بلدي نيوز - (ثابت عبارة)
استفاق العالم الخميس الفائت على أخبار ومشاهد حيّة تفيد ببدء تقدم القوات الروسية نحو جارتها الجنوبية أوكرانيا.
غزوٌ جاء بعد أشهر من التهديد والوعيد الروسي لكييف بذرائع واهية وتحت عنوان فضفاض هو "حماية الأمن القومي" في جمهوريات تعتبرها موسكو ضمن مجالها الحيوي، قابلته حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بمزيد من التقارب مع الغرب والإتكاء على فرضية أنّ حلف شمال الأطلسي أو "الناتو" لن يتركها وحيدة في مواجهة ثاني أقوى جيش في العالم. ومنذ ذلك الحين، يشهد العالَم من مشرقه إلى مغربه استقطابًا حادًّا لم يشهد نظيره منذ أزمة الصَّواريخ الكوبيَّة عام 1962م.
في الحقيقة، يمكن القول دون مبالغة إننا على أبواب تحوّل مفصلي في العالم قد يفضي في أقصى الحالات إلى حرب عالمية ثالثة أو إلى إعادة إحياء حقبة الحرب الباردة التي سادت في الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، وربما نشهد أوكرانيا الشرقية وأوكرانيا الغربية على غرار ألمانيا الشرقية والغربية سابقاً.. فالمواجهة الراهنة قد تتطور سريعاً وتصبح "وجهاً لوجه" ودون وكلاء بين معسكرين يُحكِمان سيطرتهما على العالم "المتحضّر"؛ معسكر مافيوي أوليغارشي لا أخلاقي تتزعمه روسيا بمساندة الصين، ومعسكر ليبرالي ديمقراطي تقوده الولايات المتحدة.
ويجادل الروس بأن عمليتهم العسكرية هي "رد فعل" على محاولة القوى الغربية قلب المعادلات الجيوسياسية في محيط روسيا والتراجع عن الوعود المقدمة سابقاً لموسكو حول احترام الحدود وتجميد توسع حلف الناتو شرقاً. وقد قدّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -المعروف بنزعته القيصرية التوسّعية- العديد من الذرائع غير العقلانية لتبرير الغزو، حيث ادعى أن هدفه من العملية العسكرية هو حماية الأشخاص الذين "يتعرضون للإضطهاد والإبادة الجماعية" في إشارة إلى الأقلية الروسية شرقي أوكرانيا، وأنه يسعى إلى "نزع السلاح والأفكار النازية" من أوكرانيا. والطريف هنا أنّ رئيس أوكرانيا يهودي الديانة، أي أنه نازي ويهودي في آن واحد وفق البروبغاندا الروسية!. أما أهداف روسيا الحقيقية من العملية، من وجهة نظري، فيمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
1. الحفاظ على العمق الاستراتيجي العازل الذي يمتد على أراضي دول الجوار من الناطقين باللغة الروسية بهدف منع الناتو من نصب منصاته البالستية بالقرب من الحواضر الروسية.
2. العمل على إعادة رسم الخريطة الجغرافيا حسب الهويات القومية والإثنية وتوزعها ضمن الدول المجاورة التي انضمت أو بصدد الإنضمام للناتو. وفي ترجمة لهذه العقيدة الجيوسياسية لموسكو رأينا كيف فرضت موسكو "استقلال" أوسيتيا الجنوبية بعد حرب خاطفة في جورجيا عام 2008، وأيضاً حين ضمّت شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014 وسهّلت قيام كيانين سياسيين مستقلين في دونيستك ولوغهانسك مؤخراً.
3. الحفاظ على شريان الإقتصاد الروسي، وهو الدفق الغازي نحو غربي أوروبا وبالتحديد ألمانيا، حيث حاولت السلطة الأوكرانية عرقلة مشاريع الربط الحديثة بين الطرفين (ومنها مشروع نورد ستريم 2) عبر افتعال العديد من الحوادث، في خطوة يمكن ربطها بمساعي الولايات المتحدة فك ارتباط الطاقة القائم بين روسيا وأوروبا الغربية، ومحاولاتها – أي واشنطن- إنهاء حقبة الطاقة الأحفورية وإعادة إحياء مشاريع الغاز الصخري التي ترفضها أوروبا باعتبارها مضرة للبيئة.
4. إعادة لملمة شتات إمبراطوريتها واستعادة الجغرافيا السوفياتية –بمعزل عن النظرية الشيوعية البائدة- وتقوية حضورها العالمي في المجالات كافة.
5. الإطاحة بالديمقراطية النابضة بالحياة في أوكرانيا، وتحويلها إلى إحدى الجمهوريات التابعة التي تسبّح بحمد بوتين.
ورغم ما ذكرناه سابقاً، وموقفنا الضمني من روسيا نتيجة لدورها في دعم نظام بشار الأسد، إلا أنّه ومن منظور ما يمكن تسميته بـ "الموضوعية الأمينة" يحق لنا أن نتساءل عن الجهود الغربية التي بُذلت لمنع هذا التصعيد القابل لانفجار "غير منضبط"، خاصة وأنّ الحرب في أوكرانيا كانت متوقعة، وكادت واشنطن تحدّدها بالساعة. صحيح أن روسيا أنكرت مراراً نيتها احتلال أوكرانيا وضمّها، لكنها لم تنكر استعدادها لاستخدام الوسائل المناسبة كافة لمنع انضمام أوكرانيا لحلف الناتو.
لم تكن الزيارات التي قام بها عدد من المسؤولين الأوروبيين إلى روسيا، ولا التحذير من العواقب والتلويح بالعقوبات، كافية بالنسبة لحاكم الكرملين. بل إنّ وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، وصف محادثاته حول أوكرانيا مع نظيرته البريطانية، ليز تراس، بـ "حوار الطرشان"، وذلك قبيل أسبوعين من بدء العملية الروسية. في حين رفض الرئيس الأميركي جو بايدن - في رده بتاريخ 22 شباط/ فبراير على خطاب بوتين الذي اعترف فيه باستقلال الانفصاليين- المطالب الروسية، ووصفها بأنها مطالب "متطرفة".
وتوخياً للموضوعية التي ذكرت أنفاً، أرى أنه كان حريّاً بالولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين مناقشة المطالب الروسية باعتبارها مسألة قابلة للتفاوض وأقل كلفة و"تطرف" من الحرب، فهي تُقدّم من طرف دولة تعتبر نفسها عظمى وبخصوص نشاط حلف عسكري على حدودها، لاسيّما وأنّ أوكرانيا كانت على الدوام منطقةً للتوازن الإستراتيجي بين الغرب وروسيا.
إذاً، ما الذي دفع الولايات المتحدة إلى تجاهل المطالب الروسية باعلان الحياد التام لاوكرانيا؟ لماذا لم يتم نزع فتيل الأزمة قبل انفجارها؟ هل استدرج الغربيون بوتين إلى مستنقع لن يخرج منه سالماً؟ وللإجابة على هذه الأسئلة لا بدّ من الإقرار بدايةً بأنّ تأجيج الصراعات وخلق بؤر التوتر كان دائماً أحد الآليات الجيوسياسية التي تتبعها الولايات المتحدة الأميركية في تحقيق مصالحها، والأمثلة على ذلك كثيرة.
وفي الأزمة الحالية، أجد أنّ إشعال صراع على الحدود الروسية سيحقق للولايات المتحدة مكاسب عديدة أهمها:
· كبح نمو وصعود الاقتصاد الروسي، لا سيما في مجال الطاقة، عبر فرض العقوبات الصارمة.
· استنزاف موسكو وإشغالها بمحيطها. وللدلالة على ذلك اكتفت واشنطن والعواصم الأوروبية، بدعم كييف بالأسلحة الدفاعية فقط،، وهو ما يطيل الأزمة ويستنزف قوة الروس.
·إنعاش سوق الأسلحة والمعدات العسكرية بعد التباطؤ الحاد الذي شهده اقتصاد الولايات المتحدة على خلفية جائحة كورونا. حيث تتربع الولايات المتحدة على صدارة الدول الأكثر بيعاً للأسلحة في العالم، وكما هو معروف، كلما زادت الحروب زادت الأرباح وراجت الصناعة، وكلما قلّت الحروب والصراعات كان ذلك في غاية الضرر بالصناعات الدفاعية وصناعة السلاح عمومًا. لذلك وبغض النظر عن صفقات الجيوش النظامية فإن العالم لا بد وأن يحتوي على بؤر حرب معينة مشتعلة باستمرار ولا تنطفئ أو تهدأ أبدًا لضمان استمرار الأرباح المليارية.
بناء عليه، بات من الواضح أنّ واشنطن لا تريد الدخول في صدام عسكري مع موسكو، وإنما توريطها في غزو أوكرانيا وإيقاعها في فخ العقوبات لخنقها اقتصاديا ودق إسفين بينها وبين أوروبا (خاصة ألمانيا)، التي تزيد تدريجيا من اعتمادها على الغاز الروسي. واللافت هنا أنّ هذه العقوبات تأثيرها متبادل نوعاً ما، فهي كما ستؤثر في الإقتصاد الروسي بشكل كبير، كذلك ستؤثر في الإقتصاد الغربي والعالمي عموماً. مع ملاحظة أنّ قطاع النفط والغاز كان الناجيَ الوحيد من العقوبات الغربية التي استهدفت روسيا في الأيام الأخيرة على الرغم من كون هذا القطاع يعد بمثابة عصب الحياة للاقتصاد الروسي.
في المحصلة، وبعيدًا عن العواطف والأمنيات، ماتزال الأحداث الجارية على الأرض الأوكرانية ضبابية، ومن المبكر الحكم على مآلات الغزو نظراً لعوامل كثيرة متشابكة. لكن الواضح أنّ أوكرانيا اليوم تدفع ثمن الصمت الدولي والأوروبي حيال الجرائم الروسية في سوريا، ومن الضروري جدًا هنا أن تسجّل المعارضة السورية، بكافة أشكالها، موقفًا واضحًا ضد العدوان الروسي إلى جانب أوكرانيا، وهو موقف أخلاقي وقيمي.. .