بلدي نيوز- (تركي المصطفى)
مقدمة
كثيرون ينكرون حقيقة التهديدات العسكرية الأميركية ضد إيران، وأن الخلاف لا يتجاوز التصعيد الكلامي بين صقور الإدارة الأميركية وملالي طهران، والحقيقة أن هذا الطرح يتوافق مع الواقع والتاريخ، مع الأخذ بعين الاعتبار التخادم الوظيفي على مدى عقود بين إيران وأميركا في أفغانستان عام 2001م، والعراق 2003م، وقدرة إيران الفائقة على توظيف هذا التخادم داخل المكون السياسي الأميركي عبر التلاعب وعبر التنازلات بما يخدم أجنداتها الخاصة، وإن اضطرت ستعمد إلى دفع أذرعها العسكرية الخارجية للمواجهة، فقد اعتادت على مدى عقود خوض المواجهات عبر هذه الأذرع التي تعتبر القوة التخريبية الأوضح لدولة الملالي.
بعد وصول ترامب لرئاسة الولايات المتحدة؛ تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران على كافة الأصعدة، وازداد في الآونة الأخيرة التصعيد العسكري الإيراني باستهداف ذراعها "الحوثي" مناطق حيوية في الخليج العربي "السعودية والإمارات"، وجرى الرد بداية علی تلك الهجمات بالتصعيد السياسي الأميركي إثر زيارة وزير الخارجية الأميركي إلى المنطقة، وباستهداف طائرات التحالف العربي معاقل الحوثيين في اليمن، لتبقى خيارات التصعيد السياسي والعسكري مفتوحة أمام احتمالات اقتراب المواجهة.
تستعرض هذه الورقة حقيقة التصعيد العسكري الأميركي بمحركاته ومعطياته ضد إيران، وتبين أسباب ذلك التصعيد واحتمالات اتساعه ومسارحه وتداعياته على المنطقة عمومًا.
العلاقة بين واشنطن وطهران
في العام 1979انقلب الخميني مع آخرين على نظام الشاه وأنشأ "الجمهورية الإسلامية" التي رأت في الجوار العربي العدو الخارجي، وعملت على تصدير ثورتها إلى العراق أولا، بحكم أهميته الاستراتيجية حيث يشكل معبر الجند الإيراني إلى بلاد الشام ودول الخليج العربي، ولكن كل هذا الصخب الإيراني وأهدافه المعلنة قابلته الولايات المتحدة بمعاملة شبيهة بمعاملة الولد المشاكس المدلل، فهي تصبر عليه وتتقبل عباراته الجارحة كـ "الشيطان الأكبر" وتهديداته الدونكيشوتية كـ "محو إسرائيل"، وتعالجها بالأسلوب الناعم لاستغلال الملالي في حروبها الدائرة في المنطقة لتحقيق المزيد من المكاسب، فوظفت إيران باشعال بؤر خطرة لاستمرار الحروب بهدف التضييق على "الاتحاد السوفييتي" سابقا، وللاستفراد بالهيمنة على المنطقة تالياً وكانت بداية التعاون في حرب الخليج الأولى، عبر صفقة الأسلحة الأميركية التي اصطلح على تسميتها "فضيحة إيران غيت" التي تعتبر واحدة من أهم أشكال التعاون بين الولايات المتحدة وإيران، و كذلك الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001م، حيث نشطت المخابرات الإيرانية في أفغانستان لصالح تقديم معلومات لوجستية للولايات المتحدة، وفتح أجوائها أمام الطيران الأميركي، وتعاظمت العلاقات بينهما مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003م، جسدتها فتاوى تقضي بتحريم قتال القوات الأميركية، وبحماية الميليشيات الشيعية الإيرانية خاصرة الجيش الأميركي، وكافأت الولايات المتحدة إيران بإطلاق يدها في العراق، والتوصل إلى الاتفاق النووي في عهد الرئيس باراك أوباما الذي منحها حق التدخل في سوريا واليمن تقديرا لخدماتها الكبيرة، حتى بات نظام الملالي استمرارا لحكم الشاه على الرغم من عملية احتجاز الدبلوماسيين الأميركيين في بداية حكم الآيات أو الإعلان عن العداء الظاهري لإسرائيل.
ما الذي تغيّر في العلاقات؟
استغلّت إيران في حربها التوسعية ضد المنطقة العربية وبالأخص في سوريا ولبنان؛ سياسة إدارة الرئيس السابق أوباما التي أبرمت في عهده الاتفاق النووي عام 2015م، بغية الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين فأطلق يدها في توسيع حالة الفوضى الأمنية في المنطقة وفقاً لمكاسب ومصالح واشنطن، ولكن إيران أحدثت خللاً في ميزان القوى الإقليمية، فكان الرئيس الحالي ترمب الأسبق إلى إعادة الانتفاخ الإيراني لوضعه الطبيعي، وذلك من خلال إلغاء الاتفاق النووي كما لم تجدِ نفعا سياسة المخاتلة الإيرانية مع الإدارة الأميركية الجديدة الخالية من الكتلة المعارضة للحرب ضد إيران، والتخلص من قيودها كـ "جون كيلي"، ومستشار الأمن القومي "إتش آر ماكماستر"، ووزير الدفاع "جيم ماتيس"، وجنرالات الرئيس السابق أوباما، فيما حافظت على وجود بولتون وبومبيو وكلاهما من المعروفين بعدائهما لمشروع التوسع الإيراني، فضلاّ عن عدد كبير من أعضاء الحزبين "الجمهوري والديمقراطي"، إذ يرى الحزبان أن إيران تشكل تهديدًا كبيرًا للمصالح الأمريكية في المنطقة، فكان تحقيق هزيمة الإرهاب المتمثل بداعش الطريق إلى طرد الميليشيات الشيعية الإيرانية من المنطقة، و تجلَّى ذلك من خلال الحلف غير المباشر بين "واشنطن وتل أبيب والرياض"، حيث يحاول هذا الحلف فرض انهيار نظام الملالي في طهران الذي تجاوز عمره الأربعين عاما من الحروب ودعم الميليشيات الشيعية لقتل شعوب المنطقة، وتغيير ديمغرافيتها لاحتلالها مقابل الحصول على تنازلات أميركية غربية.
محركات الصراع ومنعطفاته التصعيدية
تجمع آراء كثير من المتابعين على أن تأزم العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران تصاعدت بشكل كبير منذ وصول الرئيس، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، حيث كانت أولى خطواته العملية إلغاء الاتفاق النووي مع إيران الذي أبرمه سلفه الرئيس، باراك أوباما، بهدف تحجيم طموح إيران النووي العسكري وإخضاعه لمراقبة دولية بقيادة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي. حيث يعتقد الرئيس ترامب، أن هذا الاتفاق يمنح إيران حق امتلاك التكنولوجيا النووية العسكرية ويُمثل تهديدًا لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها.
وبعد مرور عام على رئاسة ترامب، ظهر الخلاف بينهما على نحو توقع معه الكثير أنه سيؤول إلى مواجهة مسلحة عنيفة تضع حدّاً لشهر العسل الأميركي مع إيران، إلا أن ذلك لم يحدث، بل توقفت حدّة المواجهة عند العقوبات الاقتصادية ولكن ذلك لا يعني طي الجانب العسكري، بدليل ما يصدر عن وسائل إعلام الجانبين من تهديدات نارية متبادلة، ويمكن إجمال محركات الصراع بما يلي:
المحرك السياسي
مثل تصنيف الولايات المتحدة في بداية شهر أبريل/ نيسان الفائت 2019 "الحرس الثوري الإيراني" منظمة إرهابية خطوة غير مسبوقة باتجاه الضغط على النظام الإيراني، حيث قال ترامب: "هذه الخطوة التي تقودها وزارة الخارجية إدراكا منها أن إيران لا ترعى الإرهاب فحسب، ولكن الحرس الثوري الإيراني يمارس الإرهاب، ويموله، ويشجع عليه كأداة للهيمنة"، فيما ذكر بيان البيت الابيض أن "الحرس الثوري الإيراني هو الوسيلة الأساسية للحكومة الإيرانية لتوجيه وتنفيذ حملتها الإرهابية العالمية"، ووضع وزير الخارجية مايك بومبيو، وهو يشرح أسباب الإدارة لهذا التصنيف؛ سلسلة من الهجمات الإرهابية العنيفة والتي قال إنها أعطت مبررا وافيا لقرار اليوم، ومن بين الحالات التي ذكرها بومبيو حالتان تورطتا مباشرة ضد الولايات المتحدة: "تفجير مجمع أبراج الخبر عام 1996 في المملكة العربية السعودية، والذي أسفر عن مقتل 19 من أفراد القوات الأمريكية وإصابة العشرات وحالة عام 2011 التي قالت فيها إدارة أوباما إنها أحبطت مؤامرة لفيلق القدس كان الهدف منها قتل السفير السعودي لدى الولايات المتحدة في تفجير واشنطن العاصمة، وقال مسؤول أميركي قبيل إعلان بومبيو متهماً إيران باستخدام الحرس الثوري لمحاولة إعادة تشكيل الشرق الأوسط لصالحها، ولا يمكن استقرار وسلامة الشرق الأوسط دون إضعاف الحرس الثوري.
وبالتالي، فإن تصنيف الولايات المتحدة الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية يعني اعتبار التعاملات معه تعاملات مع تنظيم إرهابي، وهذا سيضفي على إيران صفة الدولة الراعية للإرهاب، كونها تقوم بتمويله وتسليحه مما سيلزم الدول قطع علاقاتها مع إيران، وبالأخص الدول والأنظمة التي تتعاون مع الحرس الثوري كـ "روسيا والعراق وسوريا".
بدا لافتاً التصعيد السياسي إثر جولات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، الذي حط في العراق بعد أن ألغى زيارة لألمانيا وتوجه إلى بغداد التقى خلالها برئيس الوزراء عادل عبد المهدي، ورئيس الجمهورية برهم صالح، وما صدر عن مباحثاته فيها من الحصول على تعهد عراقي بحماية القوات الأميركية في العراق من أي هجوم للميليشيات العراقية المرتبطة بإيران، وأطلع بومبيو المسؤولين العراقيين على أدلة توجيهات إيران للمرتبطين بها لمهاجمة المصالح الأميركية، وفي بروكسل بحث ملف إيران مع الأوروبيين، وقد شملت محطة بومبيو الأوروبية إطلاع الحلفاء في "الناتو" على التهديدات الإيرانية، وفق ما قالت الخارجية الأميركية، ثم عاد الى بلاده مارّاً ببريطانيا حليفة الولايات المتحدة الأقرب وشريكتها في أي حرب.
وقبل ذلك حشدت واشنطن العالم في وارسو فبراير/ شباط الماضي، لممارسة ضغوط قوية على العبث الإيراني في المنطقة، وفي هذا السياق، أشار وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى أن وزراء الخارجية من بلدان عديدة سيتعاملون في بولندا مع مسألة "نفوذ إيران المزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط"، وشكل تجمع وارسو مناسبة لاستعراض وحدة الصف كرد قوي على نظام الملالي، ويمكن استشفاف أهمية تجمع وارسو الدولي من ردود الأفعال الإيرانية على المؤتمر، فمُنذ أن أعلن وزير الخارجية الأمريكي في الحادي عشر من يناير عن انعقاد قمة في العاصمة البولندية يومي 13 و14 فبراير بخصوص إيران ومن أجل دفع طهران للتصرف كدولة طبيعية، لخلق الاستقرار وتهيئة فرص السلام في الشرق الأوسط.
لم تهدأ عاصفة التصريحات والمواقف الإيرانية التي تبرز حجم القلق الذي ينتاب نظام الملالي من ذلك المؤتمر الذي وصفه مراقبون بأنه أشبه بـ "حلف وارسو" في عام 1955، وأعاد للأذهان المؤتمر الذي عقدته 4 قوى دولية في غوادلوب بفرنسا، في عام 1979 الذي تم خلاله الاتفاق على ضرورة رحيل نظام الشاه في إيران آنذاك.
المحرك الاقتصادي
شهدت العلاقات الأمريكية الإيرانية تأزماً واضحاً مع تولي الرئيس ترامب الإدارة الأميركية، فبعد أن وقعت طهران مع الدول الكبرى اتفاقاً حول برنامجها النووي في 14 يوليو 2015، بعد 21 شهراً من المفاوضات الصعبة، أقرّ ترامب الذي تعهد منذ حملته الانتخابية بسياسات صارمة ضد إيران، إلغاء الاتفاق وواصلت الإدارة الأمريكية التصعيد ضد إيران بشكل عملي، واستهدفت عقوبات الحزمة الأولى في السابع من أغسطس 2018، القطاعات المالية والتجارية والصناعية، وشملت حظر تبادل الدولار مع الحكومة الإيرانية، إضافة لحظر التعاملات التجارية المتعلقة بالمعادن النفيسة خاصة الذهب، وفرض عقوبات على المؤسسات والحكومات، التي تتعامل بالريال الإيراني أو سندات حكومية إيرانية، وغير ذلك.
في الثالث من نوفمبر 2018، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تطبيق الحزمة الثانية من العقوبات على إيران، وضمت تلك الحزمة عقوبات على أكثر من 600 شخص وشركة في إيران، إضافة إلى عقوبات أشد أكملت حلقة العقوبات الصعبة ووُصِفت بأنها (شالَّة)، استهدفت بصورة مباشرة شراء النفط (المواد النفطية الإيرانية والموانئ الإيرانية والخطوط الملاحية والصناعات الملاحية). كما قرر الرئيس ترامب إلغاء الاستثناءات من العقوبات الأمريكية الممنوحة لخمس دول عند شرائها النفط الإيراني بدءاً من شهر مايو/ أيار الحالي، وأعلن البيت الأبيض أن الإعفاءات من أثر العقوبات المفروضة على إيران والممنوحة لتركيا والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية لن يتم تجديدها عندما تنتهي صلاحيتها في 2 مايو، ويهدف هذا القرار إلى خفض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر وحرمان إيران من مصدر دخلها الرئيسي، وتبدو العقوبات أداة الولايات المتحدة الأميركية الرئيسية لدفع الاقتصاد الإيراني إلى الانهيار في مسعى لتعزيز الحالة الاحتجاجية في إيران خاصة تلك التي اتخذت شعارات معيشية، وكان آخرها تلك التي بدأت في مدينة مشهد وانتقلت إلى عدد من المدن الإيرانية الأخرى، وتُظهر نتائج العقوبات أن ظروف معيشة الناس قد ساءت وانخفضت قوتهم الشرائية ودخلهم، وانخفض مقدار وصول الناس إلى الكثير من السلع، فضلًا عن الظروف الصحية والطبية ونوعيتها التي تراجعت عمَّا كانت عليه قبل العقوبات، كما أضيفت عقوبات أخرى على قطاع التعدين وهو الثاني في الاقتصاد الإيراني بعد النفط، ويقضي القرار الجديد بفرض عقوبات ثانوية على الشركات والمؤسسات غير الإيرانية إِنْ تعاونت مع إيران في حقل الإنتاج المعدني، وأصبح الوضع صعباً على النظام الإيراني الذي يواجه مصاعب اقتصادية واستياءً شعبياً.
المحرك العسكري
تجلّى هذا المحرك في عدّة خطوات عسكرية تصعيدية غير مسبوقة، يمكن إجمالها بالآتي:
ـ إرسال سبع سفن حربية إلى مياه الخليج العربي بقيادة حاملة الطائرات "أبراهام لينكولن" ومنها: سفينة "يو إس إس ليتي جولف"، وسفينة "يو إس إس باينبريدغ"، وسفينة "يو إس إس نيتز" و"يو إس إس ماسون"، بالإضافة إلى مدمرتين من طراز "آرلي بورك" مزودة بأسلحة صاروخية موجهة يمكنها حمل 90 صاروخ "توماهوك" وصواريخ أخرى، بالإضافة إلى ذلك توجد قبالة سواحل الإمارات العربية المتحدة، بالقرب من منطقة الخليج، سفينة إنزال "Kearsarge" والتي يمكنها أن تحمل على متنها من 20 إلى 30 طائرة مروحية، بما في ذلك أحدث القاذفات المقاتلة من الجيل الخامس "إف-35بي".
ـ سحب الدبلوماسيين الأميركيين غير الأساسيين من العراق، والسبب بحسب الإدارة الأميركية "تهديد وشيك" على "صلة مباشرة بإيران". وقال أحد هؤلاء المسؤولين في الخارجية الأميركية إن هذا التهديد "حقيقي"، تقف خلفه "ميليشيات عراقية بقيادة الحرس الثوري الإيراني"، وأضاف أمام صحافيين في واشنطن: "إنه تهديد وشيك يطاول طواقمنا"، وطلبت الولايات المتحدة الأربعاء الماضي من جميع موظفيها غير الأساسيين مغادرة سفارتها في بغداد وقنصليتها في أربيل نتيجة تصاعد حدة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران جارة العراق، ما دفع العديد من البلدان الأخرى إلى التعبير عن القلق، وكانت الخارجية الأميركية قد أصدرت بيانا في التاسع من ابريل/نيسان الماضي تحذر فيه رعاياها من السفر إلى العراق.
ـ رفع حالة التأهب القصوى للقوات الأميركية في العراق للدرجة الرابعة، جاء ذلك على خلفية معلومات استخباراتية تشير إلى احتمال تعرض القواعد الأميركية هناك لاستهداف من قبل المليشيات الموالية والمدربة والممولة من طهران.
ـ تحذير وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، القادة العسكريين العراقيين بشكل واضح من مخاطر إدماج المليشيات الشيعية المسلحة تحت إمرة القوات العراقية الرسمية، محذرا بأن أي استهداف للوجود الأميركي هناك سيُرد عليه بقوة وبسرعة ودون العودة إلى بغداد أو أخذ الإذن منها.
من جانبها قامت طهران بالرد على الاجراءات الأميركية باتخاذ الخطوات التالية:
ـ إعلان طهران في 8 مايو/أيار الجاري تعليق العمل ببعض الالتزامات الواردة في الاتفاق النووي، وكانت إيران قد أبلغت الصين وفرنسا وألمانيا وروسيا وبريطانيا، بقرارها التوقف عن التقيد ببعض التزاماتها بموجب الاتفاق، وذلك بعد عام من انسحاب الولايات المتحدة منه ومعاودتها فرض عقوبات على طهران.
ـ رصدت الاستخبارات الأميركية تحركات لمليشيات إيرانية كـ "عصائب أهل الحق" وغيرها من فصائل الحشد الشعبي في العراق، قامت بنقل منصات صواريخ لمكان قريب من القواعد الأميركية، ومن المعروف أن هناك ست قواعد أميركية منتشرة في العراق تضمّ ما يقدر بـ 5200 جندي أميركي، وتشير المعلومات الاستخباراتية إلى أن إيران نقلت صواريخ باليستية قصيرة المدى إلى حلفائها من المليشيات العراقية خلال الأشهر الماضية، والهدف هو أن تكون لديها خطة وجاهزية حال تم ضرب أهداف إيرانية من قبل الولايات المتحدة.
ـ استهداف الميليشيات الحوثية في اليمن والمدعومة من إيران المنشآت النفطية للمملكة العربية السعودية، كـ "محطتي الضخ البتروليتين التابعتين لشركة أرامكو بمحافظة الدوادمي ومحافظة عفيف بمنطقة الرياض"، في هجوم الثلاثاء الماضي عبر استخدامها سبع طائرات دون طيار في الهجوم.
ـ قيام إيران بالاعتداء على أربع سفن بينها ناقلتا نفط سعوديتان وسفينة نرويجية قبالة ميناء الفجيرة الإماراتي، وهو أسلوب إيراني كلاسيكي في العدوان عن طريق زوارق صغيرة موجهة مزودة بمواد تفجيرية، ألحقت هذه الزوارق الصغيرة الموجهة أضرارا متوسطة بالسفن الأربع، فيما أصحاب السفينة النروجية يقولون إنّها كادت تغرق وأن التفجير الذي تعرّضت له خلّف فجوة مستديرة في الهيكل.
الجزء الثاني
قرقعة الحرب وسيناريوهات المواجهة
كثير من السجالات التي تدور بين الولايات المتحدة وإيران هي حول: هل الحرب قادمة أم أن قرقعة السلاح أقرب إلى الضغط لتحقيق أهداف سياسية؟.
في ضوء كل ما أُثير سابقًا، يمكن تصور عدد من الافتراضات المتبادلة بين الجانبين الأميركي والإيراني وانعكاس ذلك على المنطقة، في إطار السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: الحرب المستحيلة
يندرج هذا السيناريو تحت رؤية افتراضية واسعة وهي أن أميركا لن تقوم بشن حرب شاملة ضد إيران، وستبقى على وتيرة متصاعدة لتكثيف الضغط عبر العقوبات الاقتصادية التي تضيق الخناق حول إيران، مقرونة بحشد لآلة عسكرية ثقيلة، من ضمنها الطائرات العملاقة "بي 52" والبوارج الضخمة، ويمكن تلخيص هذا السيناريو الذي تدعمه الماكينة الإعلامية الإيرانية بأن الحرب مستبعدة، حيث ليس من مصلحة الولايات المتحدة الحرب، فقد بنى ترامب شعبيته الانتخابية على إعادة الجنود الأميركيين إلى وطنهم، ولن يكون من مصلحته خوض حرب ستضطره من جهة إلى تعريض الجنود الأميركيين في الدول المجاورة لإيران إلى خطر القتل، ومن جهة أخرى إلى إرسال قوات أخرى إلى ساحات القتال لمنع إيران من الانتصار، وستعمد إيران إلى عرقلة تصدير النفط من مضيق هرمز لدفع أسعارها إلى الأعلى فيتضرر المستهلك الأميركي وقد يؤثر ذلك على ترامب في الانتخابات الرئاسية العام القادم.
وإن صحّ هذا الافتراض؛ فإن إيران ستلجأ إلى سياسة المخاتلة من الآن إلى يونيو/ حزيران عام 2020 موعد بدء الحملة الانتخابية الرئاسية في واشنطن، لكسب الوقت بالابتزاز أو بالتفاوض "المسرحي" مع إدارة ترامب، إن بشكل مباشر أو عبر وسطاء من وراء الكواليس، وذلك للحفاظ على مكاسبها ومنع الانفجار الداخلي، وهذا يعني استمرار الخطر الإيراني بكل أشكاله في المنطقة العربية.
السيناريو الثاني: التهديد بالحرب
يمكن تصور هذا السيناريو من خلال التداعيات والتأثيرات المحتملة للتطورات الجارية، فكل الحروب الكبرى اشتعلت من شرارة صغيرة ثم اتسعت دوائر احتراقها، ومن أبرز من يدفع الرئيس الأمريكي باتجاه الحرب ضد إيران هم صقور إدارته بالدرجة الأولى كـ "وزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون"، وبعض القوى الإقليمية المتضررة من العبث الإيراني في المنطقة، وقد تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران بعدما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية إرسال حاملة الطائرات "أبراهام لنكولن" وطائرات قاذفة إلى الشرق الأوسط، لوجود معلومات استخبارية بشأن استعدادات محتملة من قبل طهران لتنفيذ هجمات ضد القوات أو المصالح الأمريكية، حيث ستحرك إيران أذرعها العسكرية في كل من العراق ولبنان وسوريا وغزة واليمن، بهدف تهديد المصالح الأميركية والضغط على إسرائيل، وهذا ما كشفه مايكل ماكول، أحد أبرز النواب الجمهوريين ونائب ولاية تكساس، في حديث لصحيفة (يو إس آي توداي)، عن معلومات حصلت عليها واشنطن تفيد بوجود مخطط لخطف وقتل جنود أميركيين في الشرق الأوسط، كما أضاف ماكول أن "سليماني سلم رسالة - استهداف الأميركيين - إلى حزب الله، وتحديدًا إلى إحدى خلاياه المعروفة بعمليات الاختطاف والقتل، ونصت التوجيهات على قتل الجنود الأميركيين واختطافهم".
وبالفعل هاجمت ميليشيا شيعية عراقية مساء الأحد بالقذائف الصاروخية محيط السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء ببغداد، مما يشير إلى تصعيد إيراني ضد المصالح الأميركية في المنطقة، ولكن إدارة المواجهة الأميركية ضد طهران لا تزال في طور تكثيف الضغط السياسي وتعاظم الحصار الاقتصادي بغية زعزعة الوضع الداخلي الإيراني، لتكوين تيار واسع ضد حكومة الملالي يدفعها للرضوخ إلى طاولة المفاوضات بالشروط الأميركية لتعديل الاتفاق النووي، وإلا فالتهديد بالحرب قائم وقابل للاشتعال في أية لحظة.
السيناريو الثالث: الحرب بالوكالة
لا تمثل تغريدات ترامب أو تصريحات الإيرانيين الرغبة في خوض المعارك المباشرة ذات الكلفة العالية، فترامب يستخدم تغريداته في الضغط على طهران لتوقيع اتفاق جديد بخصوص برنامجها النووي، فالملاحظ من خلال إدارة الصراع الماثل أمامنا الاتجاه بالحرب إلى المسارح العربية، ما دامت الدماء ليست أميركية ولا إيرانية، وهو الحل الأسهل لكلا الطرفين المتصارعين، وكل الضخ الإعلامي باتجاه حرب مباشرة هي أمنيات ورغبات غير قابلة للتحقيق، فالمسرح العربي هو الأكثر قابلية لاحتضان الصراع ما دام العرب يتخذون موقف المتفرج والمنتظر إلى ما ستؤول إليه الكارثة القادمة، فالتجربة الإيرانية على مدى العقدين الأخيرين في توظيف الشيعة العرب أثبتت قدرتها التخريبية في المنطقة العربية، فيما كانت قدرتها على المواجهة المباشرة في حرب الخليج الأولى 1980- 1987، ضئيلة بل خرجت خاسرة أمام العراق، لذلك ستختار الابتعاد عن المواجهة المباشرة لاستكمال عملية تخريب المنطقة العربية وضرب قدراتها البشرية والاقتصادية، وهو أكثر السيناريوهات احتمالا في وقوعه.
الجزء الثالث
مسارح المواجهة الأرض العربية
تتحدث طهران على لسان خامنئي عن عدم وقوع الحرب ضد الجغرافية الإيرانية، وترفض التفاوض حتى الآن، مما يعني تشغيل إيران لوكلائها وتحويل الأرض العربية إلى مسرح عسكري في المواجهة المحتملة مع الولايات المتحدة، حفاظاً على أمنها القومي، لذلك لن تجد الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة سوى خيار المواجهة العسكرية والذي بدأت تتوضح معالمه من خلال المسارح التالية:
اليمن ومنطقة الخليج العربي
في اليوم الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة انسحابها من الاتفاق النووي مع إيران، في مايو/أيار 2018، هزت أربعة انفجارات مدينة الرياض وأعلن الحوثيون وقتها بأنهم أطلقوا مجموعة صواريخ على أهداف استراتيجية سعودية، ومع تصاعد تهديد إيران بإغلاق مضيق هرمز، كانت صواريخ الحوثيين تستهدف شركة أرامكو وناقلات نفطية قبالة الساحل اليمني في البحر الأحمر، فضلًا عن الصواريخ المحمولة على الطائرات المسيّرَة دون طيار، والصواريخ البحرية، وقد عزز ذلك استهداف ناقلة نفط سعودية بصاروخ حراري في 25 يوليو/تموز 2018م، ومع احتدام التصعيد الأميركي – الإيراني، شنت جماعة الحوثي الثلاثاء الماضي هجوما هو الأول من نوعه وحجمه على أهداف سعودية، مستخدمة سبع طائرات مسيرة دفعة واحدة استهدفت محطتي الضخ النفطي التابعتين لشركة أرامكو رقم 8 و9، اللتين تدعمان انسياب الزيت والغاز عبر الخطوط الناقلة للغاز والنفط من المنطقة الشرقية عبر محافظتي الدوادمي وعفيف، وعلق مصدر عسكري إيراني على هذا الاعتداء بأن (الحوثيين) "لهم الحق في مواجهة السعودية دفاعا عن الشعب اليمني"، وأن إيران لن تكون البادئة بالحرب لكنها في كامل جاهزيتها لمواجهة أي مؤامرة تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة، أي خارج الجغرافية الإيرانية، فضلاً عن ذلك تمتلك إيران خلايا نائمة ضمن دول الخليج العربي قادرة على تحريكها لإحداث بلبلة داخلية وإرباك تلك الدول بمواجهات وحروب أهلية لا يمكن لأحد التكهن بمآلاتها.
المسرح السوري اللبناني
تهيمن إيران بميليشياتها الشيعية المتعددة الجنسيات على مناطق واسعة في الجنوب السوري للدفاع عن نظام الأسد وفي لبنان يتواجد حزب الله وكيلها وذراعها العسكري، وهي منطقة قابلة في كل لحظة للاشتعال، فإسرائيل استهدفت خلال السنوات الماضية عشرات المواقع الإيرانية في سوريا، فيما تجنبت إيران الرد المباشر الذي من شأنه أن يزيد من حدة المواجهة مع إسرائيل، وإذا ما قررت إيران المواجهة ستنضم الولايات المتحدة لجانب إسرائيل في هذه المنطقة الحيوية لاستنساخ حرب تموز عام 2006م، حيث ربحت إيران وخسر لبنان، أما في البادية السورية فالميليشيات الشيعية الإيرانية تسعى إلى الاستيلاء عليها أو الدفاع عنها مع وضع هدف واحد في الاعتبار؛ هو السيطرة على الطريق السريع الاستراتيجي بين دمشق وبغداد، لذلك قامت بتكثيف تواجدها العسكري قبالة القاعدة الأميركية في التنف للعمل على خلق حالة تهديدٍ مستمرة في المنطقة بمحاولتها وصل الحدود السورية العراقية لاستمرار تدفق مواردها وأسلحتها إلى قواعدها في مختلف مناطق نفوذ الأسد وترى في انتشار ميليشياتها العسكرية في البادية السورية خطاً دفاعياً متقدماً وعمقاً استراتيجياً لها، ولذلك فإن الولايات المتحدة تراقب عن كثب التحركات الإيرانية تحسباً لأي تمددٍ لميليشياتها التي باتت على الضفة الغربية من نهر الفرات وعلى تواصلٍ جغرافيٍ كاملٍ مع ميليشيات الحشد الشعبي في العراق لتجعلها في حالة إرباك مستمرة.
العراق
نشرت صحيفة الغارديان تقريرا عن الملف الإيراني لمراسلها لشؤون الشرق الأوسط مارتن تشِلوف في صدر صفحتها الأولى حمل عنوان "إيران تطلب من ميليشيات الاستعداد لخوض حرب بالوكالة في الشرق الأوسط"، ويقول تشِلوف إن الجريدة علمت من مصادر استخباراتية أن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، التقى قادة الميليشيات الخاضعة لنفوذ طهران خلال زيارته الأخيرة للعراق قبل نحو 3 أسابيع وأخبرهم "بالاستعداد لخوض الحرب بالوكالة" على خلفية التصعيد الأمريكي ضد طهران، ويضيف تشِلوف أن أحد المصادر قال "إنه بالرغم من أن سليماني اعتاد لقاء قادة الميليشيات بشكل مستمر منذ 5 سنوات إلا أن هذا اللقاء الأخير كان مختلفا جدا، لقد كان الأمر أكبر بكثير من مجرد دعوة إلى إشهار السلاح"، ويقول تشِلوف إن "قادة ميليشيات عدة تعمل تحت مظلة الحشد الشعبي حضرت الاجتماع الذي دعى إليه سليماني، حسب المصادر الاستخباراتية التي قالت إن أحد المسؤولين البارزين التقى مسؤولا غربيا وعبر له عن قلقه مما جرى".
وعلى إثر ذلك قامت الإدارة الأمريكية بإجلاء موظفيها من بغداد وإربيل بعد وصول هذه المعلومات إلى السفارة الأمريكية في بغداد، كما رفعت مستوى التأهب في القواعد العسكرية في العراق وفي مواقع مختلفة في منطقة الخليج بعد أن شعرت أن مصالحها فيها قد تكون عُرضة للخطر من الميليشيات الشيعية الموالية لإيران.
خلاصة
في ضوء ما سبق، فالملاحظ على الآلية المتبعة في إدارة الصراع بين واشنطن وطهران، أنها تسير باتجاهات التهويل والتصعيد مع احتمال ضئيل للانزلاق في مواجهة شاملة، فالفارق كبير بين الأداء الأميركي المتوقف على الحشد العسكري الملتزم، والتجرؤ الإيراني على استهداف دول الجوار بشكل مباشر أو عبر أدواتها ووكلائها، وما يزيد من محاذير التصعيد أن السلوك الأميركي اتجاه إيران لا زال في إطار المعاملة الشبيهة بمعاملة "الولد المشاكس المدلل"، فهي تصبر عليه وتتقبل عباراته الجارحة، وتجاوزاته على دول الجوار ودوره المزعزع للاستقرار والمهدد لشريان الاقتصاد العالمي، وتعالجها بالأسلوب الناعم لاستغلال الملالي في صراعاتها الدائرة في المنطقة لتحقيق المزيد من المكاسب، ولكن نذر اندلاع حرب قد تحدث نتيجة خطأ في التقدير أو بعد تهور إيراني مباشر أو عبر الوكلاء ردا على ما تعتبره محاولة خنق اقتصادي تمارسه واشنطن، وهذا ما استدعى قلق أوربا التي فشلت في مناوراتها بين طرفي النزاع، وكذلك أوضحت روسيا موقفها الحيادي من خلال تصريح الرئيس فلاديمير بوتين عن عدم الاستعداد للعب دور فرقة الإطفاء بين واشنطن وطهران.
وأخيراً؛ من الوارد نجاح الولايات المتحدة في سوق إيران لجولة جديدة من المفاوضات للتوصل إلى ملحق إضافي لاتفاق 2015، تزامنا مع سعي موسكو للعمل على خروج الميليشيات الإيرانية من سوريا، حيث تتواصل الضربات الإسرائيلية للقواعد الإيرانية على مرأى ومسمع الروس فيما ستبقى الأذرع الإيرانية مزروعة في العراق ولبنان واليمن وتقع مسؤولية بترها على عاتق العرب و"إسرائيل " في صراع لا نهاية له.