة، إلا لوحا واحدا صُنف تحت اسم (إتش-6) كان قد انقسم إلى قطع كبيرة، وحين جُمعت معا، شوهدت فوقها أبيات شعرية مصحوبة بما يعتقد الباحثون أنه أول نموذج لكتابة موسيقية في العالم.
ومثلت قطع الصلصال تلك بدايات إرث موسيقي لا يضاهيه إرث آخر، وأمضى الأكاديميون سنوات محاولين جمع بقايا ذلك اللوح، وفك شفرة ما كُتب عليه من كلمات وموسيقى، والتي اكتشف الباحثون أنها نُقشت بالخط المسماري البابلي، وهو الخط الذي انتشر في المنطقة قبل آلاف السنوات.
ويقول ريتشارد دامبريل، أستاذ الآثار الموسيقية بجامعة بابل بالعراق، والذي ظل يدرس ألواح مدينة "أوغاريت" العتيقة لأكثر من عقدين: "أمكننا قراءة الخط المسماري البابلي بهذا اللوح دون فهم اللغة التي نُقش بها بالتفصيل"، واصفا كيف حاول مرارا تصور الشكل الأصلي للألواح ليترجم النص والموسيقى، مستعينا بصور التقطها للقطع التي حاول تجميعها، "غير أن بعضها كان تالفا بشكل حال دون قراءته".
وتمثلت صعوبة الترجمة في أن النص كان باللغة الحورية التي انحدرت من شمال شرقي القوقاز (في أرمينيا الحالية على الأرجح) قبل وصولها إلى سهول سوريا الخصيبة.
ويقول دامبريل: "هاجر مستوطنون باتجاه شمال غربي سوريا على مدار ألفي عام، وتبنوا النقوش البابلية لكتابة نصوصهم وموسيقاهم. ومن ثم كان من غاية الصعوبة ترجمة المكتوب. لكن أمكنني التأكد من أن النص المصاحب ضم تسميات موسيقية حورية-بابلية تأكدت من كونها لحنا موسيقيا، واستغرقت ترجمته قرابة عشرين عاما".
ويستخلص دامبريل من ترجمته أنهم كان يتغنون في مناسبات شتى ولا يقتصر غناؤهم على الإنشاد الديني. ويقول إن إحدى الأغنيات تحكي عن فتاة حانة تبيع الجعة. أما اللوح الذي يحمل اسم (إتش-6) فيروي قصة مختلفة.
يقول دامبريل: "يحكي اللوح عن فتاة شابة لا تُنجب، وتظن أن عدم إنجابها جراء إثم ما ارتكبته دون أن يأتي اللوح على ذكره. وما نفهمه من النص، وهو القدر المحدود، تذهب الفتاة ليلا لتبتهل للإلهة نيغال، إلهة القمر، حاملة قدرا من بذور السمسم أو زيت السمسم كي تقدمه لها. هذا كل ما نعرفه عن النص".
ولم تمتز سوريا بأنها أخرجت للعالم أول لحن موسيقي فحسب، بل أبدعت تلك المنطقة على مر الزمن آلات موسيقية متنوعة لعزف الألحان، منها قيثارة تشبه الطوق تقطعه عارضة شدت إليها الأوتار، والأعواد التي تطورت حتى وصلت لشكل العود العربي الحالي ذي الطابع الشرقي المميز.
وعثر الباحثون خلال القرن العشرين على مجموعة من السجلات تشير إلى احتراف صناعة الآلات الموسيقية بدويلة "ماري" التي تعود إلى العصر البرونزي والتي كانت تقع على ضفاف الفرات شرقي سوريا الحالية.
يقول دامبريل: "وجدنا في القصر (في ماري) عددا ضخما من الألواح كانت في أغلبها عبارة عن رسائل وإيصالات لبعض الخامات التي يستخدمها الحرفيون، مثل الجلود الدقيقة وجلد الحيوانات الخشن والأخشاب والذهب والفضة، لصنع الآلات الموسيقية، ما أعطانا تصورا جيدا عن تلك الآلات التي استُخدمت قبل أربعة آلاف عام".
ويضيف: "كما وصلتنا أسماء الحرفيين، والآلات التي اشتهروا بصناعتها متأثرين بنماذج لآلات أخرى من خارج سوريا"، من بينها "الباراشيتوم" الإيراني، وهي قيثارة شاع استخدامها بين النساء الثريات في ماري.
كما استمر إنتاج الآلات الموسيقية مزدهرا في سوريا على مدى قرون، تشهد على ذلك قطع أثرية يمكن للزائر الاطلاع عليها اليوم.
المصدر: بي سي سي