The New Arab – ترجمة بلدي نيوز
إن كان هنالك من شيء واحد يمكن الاتفاق عليه في سوريا، هو أن لا أحد يتفق مع الآخر على أي شيء، فبعد خمس سنوات من الصراع المستمر في تصعيداته، لا تزال ردود الفعل العالمية تبدو على شكل موجات عَرَضِيّة من الرعب والشفقة، الغضب واللامبالاة- وذلك قبل أن يعود العالم للاستنتاج المتحمل، بأن الصراع في سوريا يصعب فهمه بوضوح!
إن قوانين الحرب، وحقوق الإنسان والمُثُلُ العُليا والجغرافيا السياسية كانت قد اختفت بمجملها واضمحلّت ..وللأسف، تبدو قواعد الصحافة المسؤولة قد اضمحلت هي الأخرى.
في نفس الوقت، فإن النشطاء الصحفيين ذوي المصادر المفتوحة و"ثوار الفيسبوك" قد جعلوا من تاريخ الربيع العربي- التحول الاجتماعي الأكثر توثيقاً، حيث أن الحرب في سوريا هي السديم الخطير الأكثر استقطاباً للثوار وكذلك للكثير من وسائل الإعلام على الأرض.
ولا يزال بعض الصحافيين غير المنحازين يقدمون بعض الأنباء غير المتحيزة والجديرة بالثقة، لأنهمن دون الحصول على معلومات حقيقية ذات مصداقية، يصعب فهم أي شيء يحدث في سوريا، مما يساهم بخلق توافق شعبي وسياسي على اللامبالاة، وذلك بوجود القليل فقط من مشاهد الأخبار المدفوعة بالقليل من الأحداث الفعلية الجارية من قبل مجموعة ضيقة من وجهات النظر المتاحة.
يقول الكاتب الأمريكي باتريك هيننغسن في تقرير له نشرته روسيا اليوم، ومن المفارقات الجديرة بالذكر بأن ذلك التقرير كان يقيم وبدقة حقيقة أن الدور الروسي كان أساسياً في تصعيد الصراع الجاري: "إن الصراع السوري يتضمن حرب علاقات عامة ترقى لمستويات متطورة جداً لم نشهد مثلها سابقاً."
في تلك المناطق التي لم يغير التدخل الروسي بشكل حاسم من المد العسكري لصالح كفة الأسد، كانت الآلية القوية للعلاقات العامة لحلفاءالأسد تعمل من أجل تعويض ذلك الفشل.
فتحالف الأسد مع بوتين مكّنه من الاستفادة بشكل كبير من الانحياز الكامل لوسائل الإعلام الروسية، المتفوقة عالمياً على إعلام الأسد، والتي تسيطر عليها بفعالية أجهزة الدولة، والنتيجة: رواية إعلامية منحازة للأسد، تسرد الأحداث بكفاءة عالميّة ومركزية، منتشرة في جميع أنحاء الصحافة الدولية، حيث يوجد لكل تقرير صحفي حقيقيّ، سرداً معاكساً كلياً يتم انتقاؤه وتصفيته وعكس حقائقه من مكبرات صوت النظام وأبواقه الإعلامية إلى شبكات واسعة من محطات الإعلام، بالإضافة إلى المواقع الصغيرة والمدونات.
على سبيل المثال: في الشهر الماضي فقط، عندما أشارت التقارير إلى أن 27 شخصاً كانوا قد لقوا حتفهم في غارة جوية وحشية، دمرت مستشفى القدس في حلب المحررة، مشيرة بأصابع الاتهام اتجاه جيش النظام السوري، تلك التقارير التي أثارت موجات غضب نادرة، وأعادت ولفترة وجيزة الصراع السوري ولمرة أخرى على جدول الأعمال الدولي.
لكن ذراع النظام السوري الإعلاميّة SANA قد قامت بنفي الهجوم، مدعية أنه لم تقصف أي مشفى هناك، بل وحتى قامت بنفي وجود مستشفى تحمل هذا الاسم في مدينة حلب، في حين قامت بعد ذلك وبشكل ساخر وكالة الإعلام الروسية "روسيا اليوم" بسرقة لقطات فيديو كان قد صورها سابقاً الصحفي والإعلامي الثوري هادي العبدالله من حادث منفصل كلياً إثر غارة دامية لقوات النظام الجوية، ومن ثم أعادت تحريره مقتطعة الحوار الذي جاء فيه أن تلك القذائف تم إسقاطها من طيران النظام، قبل أن تبثها على قناة"روسيا اليوم" العربية" بعنوان عريض مضحك، حمّلت فيه مسؤولية الاعتداء الدامي على مستشفى القدس على الثوار السوريين.
وحذت حذوها مجموعة من المدونات الأخرى، هادفة إلى تشويه سمعة التقارير الأوليّة، مدّعية بأن الهجمات الدامية على المنظمات غير الحكومية وعمال الإنقاذ وحملة #AleppoIsBurning، ليست بمجملها سوى جزء من مؤامرة غربية شريرة.
ومع ذلك، فإن الغريب في الأمر وجود العديد من القصص التي لم تكن نتاج وكالات الدعاية التي تديرها أي من الحكومتين الروسية أو السورية- إذ أنها كانت مكتوبة باللغة الإنجليزية من قبل المدونين الشباب والذين أطلقوا على أنفسهم بأنهم حلفاء الأسد في الغرب، هي نوع من تلك التقارير التي لن تحصل على نظرة ثانية في وسائل الإعلام الرئيسية، ولكن هذه هي النقطة... إن تغطية المدونات هو أكثر فاعلية من الصحافة الإعلامية بحد ذاتها، فقد شكلت مثل تلك المواقع شبكة واسعة منتشرة من المواقع الإخبارية "المستقلة" و"البديلة" والتي تهدف إلى الطعن في وسائل الإعلام الرئيسية.
إن ذلك الإعلام المكافح لوسائل الإعلام الرئيسية، يحتوي على أكثر من 1.6 مليون متابع على موقع الفيسبوك، حيث أن العديد من تلك المجموعات تصنع قوت يومها من تدوينها وتغريدها عن مقالات حول حماية البيئة، الرقابة الجماهيرية، وحشية الشرطة، بتقارب عام للدعوة إلى الاحتجاجات والنفور للرأسمالية العالمية- بوجود بعض الاستثناءات في بعض الأحيان.
إن تلك السياسة الهادفة في مغازلة ومشاركة الجمهور الشباب التقدمي، القَلِقِ حول عدم المساواة والظلم الاجتماعي، والحَذِرِ من وسائل الإعلام الرئيسية والمنهك من الحروب الخارجية، يقدم أجوبة بسيطة لمشاكل معقدة، من بينها الأمثلة الكثيرة، بدءاً من إدارة سلسلة من سير القديسين للزعيم الليبي السابق معمر القذافي والغناء المادح المشيد بالأسد إلى الخوض بشكل مريح في عالم نظرية المؤامرة.
عن المجاعة الكارثية الأسوأ في القرن الـ 21، لبلدة مضايا المحاصرة، قامت إيفا بارتليت، الكاتبة الكندية في "روسيا اليوم"، "بالتهليل" في تقاريرها مدّعية بأن صور الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد، لم تكون سوى صور وهمية بغرض الدعاية!!! وأما عن ذوي الخوذ البيضاء، أولئك الشباب الذين يغامرون بحياتهم كل يوم منتشلين من تحت ركام القصف والأنقاض أجساد المدنيين وأشلاءهم، منقذين بجهودهم حياة أكثر من 50 ألف ضحيّة إثر غارات القصف الجوي المكثف، وفقاً لفينيسا بيلي الكاتبة لوكالة أنباء "القرن 21"، كتبت عن عملهم وجهدهم ذلك بإنقاذ حياة الآلاف من المدنيين، واصفة إياه بوقاحة إعلامية وكونها "دعاية مُسيّسة ترمي إلى التعزيز من سياسة واشنطن في"تغيير النظام" في سوريا".
في حين قامت MintPress للأخبار بإعادة نشر ذلك التقرير، ومن ثم وفي وقت لاحق قامت بإلحاق تلك المادة بنص آخر يشير إلى أن "ذوي الخوذ البيضاء ليسوا أكثر من منظمة إنقاذ إرهابية، ممولة، وموجهة، تم الترويج لها من قبل الحكومات الغربية ووكالات الاستخبارات والمؤسسات التي تهدف إلى مساعدة الإرهابيين المدعومين من الغرب في تدمير سوريا العلمانية".
ريك ستيرلينغ الكاتب في النشرة السياسية المستمرة منذ فترة طويلة "CounterPunch" كان قد سخر وتهكم على اقتراح فرض منطقة حظر جوي في سوريا والذي من شأنه أن ينقذ حياة الآلاف من المدنيين أو وقف المذبحة المتكررة والمستمرة لضربات النظام الجوية- تلك الاعتداءات الجوية ذاتها التي تظهر استطلاعات الرأي لعدة سنوات، بأنها كانت السبب الرئيسي والأساسي لغالبية محصلة القتلى من المدنيين، وفقا للشبكة السورية لحقوق الإنسان.
مقلّداً لمقالة ستيرلينغ تلك، تجرأ الكاتب بول لارودي على القول بأن المنظمات غير الحكومية مثل منظمة العفو الدولية وأطباء من أجل حقوق الإنسان، متحالفة مع دعاة الحرب في حلف شمال الأطلسي، تبالغ بزعمها في استخدام سلاح الجو النظام السوري للبراميل المتفجرة- ذلك الاختراع البدائي سيء السمعة والذي يقوم بالاستهداف العشوائي عديم الدقة، مؤدّياً لاستهداف وحصد الكثير من أرواح المدنيين العُزّل.
إن الأجندات القطعية لوسائل الإعلام المستقلة تلك، سبق لها أن أثارت الكثير من التساؤلات المشروعة حول مصادر مصداقيتها وأساس تمويلها، وفي رد طويل على اتهامات تشير بأن MintPress ، تحتل مكاناً أولياً "على جدول رواتب نظام الأسد"، نفت رئيسة تحريرها "منار مهاوش" بأن تكون مواقف تحرير إصداراتها قد تأثرت بأي أطراف خارجية، بينما تتضاعف مواقفها تلك، كالاعتقاد بأن الثورة السورية في عام 2011 تمت "بتحريض من وكالة الاستخبارات المركزية والمخطط لها في وقت مبكر من عام 2006".
في حين يشارك بعض كُتّاب تلك الأوساط بروابط أكثر أهمية لآرائهم المخالفة: بارتليت، بيلي، لارودي، وستيرلينغ، هم جميعاً أعضاء في اللجنة التوجيهية لمنظمة تسمى بـ"حركة التضامن السورية" جماعة ناشطة مسجلة، وغير ربحية، كانت قد جمعت أكثر من 1.545.000 $ من إجمالي الإيرادات، من الجهات المانحة منذ تأسيسها في عام 2007، وكانت منظمة "حركة التضامن السورية" تلك قد نظمت مظاهرات داعمة للنظام السوري، ورحلتين جماعيتين إلى سوريا بتأشيرات دخول نظامية تم ترتيبها من قبل منظمات إيرانية "غير حكومية". وفي يونيو 2014، رعت تلك المنظمة وفداً للسفر إلى سوريا لمراقبة الانتخابات الرئاسية التي وُصِفَت بكونها "حيلة مسرحية" من قبل الكثيرين في المجتمع الدولي، بحصول الأسد على 89 في المئة من الأصوات.
وفي صباح يوم الانتخابات، قام وفد المنظمة بنشر تأييده قائلاً بأن: "الاستطلاع على وشك أن يبرهن على نطاق واسع، حقيقة الدعم الجمهوري العام الذي يحظى به الأسد داخل البلاد، بمقاومته البطولية للعدوان الذي ترعاه الدول الأجنبية، لأكثر من ثلاث سنوات."
ومع ذلك، فقد قام أحد أعضاء الوفد بالاعتراف في رسالة له، أرسلها بواسطة البريد الإلكتروني بأن العملية كانت "لا تخلو من العيوب"، بما في ذلك سياسة ترهيب الناخبين، بالإضافة إلى أن الوفد كان تحت المراقبة المستمرة من قبل مرافقين الحكومة.
خلال زيارة الوفد تلك، ظهر كل من لاروديو بارتليت في مقابلة مع التلفزيون السوري، كما التقوا بعدد من المسؤولين الحكوميين، بينما تم تنظيم لقاء لهم مع علي حيدر، رئيس وزارة المصالحة الوطنية المنشأة في عام 2012 إثر الثورة السورية، والمسؤولة عن التفاوض على استسلام الثوار، والتي تعمل بسياساتها المختلفة على كسب العقول لتسهيل إعادة دمج الأشخاص الذين يرغبون في العودة إلى ظل حكم نظام الأسد، ولقد واصلت وعملت منظمة "حركة التضامن السورية" على تعزيز جهود تلك الوزارة ودعمها، وقامت بتنظيم رحلات مماثلة للسوريين لزيارة الولايات المتحدة.
لقد التقيت خلال عملي على هذا التقرير بالصحفيّ باول لارودي أمين صندوق المنظمة، والذي أقرّ بأن آراء منظمته لا تحظى بتلك الشعبية الكبيرة، في حين قام بتقديم مبررات محسوبة عن سياسة المنظمة، قائلاً: "لقد كان من السهل اتهامنا بأننا مدافعون عن الأسد، بينما كنا نعمل على تصحيح المعلومات المغلوطة لوسائل الإعلام الغربية المعادية له" ، وأضاف لارودي قائلاً: "ما نراه الآن هو نية طويلة الأمد في قلب نظام الحكم في سورية واستبداله بـ"دمية"، وإذا تمت مقارنة "سوريا الأسد" مع الولايات المتحدة، يمكن أن ترى كيف تمّ تزوير النظام بعدم السماح لأي نوع من التغيير الحقيقي، تستطيع إلقاء نظرة مجردة على حملة بيرني ساندرز الانتخابية".
وفي مقابلة مع الكاتب السوري البريطاني روبن ياسين قصاب، كان قد انتقد بصراحة ما سمّاه ب"إغراءات اليسار السذاجة" بخطاباتهم المناهضة للإدارة، في حين قال ياسين قصاب: "إنهم يرون الأمر بمنظور ثنائي سخيف، أنا ضد الإمبريالية الأمريكية لذلك فأنا أؤيد سياسة بوتين المعادية للإمبريالية، وذلك هو الجنون بحد عينه، إذ أن بوتين أيضاً ليس سوى قوة استعمارية وحشية، بل حتى بشكل أكثر بكثير من الإمبريالية بحد ذاتها، بصورة مقلقة للغاية."
وبالنظر إلى ما يجري الآن في سوريا، نستطيع القول بأن هنالك الكثير من الأسباب التي تدعو إلى انتقاد وسائل الإعلام الرئيسية والسياسة الخارجية للولايات المتحدة، فإن على أي وسيلة إعلامية أن تلتزم بمعايير الصحافة المسؤولة، بدءاً من اتباع تدقيق شامل للحقائق، والتزام الحياد في النقل والتحرير، فأمريكا بسياستها تلك بدعم ومتابعة أجندة حزبية لا تقوم بتقديم أي فهم عام لمجريات الأحداث، حيث أنها تقوم باستقطاب الرأي المنحاز فقط، وليس حقيقة ما يجري في حرب دامية أودت بحياة مئات الآلاف من المدنيين، وخلّفت الملايين من النازحين، وفجّرت أزمة لاجئين كبرى، وأربكت الجميع، فإن المزيد من الجدل هو آخر ما تحتاجه الآن سورية.