بلدي نيوز - (تركي المصطفى)
استأنف تنظيم "داعش" في البادية السورية هجماته على الطريق الممتدة بين دير الزور وتدمر، وصولا إلى أطراف المحطة الثالثة "T3"، وعلى محاور حواضر ضفة الفرات اليمنى، حيث يوسّع التنظيم عملياته العسكرية في كافة الاتجاهات بالتزامن مع تراجع الميليشيات الإيرانية وقوات الأسد وانحسارها باتجاه نقاط ارتكازها على أطراف "تدمر والسخنة ودير الزور"، بعد مقتل العشرات منها، وهذا يفتح احتمالات متنوعة أمام نشاط التنظيم وخاصة بعد توغله في عمق التواجد العسكري الروسي، وإصابة طائرة حربية روسية جرّاء استهدافها من مضادّات أرضية تابعة لـ "داعش" خلال قصفِها لأهداف في البادية.
ولم يتوقف نشاط هذه الخلايا في البادية السورية فحسب؛ إنما انتقل تصعيد العمليّات العسكرية ضد "قسد" والتحالف الدولي انطلاقاً من مناطق نفوذ الميليشيات الإيرانية في بادية البوكمال، حيث استهدف "التنظيم" رتلاً مشتركاً للتحالف و"قسد" في ناحية الصور باستخدام درّاجات نارية وأسلحة متوسّطة وقذائف "أر بي جي"، ما أدّى إلى مقتل ضابط أميركي واثنين من عناصر "قسد"، وإصابة آخرين.
وبعودة هذه الهجمات، فمن المتوقع استمرارها وربما اتساع دائرتها وتنوّع أهدافها وتعددها، ما لم يطرأ تحوّل جذري في المواقف الدولية، ويُعد هذا التصعيد مؤشراً واضحاً على تنامي قوة تنظيم "داعش"، ونجاحه في إعادة تجميع قوته المبعثرة، ولكن يلاحظ أن هناك ثمة إطار يمكن فيه ربط نشاط تنظيم "داعش" في البادية السورية بالتطورات المحمومة بين إيران والولايات المتحدة، إذ تعتقد طهران أن اندفاع التنظيم في هذا الاتجاه، وفي ظل تنامي وباء "كورونا"، سيدفع واشنطن إلى التخلي عن استراتيجية "طرد الميليشيات الإيرانية" من سوريا وانتهاج استراتيجية" التفاهم غير المباشر" مع طهران، وفيما تواجه إيران مأزقها السياسي المقترن بالقصف الإسرائيلي بغية طردها من سوريا، فاجأ التنظيم العالم بمذبحة طالت "ميليشيات إيرانية من "حزب الله" اللبناني" وأخرى تابعة لنظام الأسد أسفرت عن قتلِ 15 عنصراً من قوات الأسد و4 من ميليشيا "حزب الله" في ريف مدينة السخنة شرق حمص، وسط استمرار الاشتباكات في البادية السورية مع تحليق مكثف للطائرات الحربية الروسية وتلك التابعة لقوات الأسد وقصفِها لأهداف ضمن البادية السورية.
والملاحظ أنه رغم الرقابة الإيرانية الدائمة على حركة التنظيم وتنقلاته في البادية السورية ذات السهول المستوية الواسعة، يتمكن "تنظيم داعش" عبر نقاط "الحرس الثوري الإيراني" من التحرك والنشاط العسكري على ضفتي نهر الفرات، وجاءت هجمات تنظيم "داعش" بعد تصاعد الضغوط الأمريكية والأوربية لإيجاد حل سلمي للقضية السورية يصل إلى صيغة توافقية بين نظام الأسد والمعارضة، والتسريبات الأخيرة التي تفيد بنية روسيا تحت الضغوط والمتغيرات الدولية التخلي عن رأس النظام مقابل الحفاظ على هيكليته وعدم المساس بالاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية التي عقدتها مع حكومة الأسد، فاستشعرت إيران بالخطر باعتبار وجودها مرتبط بوجود رأس النظام والدائرة الضيقة من رجال الأعمال التي ساندت "الأسد" والتي قد تزول بزواله، وارتباط جميع الحلول السياسية المطروحة بخروج إيران من الأراضي السورية، الأمر الذي وضع الأسد أمام خيارين لا ثالث لهما، المشاركة في إخراج إيران من سوريا أو سيواجه الولايات المتحدة وحلفها، والمتتبع لنشاط التنظيم الأخير يكتشف الضلوع المخابراتي الإيراني في غض الطرف عن صولة التنظيم ونشاطه العسكري ضمن منطقة تقع تحت نفوذ الاحتلال الإيراني، وهي عبارة عن صحراء مترامية المساحة تجعل من التقدم لوحدات المشاة مكشوفة أمام مراقبة طيران الاستطلاع الإيراني، عدا عن القوات البرية المحصنة التي تملك عتادا متطورا والتي تجاوزها التنظيم بسرعة فائقة وقتل في الأيام القليلة الماضية وعلى عدة محاور العشرات من "شبيحة" الأسد، علاوة على مقتلة ميليشيا "حزب الله اللبناني" لإبعاد الشبهة عن تورط طهران بنشاط التنظيم.
غير أن الهجوم المكثف والمتواصل لعناصر التنظيم على عدة محاور، يحمل أسئلة دقيقة عن تواطؤ ملحوظ في نشاط التنظيم الأخير تتحمل مسؤوليته إيران وحلفها في رسالة للعالم، لصرف الأنظار عن المأزق السياسي الإيراني الذي يحاكي في ظروفه ودلالاته، تسليم الإيرانيين تدمر لتنظيم "داعش" في كانون الثاني/يناير عام 2016م، لحرمان روسيا حينذاك من قاعدتها العسكرية في المدينة التاريخية.
واختيار إيران هذا التصعيد يتعلق بطبيعة المرحلة التي تفيد معطياتها بأن الأطراف الرئيسية الفاعلة في الملف السوري منشغلة بمواجهة وباء كورونا، فضلاً عن تنامي القوة الإيرانية في المنطقة الشرقية التي باتت ذات طبيعة حسّاسة جداً بما يتعلق بقطاع من الجيوبوليتيك الشيعي الممتد من الحدود السورية مع العراق إلى الضاحية الجنوبية في بيروت، مروراً بالعاصمة دمشق.
يفسر الموقف الإيراني من نشاط حركة تنظيم "داعش" مؤشرات تصدع في صفوف الحلف الروسي الإيراني، استغلتها طهران لتعطي قوة دفع لعجلة التنظيم، في محاولة لاستثمارها في إعادة "التنظيم" إلى حالة من التوازن تمكنه من اعتماد حرب الاستنزاف في صحراء تتبدل تشكلاتها التضاريسية حسب مناخ العلاقات الدولية والإقليمية، من هنا، فالضرورة الإستراتيجية التي تخدم الإيرانيين تنشيط تنظيم "داعش" في البادية السورية، مما يعطي الفرصة لديمومة الاحتلال الإيراني للمنطقة وكذلك للذين يدافعون عن ذريعة وجوده في سوريا، مما سيعمق الخلاف الروسي – الإيراني، وفي هذا الصدد أشارت روسيا في وقت سابق إلى إنّ تنامي قدرات تنظيم "داعش" في البادية يعود إلى تقديم الدعم المادي واللوجستي من قبل إحدى الدول التي تدعي محاربة الإرهاب في سوريا، وتقصد بذلك "إيران".
في المحصلة، تستغل إيران نشاط تنظيم "داعش" المتعاظم لصرف أنظار المجتمع الدولي عن المطالبة بإخراج الميليشيات الإيرانية من سوريا، باعتبار رؤية إيران أن خطر التنظيم أكبر من خطرها على السلم والاستقرار الدوليين، واستثمار طهران نشاط التنظيم كرسالة موجهة لواشنطن ردّا على إصرارها على إخراج الميليشيات الإيرانية من سوريا باعتبارها ميليشيات إرهابية تهدد الأمن الدولي.
والواقع أن التجربة الإيرانية في تورّطها كطرف رئيسي بالصراع المسلح في سوريا، تحصر مدى وجودها ببقاء نظام الأسد في السلطة، الأمر الذي يفيد بأن الدول الفاعلة في الملف السوري باتت قريبة من اتخاذ قرار هيكلة نظام الأسد المقترن بإخراج إيران من المشهد السوري، وهو خيار بدأت شخصيات سياسية دولية تروّجه ولا يمكن أن يُطرح إعلامياً إلا في ضوء جدل رسمي مسموح بتداوله، ووفقاً لهذه التطورات ترى إيران أن أمامها فرص لاستثمار نشاط "تنظيم داعش" لخلط الأوراق من جديد، وإلى الآن لم تقدم الولايات المتحدة وحلفاؤها الحافز الكافي لاقتلاع الوجود الإيراني من سوريا، كما أن الأسد يرفض خروج الميليشيات الإيرانية من سوريا لأنه سيفقد السند الحقيقي الصلب الذي أطال أمد وجوده، ولأن داعميه الروس سيتخلون عنه عند أي صفقة سياسية مع الغرب، وبناء على ما سبق فإن إيران ستعمل على إحياء تنظيم "داعش" فضلا عن مشروعها الواسع والعميق والمتعدد الأوجه، وبالتالي فإن إخراجها من سوريا يحتاج إلى تكاتف دولي لاجتثاث الأسباب التي أنجبت التنظيم وإلا فإن احتدام الصراع قد يعطي دفعا لإيران لإبقاء المنطقة في حالة توتر مستمرة ما يدفع إيران إلى تحريك تنظيم "داعش" تنافسها المحموم مع روسيا رغم ما يبدو بينهما من تحالف ظرفي في الحرب السورية، حيث يتجلى هذا التنافس في تحديد من هو صاحب اليد العليا في سوريا، وتزيد من حدّته عوامل دولية مجتمعة على طرد إيران من سوريا، ورغبة روسيا بالتخلي عن حليفها المختلف عنها استراتيجيا وإيديولوجيا.