بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
منذ انطلاق اتفاق آستانا قبل نحو ثلاث سنوات والروس يتبعون استراتيجية عسكرية تزاوج بين الهجوم والهدن، مكنتهم من إطالة أمد الحرب، وإنهاك الخصم، لكن في الأشهر الأخيرة بدا أن تلك الاستراتيجية تنحو أكثر نحو الهجوم وبخاصة على حدود إدلب المشمولة باتفاق خفض التصعيد.
مقدمة
على نحوٍ يجمع بين الهجوم والهدن تمثَّلت استراتيجية الروس العسكرية في مختلف محطات الحرب داخل الأراضي السورية، لكن مع دخول الروس عامهم الخامس في الحرب على سوريا منذ30 سبتمبر/أيلول 2015، لوحظ، وخاصة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، التركيز المتزايد للطابع الهجومي في استراتيجية الروس العسكرية، لاسيما في عملياتهم العسكرية في منطقة خفض التصعيد الرابعة بمحافظة إدلب ومناطق داخلية أخرى, مثَّلت، ولا تزال، مصادر تهديد للوجود العسكري الروسي, استدعى العدوان المتكرر عليها تحت ذريعة تطبيق اتفاق آستانا وتاليا اتفاق سوتشي, وفرض واقع جديد فيها يقوم على منع أي تهديد للروس وحليفيه نظام الأسد والميليشيات الإيرانية في تلك المناطق, ووأد أي محاولة تقدم لفصائل المعارضة المسلحة بما فيها الجبهة الوطنية الموسومة بــ"الاعتدال".
من هذا المنطلق، تناقش الورقة الاستراتيجية العسكرية للروس، من خلال العدوان الجاري ضد محافظة ادلب وما تبقى من مناطق محررة، والمرتكزات العسكرية، التي قامت على هذا العدوان، وفق استراتيجية القضم التدريجي كأسلوب من أساليب روسيا, وتتوقف الورقة عند المناورة الروسية المرفوضة من المعارضة في لقاء آستانا الأخير, والتي يستخدمها الروس كذريعة للعدوان, وتطرح الورقة سؤالاً, متى يتوقف العدوان الروسي على إدلب؟ وتخلص الورقة إلى توضيح الاستراتيجية الروسية الراهنة، وتأثيراتها المتوقعة في مسار الصراع.
استراتيجية القضم
من الواضح أن العدوان الجوي الروسي المدعوم بميليشيات إيران وقوات النظام ضد المناطق المحررة، يشير إلى أن قوات نظام الأسد تستعد لعملية قضم المناطق المحررة في ريف إدلب الجنوبي الشرقي انطلاقا من محورين, الأول, سنجار - أبو الظهور، بغية الوصول إلى مدينة معرة النعمان، إحدى أهم الحواضر في ريف إدلب الجنوبي، والتي يمرّ منها الطريق الدولي حلب ـ دمشق الاستراتيجي. والثاني أبو الظهور – جزرايا في ريف حلب الجنوبي وصولا إلى مدينة سراقب، كبرى مدن ريف إدلب الشرقي، وتعتبر سراقب الهدف الأهم في استراتيجية الروس نظراً لموقعها كعقدة طرق، حيث يلتقي الطريقان الدوليان "m 4" و"m 5" عندها، ومن ثم يتفرعان إلى اللاذقية غربا، ودمشق جنوباً, وهو ما يجعلها في أولوية الأهداف الروسية. ومن أبرز الوقائع المؤكدة على استراتيجية القضم التدريجي، القصف الجوي المكثف للطيرانين المروحي والحربي والذي تركز بشكل كبير على كامل مناطق ريف معرة النعمان الشرقي. وبلدة جزرايا بريف حلب الجنوبي, حيث استهدفت الغارات أكثر من 40 بلدة وقرية، وشمل القصف مواقع المعارضة المتقدمة في جبهات القتال بأم التينة والكتيبة المهجورة وجزرايا, وغيرها من القرى الواقعة في خط التماس الأول مع المليشيات الممتد بين جزرايا شمالاً، وسنجار جنوباً.
سياسياً, كان واضحا توظيف روسيا كل الهدن السابقة التي أبرمتها مع المعارضة وقضمت بنتيجتها كل المناطق المحررة في حمص ودمشق والجنوب السوري، ومن دواعي دوافع تبني روسيا وأحلافها عدوانها ضد المناطق المحررة، هو ما يمكن ملاحظته من تصرفات وتصريحات سابقة تفيد بتقديم خيار العدوان على خيار السلام، وهذا ما لوّح به وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف, الذي أكّد على أن "قوات الأسد" تتواجد في منطقة إدلب، وجاهزة للتحرك عسكريا.
مناورة روسية مرفوضة
استباقا للقاء الأخير, الذي جمع دول حلف "أستانا" كثفت الطائرات الحربية الروسية وتلك التابعة للنظام, قصفها بمئات الغارات الجوية استهدفت كل مدن وبلدات ريف إدلب الجنوبي والشرقي, وجاء هذا التصعيد المتزايد كمناورة اعتادت روسيا عليها لفرض استراتيجيتها على الخصم. حيث حصلت "بلدي نيوز" من مصادر مطلعة مقربة من وفد المعارضة، المفاوض في الجولة الأخيرة من مباحثات أستانا، "أن سبب العدوان الروسي المكثف على منطقة خفض التصعيد يكمن في رفض وفد المعارضة المطلب الذي طرحه مندوب روسيا في جولة المفاوضات الأخيرة", وأشار المصدر إلى أن "الجانب الروسي عرض سيطرة قوات الأسد على كامل منطقة سهل الغاب، وكامل الطريق الواصل بين جسر الشغور وأريحا بما في ذلك السفح الغربي لجبل الزاوية المطل على سهل الغاب, مع سحب المعارضة لسلاحها من مدينة أريحا واقتصار وجودها على النشاط المدني, مقابل إيقاف الحملة العسكرية والقصف الجوي على سراقب ومعرة النعمان وريفها".
وأكدت مصادر "بلدي نيوز" أن وفد المعارضة رفض هذا العرض بالمطلق، وجاء هذا الرفض إدراكا من المعارضة أن موسكو تنتهج استراتيجية "الحرب الدبلوماسية"، أو استراتيجية "المفاوضات مع الضغط العسكري المتواصل مما يجبر الخصوم على قبول شروط موسكو والاستسلام للقدر الروسي".
وترمي روسيا من خلال هذا المطلب إلى التحكم بالمناطق الشطرية بين فصائل المعارضة وقوات الأسد, وتأمينها من التهديدات المختلفة من خلال نزع أو إبعاد خطر السلاح الثقيل للفصائل بكافة أنواعه عن القواعد العسكرية الروسية، وعن المدن والبلدات التي يسيطر عليها النظام والواقعة في المدى المجدي للطائرات المسيّرة التي تستهدف قاعدة حميميم إن صدقت رواية الروس، وبمرمى راجمات الصواريخ ومدافع الميدان نوع 130 ملم، والتي تصل قذائفها إلى حدود 30 كم، وهذا يعني أن كامل منطقة ريف إدلب الجنوبي وأريحا وجسر الشغور وسراقب ومعرة النعمان وريفها وكامل ريف حلب الجنوبي، ستقع تحت النفوذ الروسي. بما فيها الطرقات الرئيسية الرابطة بين حلب ودمشق وحلب واللاذقية، وهو ما سيسهل فتحها على اعتبار أن فصائل المعارضة ستكون خارج المنطقة تلقائيا حسب المطلب الروسي، وبذلك يتضح سعي موسكو إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب وعلى نحو مطلق، بما يعزِّز طموحها الاقتصادي، فضلاً عن العسكري والسياسي ودورها كقوة ذات تطلع دولي تسابق واشنطن نحو حقبة جديدة، وبناء على ذلك فإن أبرز الأهداف الاستراتيجية التي تسعى إلى تحقيقها تكمن في السيطرة على الطرق الدولية كمرحلة أولى.
هل تستمر روسيا في عدوانها على إدلب؟
يبدو أن روسيا في حملتها العدوانية ضد المناطق المحررة تحاول استغلال الثغرات المتعددة في الاتفاقات التي رعتها في آستانا والتي يقف في مقدمتها عدم وجود شريك يضع حدا لوقف عدوانها مع ميليشيا الأسد على محافظة ادلب، فنظام الأسد لم ينفذ بندا واحدا يخصّه في كل الاتفاقات المبرمة، بل فسّرها على أنّها تحميه في حال زحفه باتجاه المناطق المحررة، ولكن روسيا قد تضطر للهدنة والتهدئة في ثلاث حالات, الأولى إصرار الفصائل المسلحة على صد العدوان العسكري برياً وإفشاله, والثانية, الموقف الدولي الرافض لعملية اجتياح واسعة تهدد أوربا بموجة نزوح كبيرة, والأخيرة, أن روسيا لا يمكن لها إطلاق معركة قوات الأسد المهترئة، ولا حتى بقواتها الخاصة المتواجدة على جبهات القتال, في حال لم تشترك الميليشيات الإيرانية في المعركة المرتقبة, والأهم من كل ذلك مصير النقاط التركية المتواجدة في بابولين والصرمان وتل الطوكان، مما يعني في حال التصعيد العسكري ضد هذه النقاط، قد تقترب كافة الأطراف من ميدان القتال في لحظة من اللحظات. من هنا ربما ستبدي روسيا مرونة في التوصل لاتفاق, تعتبره خياراً متاحاً لتحقيق مصالحها. وإلا فإن عدوانها في استراتيجية القضم التدريجي سيتواصل ضد كل المناطق المحررة.
خاتمة
يبدو أن استراتيجية روسيا في اتباع أساليب القضم التدريجي للمناطق المحررة المشمولة باتفاقيات خفض التصعيد, هي الأكثر فاعلية والأسبق في التنفيذ من أي مسعى سياسي قدمته الأطراف الدولية في جنيف أو في التفاهمات الثنائية بين واشنطن وموسكو، ومهدت له في "أستانا", للدخول في مفاوضات لحلّ الأزمة سلميا، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، وكان الخيار العسكري هو الأسبق لفرض السيطرة الروسية بالقوة المسلحة على البلاد كلها، ونسف كل مبادرات السلام التي دعت إليها في "أستانا" بعد الالتفاف عليها طويلا، وفق استراتيجية من يجيد تقدير الموقف من الحسم العسكري بشكل دقيق، لذلك جاءت المناورة الروسية الأخيرة ذريعة لوصد الأبواب أمام أيّ مسعى حقيقي إلى السلام والتمسك بتجربة الحسم العسكري لتثبيت سلطة الأسد المستولى عليها كأسلوب مألوف في الاستراتيجية الروسية، و ما سوى ذلك لعب بالوقت ومحاولات ابتزاز سياسية، بهدف تمكين سلطة الأسد بالقوة وطي وثائق جنيف باعتبارها أقوى الوثائق السياسية الدولية لحل الصراع في سوريا.