بلدي نيوز- (تركي المصطفى)
مقدمة
وفقا للمؤشرات السياسية، فإن ثمة أشياء تحاك في الكواليس السياسية لإنهاء الحرب في سوريا، بما يتفق مع أهداف ومصالح أطراف إقليمية ودولية، وليس بالضرورة أن تتقاطع هذه المصالح مع مصلحة الشعب السوري، فهو آخر من يُلتفت إليه، حيث باتت قضية الشعب السوري الثائر مرتبطة بصراع تلك الأطراف، ودخلت مرحلة التدويل الفعلي فأضحت ساحة صراع حقيقي وتصفية حسابات بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وروسيا وحلفائها من جهة ثانية، ما جعل مستقبل سورية مرهونا بهذا الصراع الإيديولوجي والجيو سياسي والاقتصادي المفتوح في محاولة استعادة الرئيس بوتين أمجاد روسيا القيصرية دون الاكتراث بقتل الأطفال وتدمير مدن وقرى سورية، مستغلا استدارة الإدارة الأميركية عن الاهتمام الجدي بسورية.
فالاستراتيجية المتطورة لموسكو في إدارة الملف السوري هي الصديد أو القيح الذي أفرزته أورام الصراع والذي تجمع واحتقن ثم انفجر دفعة واحدة في اللجنة الدستورية، ليشكل نقطة تحول خطيرة في المسار السوري وإلى آماد بعيدة، وسيكون أعمق تأثيرا وأشد فتكا وعلى أكثر من مستوى من كل الهزائم التي لحقت بالتاريخ السوري، وتكمن أهمية البحث في رصده الاستراتيجيات الروسية وحقيقة علاقاتها بأطراف الصراع وتداعيات ذلك على الساحة السورية وتجاذباتها وتفاعلاتها بجوانبها السياسيّة، والاستراتيجيّة ونتائج هذا الصراع في رسم خريطة جديدة لسورية استجابة للأهداف المعلنة وغير المعلنة لهذا الصراع، فالغاية من هذا البحث هو دراسة اللعبة الروسية والنتائج المترتّبة عليها وتداعياتها على مستقبل الشعب السوري الثائر، بالإضافة إلى التركيز على محركات الصراع وآلياته وانعكاس ذلك على مستقبل الثورة السورية.
اللجنة الدستورية خداع ومصادرة
لا شك أن الاتفاق على اللجنة الدستورية كمدخل لإنهاء الحرب السورية انضم إلى سلسلة من الاتفاقيات والقرارات الدولية التي جرى توقيعها خلال سنوات الصراع على سوريا، وهذه الاتفاقيات غالبيتها لم تنفذ، بل كانت أشبه بحقن المخدر لتخفف ألم المريض بعض الوقت لا أكثر ولا أقل.
وهذه الاتفاقيات صادرت إرادة الشعب السوري لصالح قوى الصراع الدولي والإقليمي، فضاعت سيادة البلد الداخلية المتمثلة في حرية الاختيار، وكذلك السيادة الخارجية المتمثلة في استقلالية القرار، ومنذ عام 2012 وحتى الآن، جرى توقيع العديد من الاتفاقيات السياسية برعاية الأمم المتحدة حيناً وبضمانة روسيا حيناً آخر، كان لها صدى كبير في الداخل والخارج، كاتفاق جنيف ثم ما أعقبه من نقل الملف السوري من أدراج الأمم المتحدة إلى آستانا فسوتشي لاحقاً، حيث مثلت عملية نقل الملف السوري من جنيف وآستانا والتحول من هيئة الحكم الانتقالية والموقف من مصير الأسد إلى اختزال القضية السورية باتفاق اللجنة الدستورية إرباكاَ كبيرا لطموحات المتصارعين في سورية، إذ شكلت هذه اللجنة حجر الأساس في مصادرة إرادة الشعب وفرض الوصاية الخارجية، ولعبت أطراف معارضة دورا مهما في تسويقها وخداع السوريين مقابل منحها بعض الامتيازات الشخصية، وكذلك مبالغ طائلة تدخل جيوب بعض سياسيي المعارضة، كمكافاة لحضورهم مراسم إغراق سوريا في فوضى لا نهاية لها، وتحولت اللجنة الدستورية التي كانت ترى المعارضة فيها طوق نجاة للنظام واعتداءً صريحا على تضحيات ومكتسبات الشعب، إلى مرحلة جديدة يجب دخولها لإسقاط نظام الأسد، وكانت أولى محطات مصادرة إرادة الشعب في اختيار من يمثله، فجميع هذه الاتفاقيات أخذت بمصالح أطراف الصراع الإقليمي والدولي وتجاوزت رأي أصحاب القضية، ولم تتطرق لمحاسبة نظام الأسد على جرائمه وإنصاف الضحايا الذين قضوا بالآلة العسكرية الروسية والإيرانية، وتلك التابعة لنظام الأسد، وأجازت ضمنا حق الأسد في القتل ومنعت الضحية من حق العدالة.
وبالانتقال لمصادرة السيادة الخارجية "استقلالية القرار" لن نذهب بعيدا، فلعبة اللجنة الدستورية تنص بصراحة على منح روسيا حق الوصاية على كل من نظام الأسد والمعارضة السياسية، وبذلك تكون تلك اللجنة هي الصورة الأوضح لمصادرة وذبح السيادتين الداخلية والخارجية، فضلاً عن أن عمل اللجنة الدستورية تضييع للهدف، وتفريط بأولوية العملية السياسية، في التغيير والانتقال السياسي من حال الاستبداد والفساد إلى الحرية والعدالة والمساواة بين كل السوريين.
وحشية روسيا
ما يهم روسيا هو استكمال السيطرة على ما تبقى من الأراضي السورية الواقعة خارج إطار نفوذها، مستغلة انتقال المواجهة إلى شرق الفرات التي تمثل حلبة أخرى أكثر حساسية محليا وإقليميا، تتمايز فيها الجغرافيا والسكان والسياسة لتبدو معها البلاد على شفير حرب ضروس تتمثل بانفجارات داخلية وأخرى إقليمية، ولكن الهجمات التي ينفذها الجيش الوطني مسنوداً بالقوات التركية مستمرة شرق الفرات من دون أي تغيير، فيما انسحبت قوات النظام الحليفة لروسيا مرات عدة من مناطق المعارك وتخلت عن "قسد" في مواجهة هذه الهجمات العنيفة بعد مقتل 28 عنصراً من قوات النظام في المعارك الأخيرة.
تجري هذه التطورات تزامنا مع مسار اللجنة الدستورية في جنيف التي تجسد إرادة الأطراف الدولية والإقليمية لإطالة عمر الصراع المسلح بغرض فرض إملاءات على الأطراف الأخرى بصرف النظر عن القتل والتدمير، حيث بات ديدن روسيا تمييع القرارات الدولية لتعزيز حضورها كدولة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأميركية وشريكة لها في القضية السورية، وعبرت عن ذلك بوحشية بالغة بعد قيام طيرانها بقصف المدن والبلدات والقرى السورية وتدميرها فوق رؤوس ساكنيها من المدنيين، فتمكنت من إعادة رسم المشهد الميداني بتوسيع جغرافية نظام الأسد والميليشيات الإيرانية التي أطلقت يدها في المناطق السورية المحررة، وشاركت معها في التغيير الديمغرافي الذي شمل مناطق واسعة في الريف الدمشقي وحمص وإدلب.
تحجيم إيران
مع تسارع الحراك الدبلوماسي الذي تشهده المنطقة، بالتزامن مع دفع عجلة عمل اللجنة الدستورية وفق الاستراتيجية الروسية نحو الأمام، تظهر ملامح تراجع العلاقات الروسية الإيرانية وتباعد رؤاها حول مستقبل سوريا، وتفسير ذلك يعود إلى محاولة تحجيم كل طرف لتمدد نفوذ الآخر في الأرض السورية، فضلا عن الحسابات السياسية الإقليمية والدولية ومن بينها الضغط الإسرائيلي على روسيا، خصوصاً الهجمات المكثفة التي تشنها "إسرائيل" ضد الميليشيات الإيرانية في سوريا، ولعل إعلان موسكو المقترن مع انطلاق عمل اللجنة الدستورية بضرورة خروج القوات الأجنبية من سوريا، تعبير صريح عن سعي موسكو إلى إخراج إيران من البلاد. وهذا ما أوضحه ألكسندر لافرنتييف، المبعوث الروسي إلى سوريا، بأن المقصود إجلاء القوات الإيرانية فضلاً عن الأميركية والتركية.
خاتمة
كل الاتفاقيات الدولية والإقليمية منذ 2012، حملت في طياتها عبارات فضفاضة وبنود تؤكد على سيادة الدولة السورية وتلبية تطلعات الشعب الثائر، لكن نتائجها الفعلية الكارثية ما تزال ماثلة أمامنا؛ مصادرة لإرادة الشعب، وإهدار للسيادة، وتسليم البلد لروسيا، وتكريس المحاصصة السياسية والمناطقية، وارتقاء آلاف الشهداء والجرحى، و شرعنة إفلات الأسد من العقاب، وتدمير المنازل والممتلكات، وفساد كبير يسير بالبلد نحو الهاوية، وغير ذلك الكثير مما يجعل السوريين يلعنون كل الاتفاقيات التي وقعت باسمهم، ولا يملك الشعب سوى انتظار ما تسفر عنه عمل اللجنة الدستورية من كوارث، أما المعارضة التي تسلمت ثمن خضوعها، فقد اتخذت أوطانا أخرى لها ولا يحرص أفرادها على العودة إلى سوريا.
وبالتالي فكل الاتفاقيات التي تبرم من أجل سوريا وترعاها موسكو، تنطوي على إذلال السوريين أمام نظام الأسد الذي أذعن للإرادة الدولية حتى بات مثله مثل كل مستعمر لا بد من رحيله ولكن الصراع الدولي على سوريا يعمل ما بوسعه لشرعنة هذا النظام كسلطة تستمد قوتها من المحتل.