بلدي نيوز- (المحرر العسكري)
لم تشهد أي حرب في العالم منذ الحرب الفيتنامية، نفس مستوى المأساة الانسانية في سوريا، والتي تختلف عنها أنها تسببت بكم غير مسبوق من النازحين واللاجئين على مستوى النزوح الداخلي واللجوء الخارجي، حيث لا يوجد فعلياً إحصائية دقيقة عن عدد اللاجئين السوريين خارج سوريا، والذين توزعوا عبر القارات ووصلوا حدود الدائرتين القطبيتين والذين تتحدث الكثير من الإحصائيات أنهم تجاوزا 7 ملايين (ثلاثة ملايين في تركيا، مليون في أوروبا، مليون ونصف في الأردن، ومليون في لبنان، أما البقية فموزعون في باقي الدول على امتداد الكرة الأرضية أو في بطون حيتان البحار وأسماكها).
فالإحصائيات لا تذكر العالقين الذين خرجوا من سوريا قبل الحرب، ولا يستطيعون العودة إليها لانهم مطلوبون للنظام، أو لاستحالة العودة وهؤلاء يبلغون مئات الألوف، اضافة لملايين النازحين داخليا إلى المناطق المحررة.
بالنسبة للنظام، فهو يدرك أن حربه ذات مفهوم عقائدي استراتيجي، وأهم أهدافها هو (منع تكرار الأسباب الديموغرافية لحدوثها واتجاه تطورها)، فهو سقط بسرعة في المناطق السنية، واستطاع تثبيت أقدامه في مناطق الأقليات، ما يدفع النظام (منعاً لتكرار التجربة) لتفتيت أي كتلة سنية كبيرة، وتهجير سكانها أو العمل على أقل تقدير على إعادة هندستها اجتماعياً، عبر نشر التشيع فيها، بعد إفناء الذكور فيها على الجبهات مع جيشه وميليشياته (مثل حالة ميليشيات درع القلمون)، وإبقاء الأطفال والنساء المعدومي المعيل، والذين سوف يكون من السهل اجترارهم للمؤسسات والجمعيات الطائفية ذات الواجهة "الخيرية"، والتي تقدم الأموال والدعم والتعليم مقابل التشيع والعمل على تغيير النظام التعليمي، الذي اعتبره النظام أحد أسباب انتشار "التطرف".
إضافة لقتل النظام لما يقل عن نصف مليون سوري في معتقلاته، جلهم من الذكور في عمر القتال 16 إلى 55 سنة، والنصف مليون على الأقل الذين قتلهم خلال القصف والمعارك، وعدد غير محدد بدقة من المعاقين، يجعل الوضع السوري كارثياً بكل المقاييس، وهذا الأمر ليس وليد عمليات عسكرية فقط، بل هو سياسية ممنهجة لتدمير قدرة القتال والمواجهة لدى المدنيين في المناطق التي ثارت على النظام، إضافة للعملية الأكثر سرعة بالنسبة له وهي التهجير من المناطق المستهدفة، بهدف تغيير البنية الديموغرافية للمنطقة، وتقوية نفوذ النظام في المناطق الأكثر عرضة لتكرار هذا السيناريو، وانشاء نقاط تحكم وسيطرة طائفية فيها، تعتمد على مواليه الطائفيين وعناصر الميليشيات الشيعية الذين يوطنهم فيها.
فعلى الرغم من محوريته، موضوع اللاجئين هو أحد الأمور التي لم تناقش إطلاقاً في أي مفاوضات أو أي عملية سياسية أو اتفاق يتعلق بسوريا بشكل جدي، سواء اتفاق وقف التصعيد، أو الاتفاقات المحلية التي كانت بالمجمل تنتهي بتهجير المدنيين من مناطقهم، وتحويل من قرروا البقاء إلى عناصر ميليشيات أو معتقلين محكوم عليهم بالموت والتحول لرماد أو قطع صغيرة تخفي الجريمة في محارق الجثث أو (فرامات الشوندر) التي يستخدمها النظام لإخفاء معالم جريمته.
التجاهل السياسي لنقاش هذه الأمور يؤكد عدم جدية أي مسار سياسي للحل في سوريا، سواء أستانا أو جنيف أو أي اتفاقات متزامنة معهما، فموضوع النازحين واللاجئين هو موضوع لا يتجزأ، ولا يوجد فيه تساوي بين "الطرفين المفترضين للصراع والمفاوضات"، فمن هَجر وأجرى تطهيراً على أساس عرقي وطائفي هو النظام والميليشيات الكردية فقط، ولا يوجد أي منطقة موالية هُجرت من قبل الثوار، الأمر الذي يجعل من عملية التفاوض في ملف المهجرين غير ممكنة عملياً، فهي تعني تنازلاً من قبل النظام عن واحد من أهم مكتسباته وفقداناً لاهم أجزاء استراتيجيته بعيدة المدى في سوريا هو وإيران، فالنظام هو المسؤول الوحيد عنه، ولا يريد أن يسمح بتغيير الوضع القائم حالياً، لأنه يعتبر هزيمة صاعقة له لن يقبل بها، خصوصاً في الوضع الحالي الذي يعتبر متقدماً فيه.
فالنظام ومن ورائه إيران الذين قاتلا من أجل دخول "داريا" لخمس سنوات، وخسرا عناصراً أكثر من عدد الرجال الذين هُجروا منها على أسوارها، لن يقبلا أن يعود مهجروها إليها بأي شكل، فهما يجريان الآن كل اللازم للبدء باستثمار المقامات الشيعية التي ظهرت فيها في فجأة، بهدف تحويلها لمنطقة شيعية صرفة، وتوطين عناصر الميليشيات الشيعية فيها.
ونفس الأمر بالنسبة لسوار دمشق الاستراتيجي الذي يعمل النظام لمنع أي عودة لمهجرين إليه، كما لن يسمح بعودة الحلبيين المهجرين أو العديد من المناطق المهمة والحيوية التي لم ولن يسمح لأي من المهجرين بالعودة إليها حتى لمجرد أن يدفن.
فالنظام يعمل جاهداً بكل السبل لمنع عودة أي كتلة سنية هُجرت من مناطق انطلاقة الثورة الأولى، فهو يعتبر هذا هزيمة مطلقة له، حتى لو كان هو الحاكم، فهو يدرك أن الموضوع ليس سوى فترة حتى تبدأ ثورة جديدة، مع أي شرارة كفيلة بتفجير برميل البارود من التراكمات والظلم الذي يحاول التخلص منه، وإبقائه بعيداً عنه قدر الإمكان.
فموضوع اللاجئين هو أحد الأمور التي عمل الأسد عليها، بحيث يمنع اندلاع أي ثورة جديدة، فهو الذي تعلم من درس حماة 1982، وأدرك أن الكتل البشرية المخالفة له طائفيا ستكون بسهولة منطلقات للثورة عليه بسبب الظلم الكبير الذي يحيق بهذه المناطق عادة، فشرع في بناء أحزمة ديموغرافية، سواء في حماة نفسها، أو دمشق التي أنشأ فيها أحياء كاملة لمؤيديه الطائفيين، مثل عش الورور والمزة 86 وغيرها من المناطق التي تعتبر نقاط دفاع وسيطرة له في العاصمة دمشق، معتمدا على التخطيط طويل الأمد لتوسيعها وتعميق سيطرته على العاصمة، لكنه صدم بالاستجابة السريعة لنداء الثورة في المناطق الأخرى، الأمر الذي يؤكد أنه سوف يعمل كل ما يستطيع لمنع تكرار هذا الأمر، والمحافظة على المناطق التي هجرها خالية من أهلها الاصليين، واستجلاب مرتزقته الطائفيين وعناصر الميليشيات الايرانية، وتوطينهم مكانهم، حيث يعمل النظام حالياً بشكل مسعور على مصادرة أملاكهم وتسجيلها باسم النظام، بحكم أنهم من الارهابيين وداعميهم.
يمكن استيعاب نتيجة مهمة من موضوع اللاجئين وحده، هو أن نظام الأسد لن يقبل بأي حل سياسي مهما كان، وخاصة إذا شمل هذا الحل السياسي عودة اللاجئين إلى المناطق التي يسيطر عليها حالياً، الأمر الذي يعني بالنسبة له أن الثورة قادمة من جديد، وربما تحدث في وضع لا يسمح له بالحصول على نفس مستوى الدعم الدولي الحالي من الشرق والغرب.
لذلك فهو يتحايل ويماطل، بهدف خلق واقع على الأرض، يسمح له بمنع عودة اللاجئين بشكل قانوني، خصوصاً أن معظم المناطق التي هجرها هي مناطق تعتبر "غير منظمة- عشوائيات" الأمر الذي يعني أنه قادر قانونياً على منعهم من العودة، بحجة أنهم لا يملكون أي شيء في تلك المنطقة، وخاصة مع عدد مشاريع التنظيم الجديدة التي أطلقها أو ينوي أطلاقها في المناطق الثائرة المهجرة!.