بلدي نيوز – خاص
إن أحد أوجه التشابه ما بين سوريا الانتداب الفرنسي وسوريا في ظل حكم عائلة الأسد هو أن الحكومة كانت ذات لون واحد، لقد حكمت عائلة الأسد سوريا بواسطة حزب البعث وباستقرار نسبي منذ ستينيات القرن المنصرم، ومع ذلك فقد كانت نظام حكم إقصائي .
بدء الثورة المضادة لحكم الأسد في سوريا والتي كانت رداً على سياسته القمعية تذكر بتجربة مماثلة خلال بدء تكوين سوريا كدولة تخضع للانتداب الفرنسي منذ عام 1919 وحتى عام 1946 وبالمقارنة مع باقي الأراضي العثمانية السابقة، فإن الشعور القومي في سوريا خاصة كان شديد الاتّقاد في الفترة ما بين ديسمبر 1919 إلى يوليو 1920، حين قام الشعب السوريّ بإشعال ثورة باءت بالفشل ضد الاحتلال الفرنسي.
الأمير فيصل ابن الشريف حسين، قائد الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين، قام بقيادة المقاومة ضد الفرنسيين، وحاول دون جدوى المطالبة بالحكم الملكي لسوريا الجديدة المستقلة، وبعد أن أزاح الفرنسيون الأمير فيصل عن السلطة، قاموا بتقسيم سوريا إلى دويلات داخليّة أصغر، كانت أكبر تلك الدويلات دولتا حلب ودمشق، والمُتَمَحورة حول كلّ من محافظة حلب ومحافظة دمشق وبالإضافة إلى ذلك، قام الفرنسيون بإنشاء إقليم خاص بالأقلية العلوية والدّرزية، وأخيراً، فإن الأراضي التي تشكّل اليوم دولة لبنان، تمّ فصلها في ولاية منفصلة ومستقلة عن سوريا الأم مع بعض التعديلات، تلك هي البنية الشكلية الأساسية لسوريا والتي كانت عليها حتى نيلها استقلالها.
لقد وصف المؤرخون الاستراتيجية الفرنسية تلك بسياسة "فرّق تسُد" فقد جزّأوا الأرض السورية بصورة فعالة، جاعلة من الصعب على القوميين الوطنيين إنشاء جبهة موحدة لمقاومة الحكم الفرنسي
لقد كان الدروز أول من استأنف الثورة بدءاً من 18 يوليو 1925 حيث قاموا مع بقية الثوار السوريين وعلى مدى عامين بالاشتباك مع القوات الفرنسية، وحينها قام الثوار السوريون بقيادة الدروز بالسيطرة على العاصمة السورية دمشق، وذلك في تشرين الأول من عام 1925، ومع ذلك فقد كان الفرنسيون قادرين على قمع مكاسب الثوار وذلك نظراً لقوتهم النيرانية الأعتى.
في عام 1928، وبعد انتهاء الثورة بقيادة الدروز، تمّ عقد مؤتمر دستوري أدى لاحقاً إلى إنشاء قانون دستوري روّج لسوريا المستقلة، تضمّن من خلاله كل الأراضي المنتدبة من قبل الفرنسيين، بما في ذلك أرض لبنان وقد تمّ تقديم هذا الاقتراح إلى الحكومة الفرنسية والتي رفضته على الفور.
بعد ذلك بعامين أي في عام 1930، رتبت السلطات الفرنسية دستوراً جديداً للبلاد كان قد أبقى على سوريا في عهدة الانتداب الفرنسي وخلال الانتخابات السورية اللاحقة نجح الفرنسيون بإنشاء حكومة "عميلة" مختلقة، خلت من الوطنيين السوريين.
في يناير كانون الثاني من عام 1936، كانت هناك سلسلة من المظاهرات الشعبيّة المنددة بإغلاق الفرنسيين لمكتب دمشق لحزب الكتلة الوطنية، والذي كان الحزب القومي السوري الأول في حين ردت الكتلة الوطنية والأحزاب الأخرى الحليفة له، من خلال تنظيم إضراب لخمسين يوماً شمل جميع أنحاء سوريا، لقد شلّ ذلك الإضراب البلاد بكاملها، بينما قُتِلَ عشرات من السوريين في اشتباكات متفرقة، ما بين المتظاهرين والقوات الفرنسية.
تكررت أصداء المشهد ذاته في تلك اللحظة التاريخية في آذار/مارس 2011، من خلال الاحتجاجات ضد حكم الأسد والتي كانت قد اجتاحت بسرعة أرجاء سوريا كافة متسببة برد فعل دامٍ وعنيف من قبل حكومة الأسد،وأما في ثورة عام 1936 فقد وجد القوميون السوريون دعماً كبيراً لقضيتهم خارج سوريا، سواء في الدول العربية الأخرى أو في فرنسا نفسها في حين كانت أهم التطورات التي حدثت حينها، تتمثل بصعود الجبهة الشعبية اليسارية في فرنسا، حيث ازداد بذلك الضغط الداخلي على الحكومة الفرنسية لتغير من سياساتها اتجاه سوريا في أعقاب ذلك الإضراب السوري، فتم التوقيع على معاهدة جديدة تضمن الاعتراف بالاستقلال السوري في بادئ الأمر ثم الاعتراف بسوريا كدولة ذات سيادة، بينما يتم تحقيق الاستقلال التام عن فرنسا على مدى 25 عاماً، وفي المقابل، سيحتفظ الفرنسيون بالوجود العسكري في سوريا كما هو حال الكثير من الخطوات المشابهة نحو نيل الاستقلال ومع ذلك، لم تتحقق بنود تلك المعاهدة بشكل عمليّ، ويعزى ذلك بشكل كبير إلى الأجواء السائدة قبيل للحرب العالمية الثانية لذا اضطر السوريون إلى انتظار استقلالهم الكلّي حتى عام 1946، وذلك عندما أجبرت بريطانيا العظمى الفرنسيين أخيراً على التخلي عن جميع مطالبهم في سوريا.
لقد كانت السياسة الفرنسية في سوريا سياسة إشكالية، خاصة لأنها لم تقم بتحقيق أهداف الانتداب فكل من إنجلترا وفرنسا على حد سواء استغلتا الانتداب لأسباب اقتصادية وعسكرية، بما في ذلك الوصول الأسهل إلى النفط ومع ذلك، فقد كانت عصبة الأمم المتحدة قد كلفتهم أيضاً بمهمة المساعدة في إنشاء بنية تحتية للبلاد، بالإضافة للمؤسسات السياسية اللازمة لتظهر تلك الدول في نهاية المطاف كأنموذج لبلاد ذات مظهر أوروبي، مهتمة للغاية بهيبة تلك الدول الاقتصادية والعسكرية، عوضاً عن ذلك تصدّت فرنسا لمحاولات الوطنيين السوريين الحصول على الاستقلال والحكم الذاتي وبالتالي عندما نالت سوريا بشكل مفاجئ، استقلالها الكلي الرسمي وذلك في عام 1946، فإنها لم تكن للأسف مستعدة تماما للحكم الذاتي، فقد سيطرت سلسلة من الانقلابات الرئاسية على السنوات الأولى للاستقلال السوري، مخلفة حالة من عدم الاستقرار في البلاد بالإضافة لحالة من التزعزع السياسي.
إن حزب البعث بقيادة عائلة الأسد، إثر استحواذ الأسد الأب على السلطة بعد انقلابه على السلطة، كان قادراً في النهاية على خلق نظام طائفي دكتاتوري منظم، ذا سياسة محكمة خارجياً في حين تتصف داخلياً بمؤسساتها الحكومية القمعية ذات اليد الحديدية، لقد قام الأسد بسياسته الدموية تلك بتأسيس حكومة طائفية معينة، من الأشخاص المقربين والموثوق بهم، تلك الحكومة التي ظن بأنها قابلة للاستمرار على المدى الطويل.
لقد بدأت عائلة الأسد بصعودها نحو السلطة، في فترة الانتداب الفرنسي، تحديداً عندما انضم علي سليمان، أحد كبار العلويين، إلى قادة علويين آخرين في استرضاء واستمالة الحكومة الفرنسية من أجل مواصلة تقديم دعمها وحمايتها مما قد سموه بالاضطهاد" بكونهم أقلية "كاليهود"، كما طالبوها بعدم الرحيل عن سوريا وعدم منحها الاستقلال وهذا ما جاء في نص وثيقة في حينها والموقعة باسم جد حافظ الأسد:
نص الوثيقة : دولة ليون بلوم، رئيس الحكومة الفرنسية
بمناسبة المفاوضات الجارية بين فرنسا وسوريا، نتشرّف، نحن الزعماء العلويون في سوريا أن نلفت نظركم ونظر حزبكم إلى النقاط الآتية:
1- إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة، بكثير من الغيرة والتضحيات الكبيرة في النفوس، هو شعب يختلف بمعتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم السني ولم يحدث في يوم من الأيام أن خضع لسلطة مدن الداخل.
2- إن الشعب العلوي يرفض أن يلحق بسوريا المسلمة، لأن الدين الإسلامي يعتبر دين الدولة الرسمي، والشعب العلوي، بالنسبة إلى الدين الإسلامي، يعتبر كافراً لذا نلفت نظركم إلى ما ينتظر العلويين من مصير مخيف وفظيع في حالة إرغامهم على الالتحاق بسوريا عندما تتخلص من مراقبة الانتداب ويصبح في إمكانها أن تطبق القوانين والأنظمة المستمدة من دينها.
3- إن منح سوريا استقلالها وإلغاء الانتداب يؤلفان مثلا طيبا للمبادئ الاشتراكية في سوريا، إلا أن الاستقلال المطلق يعني سيطرة بعض العائلات المسلمة على الشعب العلوي في كيليكيا واسكندرون (لواء الإسكندرون تم سلخه في 1939 عن سوريا وإلحاقة بتركيا) وجبال النصيرية.
أما وجود برلمان وحكومة دستورية فلا يظهر الحرية الفردية إن هذا الحكم البرلماني عبارة عن مظاهر كاذبة ليس لها قيمة، بل يخفي في الحقيقة نظاما يسوده التعصب الديني على الأقليات فهل يريد القادة الفرنسيون أن يسلطوا المسلمين على الشعب العلوي ليلقوه في أحضان البؤس؟
4- إن روح الحقد والتعصب التي غرزت جذورها في صدر المسلمين العرب نحو كل ما هو غير مسلم هي روح يغذيها الدين الإسلامي على الدوام، فليس هناك أمل في أن تتبدل الوضعية لذلك فإن الأقليات في سوريا تصبح في حالة إلغاء الانتداب معرضة لخطر الموت والفناء، بغض النظر عن كون هذا الإلغاء يقضي على حرية الفكر والمعتقد.
وها نلمس اليوم كيف أن مواطني دمشق المسلمين يرغمون اليهود القاطنين بين ظهرانيهم على توقيع وثيقة يتعهدون بها بعدم إرسال المواد الغذائية إلى إخوانهم اليهود المنكوبين في فلسطين وحالة اليهود في فلسطين هي أقوى الأدلة الواضحة الملموسة على أهمية القضية الدينية التي عند العرب المسلمين لكل من لا ينتمي إلى الإسلام.
فإن أولئك اليهود الطيبين الذين جاؤوا إلى العرب المسلمين بالحضارة والسلام، ونثروا فوق أرض فلسطين الذهب والرفاه ولم يوقعوا الأذى بأحد ولم يأخذوا شيئا بالقوة، ومع ذلك أعلن المسلمون ضدهم الحرب المقدسة، ولم يترددوا في أن يذبحوا أطفالهم ونساءهم بالرغم من وجود إنكلترا في فلسطين وفرنسا في سوريا.
لذلك فإن هناك مصيرا أسودا ينتظر اليهود والأقليات الأخرى في حالة إلغاء الانتداب وتوحيد سوريا المسلمة مع فلسطين المسلمة هذا التوحيد هو الهدف الأعلى للعربي المسلم.
5- إننا نقدر نبل الشعور الذي يحملكم على الدفاع عن الشعب السوري وعلى الرغبة في تحقيق الاستقلال، ولكن سوريا لا تزال في الوقت الحاضر بعيدة عن الهدف الشريف الذي تسعون إليه، لأنها لا تزال خاضعة لروح الاقطاعية الدينية ولا نظن أن الحكومة الفرنسية والحزب الاشتراكي الفرنسي يقبلان بأن يمنح السوريون استقلالا يكون معناه عند تطبيقه استعباد الشعب العلوي وتعريض الأقليات لخطر الموت والفناء.
أما طلب السوريين بضم الشعب العلوي إلى سوريا فمن المستحيل أن تقبلوا به، أو توافقوا عليه، لأن مبادئكم النبيلة، إذا كانت تؤيد فكرة الحرية، فلا يمكنها أن تقبل بأن يسعى شعب إلى خنق حرية شعب آخر لإرغامه على الانضمام إليه.
6- قد ترون أن من الممكن تأمين حقوق العلويين والأقليات بنصوص المعاهدة، أما نحن فنؤكد لكم أن ليس للمعاهدات أية قيمة إزاء العقلية الإسلامية في سوريا، وهكذا استطعنا أن نلمس قبلا في المعاهدة التي عقدتها إنكلترا مع العراق التي تمنع العراقيين من ذبح الآشوريين واليزيديين.
فالشعب العلوي، الذي نمثله، نحن المتجمعين والموقعين على هذه المذكرة، يستصرخ الحكومة الفرنسية والحزب الاشتراكي الفرنسي ويسألهما، ضمانا لحريته واستقلاله ضمن نطاق محيطه الصغير، ويضع بين أيدي الزعماء الفرنسيين الاشتراكيين، وهو واثق من أنه وجد لديهم سنداً قوياً أميناً لشعب مخلص صديق، قدّم لفرنسا خدمات عظيمة مهدد بالموت والفناء.
عزيز آغا الهواش، محمود آغا جديد، محمد بك جنيد، سليمان أسد، سليمان مرشد، محمد سليمان الأحمد
لم يشكك أحد أبداً بوجود هذه الوثيقة حيث أن الحكومة الفرنسية كانت قد أثبتت وجودها في سجلاتها، في حين صرح وزير خارجيتها في وقت سابق بردّه على المندوب السوري في مجلس الأمن بأنه قادر على إعطائه نسخة من تلك الوثيقة، كما اعترف بوجودها المؤرخ السوري المعروف الدكتور عبدالله حنا، تلك الوثيقة التي رفعها زعماء الطائفة العلوية إلى رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك ليون بلوم محفوظة الآن تحت الرقم 3547 تاريخ 15/6/1936 في سجلات وزارة الخارجية الفرنسية، كذلك في سجلات الحزب الاشتراكي الفرنسي.
عندما استولى الأسد الأب على السلطة في عام 1963 وذلك إثر انقلابه المشهور، قام الأسد في ظل حزب البعث السوري بالبدء بمشروعه القائم على الاستيلاء على كل مفاصل الحكومة السورية، وذلك من خلال التقنع بكونه حركة قومية اشتراكية، وهنا يجدر الذكر بأنه وفي ظل فترة الانتداب الفرنسي، كانت الدولة العلوية المتجانسة للغاية تتمتع بحكم شبه ذاتي، في حين كانت دولتهم تلك بمنأى عن أي نفوذ آخر، حيث أصبح العلويون يمثلون حينها بإفراط ولأول مرة الجيش العربي السوري، والذي كانت تقوده حينها حكومة الانتداب الفرنسية الذي كان الأداة الأساسية المستخدمة في قمع ثورة الشعب السوري الوطني في عهد الانتداب الفرنسي، والذي أصبح فيما بعد أقوى بنية في سوريا، ونتيجةً لذلك وبواسطة الجيش نفسه والسلطة القمعية ذاتها كان الأسد قد سيطر على وجوده في سدة الحكم في سوريا إثر انقلابه، ومع استمرار الثورة السورية، يجدر بنا القول بأن كلاً من نظام الأسد والثورة القائمة على حكمه المستبد، هي نتاج واقعيّ لمسائل وسياسات يعود تاريخها إلى حقبة الانتداب الفرنسي.