أتلانتيك كانسل
إن انتخابات الرئاسة الأميركية سريعة النهج تجلب إمكانية حدوث تغيير في سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا، وهذا يعني إعادة النظر في أهداف روسيا وإنجازاتها المقررة هناك، وتحقيقاً لهذه الغاية جمعت SyriaSource مجموعة بيانات من نحو 400 من الإجراءات الروسية المتعلّقة بسوريا منذ عام 2011، بما في ذلك التصريحات الرسمية والإجراءات العسكرية والدبلوماسية، وما أظهرته هو أن الإدارة الأمريكية المقبلة ستواجه مشكلة روسية مختلفة تماماً عن تلك التي كانت الإدارة الحالية تتوخّاها وتتصوّرها، والتي تحمل عدم ارتياح بشأن احتمال التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض في سوريا مع روسيا (أو مع النظام عبر روسيا) تحت الظروف الحالية.
إن روسيا تقاتل في سوريا على الأقل لأحد أو بعض الأسباب التالية: حماية حليفها، تحويل الانتباه عن شبه الجزيرة الأوكرانية أو زيادة نفوذها فيها، حماية قدرتها على الوصول إلى مستودع الإمدادات البحرية في البحر المتوسط، كما أنها تسعى إلى أن تؤخذ على محمل الجد كلاعب عالمي، بالإضافة إلى محاربة الإسلاميين ووقف الحملة التي يقودها الغرب لتغيير النظام في أوروبا والشرق الأوسط، بحيث تشترك كل هذه الدوافع في حاجة مشتركة للحفاظ على بشار الأسد ونظامه، إن الأسد هو الحليف المنشود: فهو يشارك روسيا في معارضتها للإسلاميين، والذي أتاح لروسيا بشكل كامل وصولاً نافذاً إلى الأصول الاستراتيجية في سوريا، وتجديد روسيا للقاعدة الجوية حميميم ومرافق مرفأ طرطوس وتطوير المواقع الأخرى في جميع أنحاء البلاد، ليمنح ذلك روسيا موطئ قدم في المنطقة على المدى الطويل، في حين أن العلاقات العسكرية والاستخباراتية ما بين النظام وروسيا هي أيضاً قوية مثل أي وقت مضى.
وبالتالي فإن الدعم الروسي للأسد هو منطقي تماماً، فببساطة بشار الأسد هو الأكثر ترجيحاً لأن يخدم هذه المصالح الروسية من أي بديل معقول، وهذا هو السبب في أن روسيا لن تتخذ الخطوات اللازمة لفرض تسوية سياسية على الأسد (على افتراض أن الأسد سيرضخ للضغوط الروسية)، فلقد حمت روسيا بلا تردد الأسد بطرق ملموسة، بينما أطّرت الصراع على أنه حرب على الإرهابيين، وبعد فشل مبادرات الولايات المتحدة مع روسيا المتعنّتة، بات هناك افتراض بأن روسيا هي الأكثر حرصاً على الشراكة في مكافحة الإرهاب مع الولايات المتحدة من النصر الاستراتيجي في سوريا، ذلك الاعتقاد الذي تمسك به صناع القرار المؤثرين في البيت الأبيض، إلا أن تصرفات روسيا يجب أن تكون قد دحضته الآن.
وإذا ما كان هدف روسيا المباشر هو الحفاظ على نظام بشار الأسد، فإنها قامت بإحراز انتصارات مهمة لتحقيق تلك الغاية، بقوة عسكرية ومشورة روسية، يبدو أن النظام بات أكثر أمناً الآن مما كان عليه عشية التدخل العسكري الروسي في سبتمبر عام 2015، بعد أن سيطر على مناطق الثوار الرئيسية في البلاد، وقام بتسكين البعض الآخر، ووضع الثوار في حلب في حصار خانق، ولكن تدخل روسيا أنجز أشياء أخرى أيضاً، بما في ذلك تعزيز مكانتها الإقليمية، وإقناع صناع السياسة الدولية الذين يفكرون بالتدخل في سوريا بأن ذلك سيجلب لها حرباً مع روسيا، وتغيير النسيج السوري نفسه.
وعلى سبيل المثال، استخدمت روسيا التدخّل لإجبار الولايات المتحدة على وجه الخصوص على التعامل معها على أنها ندّ وعضو يجدر احترامه في المجتمع الدولي، وهذا ما يفسر السلوك الروسي في الأمم المتحدة والمحافل الدولية الأخرى، حيث اعترضت مراراً على أي اجراءات من شأنها أن تعيق الخيارات العسكرية للنظام، في حين أنها تعمل في وقت واحد في مفاوضات السلام مع أنصار المعارضة، ومن خلال هذه الاستراتيجية، استخدمت روسيا الأمم المتحدة بوصفها وسيلة شرعية، بينما وفي نفس الوقت لإجبار الولايات المتحدة على التفاوض معها، وقد خدمها الجمع ما بين إطار الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، والتي انسحبت لاحقاً بشكل نسبي، مما أتاح لروسيا تصعيد حملتها العسكرية في سوريا مع الاستفادة من تأثير إهدار المفاوضات الدولية.
لقد غيرت التكتيكات والاستراتيجيات الروسية أيضاً سوريا بطرق عميقة وعلى الأرجح لا رجعة فيها، حيث جعل التدمير الروسي من المناطق السكانية التي تسيطر عليها المعارضة والبنى التحتية المدنية لمناطق واسعة من سوريا غير صالحة للسكن، بينما غيرت الخريطة السكانية للبلاد لصالح النظام إلى حد أكبر بكثير مما يستطيع النظام بقيامه من تلقاء نفسه، في حين كان تشريد السكان أيضاً تكتيكاً متعمد.
فقد أُجبرت جماعات المعارضة المحاصرة ذات الغالبية العربية السنية على مغادرة المناطق الجغرافية الاستراتيجية نحو محافظة إدلب النائية، منذ قامت القوات الموالية للنظام، بدعم جوي روسي ومقاتلين مرتزقة، باستعادة مدينة تدمر من تنظيم الدولة في مارس 2016، وهي لا تزال تمنع السكان من العودة، بدلاً من ذلك تقوم بالسماح للميليشيات الشيعية بمصادرة البيوت والعيش فيها مع أسرهم، كما وقعت أحداث مماثلة في مدينة حمص.
وبالنسبة لدمشق فإن النظام في بعض الأحيان يقوم باستخدام وسطاء عن طريق التفاوض لوقف إطلاق النار المحلي، والذي يسري حتى يرى النظام بأنه لم يعد من الضروري المحافظة عليه، وعند هذه النقطة يجبر تلك المدن التي تسيطر عليها المعارضة على إعادة التفاوض بشروط مجحفة أو الهجوم عليها لمرة أخرى، وعلى أساس اتفاقات جديدة يجري ترحيل مقاتلي المعارضة وأسرهم.
إن تدخل روسيا أيضاً قام بتعديل حسابات القوى الإقليمية، وتقديم شراكة أو علاقة عمل على الأقل للقوى الإقليمية للمشاركة في الأهداف الأساسية، أو غير القادرة على تأمين أهدافها في غياب تورط الولايات المتحدة في سوريا، ففي العام الماضي زادت اللقاءات الثنائية ما بين روسيا ودول المنطقة، حيث اجتمع مسؤولون أردنيون وروس في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015، بعد أقل من شهر من بدء الحملة الروسية الجوية، وذلك للتنسيق العسكري فيما بينهم، وعلى الرغم من دعم تركيا للمعارضة وإسقاطها لطائرة روسية، كما تحسنت العلاقات الروسية-التركية منذ يونيو، وفي أكتوبر وقع البلدان اتفاقا لبناء خط أنابيب الغاز TurkStream تحت البحر الأسود إلى تركيا، وخارج سياق سوريا وروسيا فقد تم تعزيز العلاقات مع مصر، والتي حرص رئيسها على زيارة روسيا قبل الولايات المتحدة.
وأخيراً، إن تصرفات روسيا تمثل رادعاً نفسياً قوياً للولايات المتحدة للقيام بعمل عسكري، في الجدل حول اتجاه سياسة الولايات المتحدة في ظل إدارة رئاسية جديدة، تصرّ أصوات بارزة على أن أي تدخل أمريكي كبير في سوريا سيعني الحرب مع روسيا، والقوة النووية، وبالتالي بداية غير ممكنة.
وبعد عقود من التفكير في الحرب الباردة، هناك في الولايات المتحدة مفهوم عميق، أشبه بمعارضة انعكاسية لأي مسار لعمل يمكن أن يؤدي إلى حرب مع روسيا، في حين أن التصريحات الروسية العدائية تسعى للاستفادة من ذلك عن طريق تعزيز فكرة أن تدخل الولايات المتحدة في سوريا من شأنه أن يؤدي إلى حرب نووية، مع العلم أنه مهما كانت مصالح الولايات المتحدة في سوريا فإن الأمر لا يبرر ذلك.
إن هذا هو الوضع الذي ستواجهه الإدارة الأميركية الجديدة، أيا كانت أسسها الموضوعية، إن تورط الولايات المتحدة المحدود في سوريا منح روسيا قوة ميزة المحرك الأول والذي يعقّد بدوره من خيارات السياسة الأميركية، كما أعطى موطئ قدم استراتيجي لمنافسها التاريخي، ويسّر من ارتكاب الفظائع الجماعية في سوريا، وقوّض مفهوم النظام الليبرالي الدولي، كما بات الاعتقاد بأن روسيا تقدّر الولايات المتحدة والنوايا الحسنة الدولية أكثر من مصالحها الجيوسياسية الصعبة خاطئاً كلياً.
إن الافتراض بأن ما رأته الولايات المتحدة بأنه "مستنقع" سيتم رؤيته من قبل روسيا على أنه تصريح في غير محله، وعلى الرغم من تحذيرات الولايات المتحدة بأن الدمار والخسائر في الرأسمال البشري سيجعل من المستحيل للأسد أن يحكم سوريا، فإن روسيا لا تبدو منزعجة مطلقاً، بل وسعيدة للعمل في هذه البيئة.
يجب أن يفهم الرئيس القادم للولايات المتحدة بأن وجهات النظر العالمية والمصالح الروسية والأمريكية مختلفة، و ربما لا يمكن التوفيق بينها، وقد لا تكون سوريا هي الملف الأخير، و فقط إذا ما تم رفع التكلفة عن نظام الأسد وحلفائه بشكل مباشر أو عن طريق وكيل، وبالتالي إقناع روسيا لإعادة حساب استثماراتها في النظام السوري، وإذا ما قررت الإدارة القادمة بأن أياً من الخيارات السياسية المختلفة لتحقيق ذلك لا تستحق المخاطرة، أو أن التداعيات السلبية من مشاركة روسيا من الممكن أن تكون مقبولة، فليكن ذلك، إن الحجج والتحليلات معروفة جيداً حتى الآن، ولكن ما لا يستطيع قادة الولايات المتحدة فعله هو تجاهل أكثر من خمس سنوات من الدماء والقتل، في حين أن نصف عقد آخر من الإجرام الروسي في سوريا وآثاره الإقليمية والعالمية لن يتغير إذا ما لم تتغير سياسة الولايات المتحدة نفسها إزاء سوريا.
-فيصل عيتاني زميل رئيسي في مركز رفيق الحريري للمجلس الأطلسي في منطقة الشرق الأوسط.
-حسام أبو زهر محرر في SyriaSource.