بلدي نيوز – (تركي المصطفى)
مقدمة
يردّد إعلام "المحور الإيراني" في الآونة الأخيرة، أن قوات الأسد بالاشتراك مع ميليشيات إيران مسنودة بالروس، تهدّد باللجوء إلى الحسم العسكري كخيار ضرورة أمام تعثر اتفاق الجنوب كما صرّح "الأسد" في مقابلته الأخيرة مع الإعلامي الطائفي حسين مرتضى، وتشي التعزيزات العسكرية التي تصل تباعا إلى محافظة درعا بأن عملية عسكرية كبيرة يجري التحضير لها، من هنا يمكن إبراز موقع ودور الجنوب السوري لدى قوى الصراع الدائر في تلك المنطقة، وتحديد طبيعة استراتيجيات تلك القوى، ومن ثم الانتقال إلى بيان موقع الجنوب ودوره في تلك الاستراتيجيات، لما يتمتع به من ميزات وخصائص جيوبولوتيكية كثيرة، مكنته من أن يكون أخطر محاور الصراع السوري، وملتقى أهم نقاط التحكم الاستراتيجي، كونه الشريط المحاذي لـ "إسرائيل"، والمتصل بجنوب لبنان الذي تسيطر عليه مليشيا "حزب الله" من جهة، وبوابة تدفق القوة العسكرية الفارسية باتجاه الأردن ومن ثم الخليج العربي من جهة أخرى، وقد مكنته تلك الميزات من الارتباط العضوي والمصيري، عسكريًّا وسياسيًّا، بعملية التطويق التدريجي الآمن لـ "إسرائيل" بحزام فارسي ذي ثوب شيعي، وهذا ما جعله موضع تنافس وصراعات معقدة بين مختلف قوى الاحتلال والتسلط الإقليمي والدولي.
الحدود السورية مع فلسطين المحتلة هي امتداد طبيعي للحدود اللبنانية، بالإضافة للنفوذ الإيراني في قطاع غزة ممثلا بحركة حماس، مما وفّر للقوى "الشيعية" إمكانية التحكم والسيطرة في إطار التخادم الإيراني – الإسرائيلي، لذلك نجد دولة مثل إيران تندفع إلى هذه المنطقة بشراهة واضحة، على اعتبار أن مصالحها تتجاوز مناطق نفوذها الحالي في كل من سورية والعراق ولبنان واليمن، في محاكاة للدول الكبرى بأن لها مصالح استراتيجية مع "إسرائيل" للمشاركة في حفظ الأمن الإقليمي وتسوية قضاياها العالقة دوليا، بعد سقوط الجدار العربي الذي بناه الرئيس العراقي صدام حسين في وجه إيران التي تقدمت باتجاه العراق وسوريا عبر أذرعها المذهبية والعنصرية السلالية الموالية لها في تلك المناطق، لتطويقها واجتياحها وهذا ما نفذته عمليا في مواجهة ثورات الربيع العربي، وتقويض دعائم الأنظمة السياسية المناوئة لها، وبالأخص دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية أكبر المتصدين للمشروع الإيراني التوسعي، ومحاولتها اختراق مصر من عتبة سيناء المشاطرة لقطاع غزة، والنفاذ إلى الأردن على طريق تنفيذ أوسع لخريطة الهلال الفارسي الذي سيتجسد عمليا في معركة الجنوب الجاري التحضير لها.
محور "إيران" من قمع الشعوب إلى حماية "إسرائيل"
تؤكد شواهد التاريخ السياسي العسكري منذ ولادة محور "إيران"، أن حروبهم بمجملها هدفها الاستيلاء على السلطة، أو استردادها بواسطة حروب عنيفة طويلة أو خاطفة، ترافقها حالات نهب وقتل ومصادرة الأملاك الخاصة، ويشترك في هذا النهج كل أطراف المحور الإيراني: "الملالي في إيران" و"حزب الله" في لبنان، و "الحوثي في اليمن"، ومن ذلك ما تعيش سوريا تفاصيل أحداثه في الوقت الراهن، فالثورات الشعبية السورية المتواصلة على امتداد حقبة آل الأسد رغم الدماء التي أريقت في ثورة السوريين عام 2011، وانتفاضة الثمانينات وما سبقها من حركات تمرد عسكرية قمعها "الأسد الأب" في مهدها، تماثل ما قامت به إيران من قمع وبطش ضد "الثورة الخضراء" في إيران عام 2009م، وقبل ذلك انقلاب الخميني على شركائه في الثورة على الشاه عم 1979م، ومواجهة انتفاضة الإيرانيين ضد نظام الملالي في الوقت الراهن، وكذلك استيلاء "حزب الله" على مفاصل الدولة اللبنانية، وشبيه ذلك ما قام به الحوثيون في اليمن.
ففي انتفاضة السوريين في ثمانينات القرن الماضي التي سحقها "الأسد الأب" بوحشية، لم تفلح سياسة التطبيع القسري مع الشعب الذي انتفض مجددا في العام 2011م ضد "الأسد الوريث"، والتي تدور رحاها منذ ما يقارب الثماني سنوات، واجتاحت فيها مجاميع طائفية معظم المناطق السورية، واستبيح فيها كل محرّم من عرض ودم ومال، ولم تسلم من ذلك كل الحواضر السورية التي أبيحت لمقاتلي الشيعة مكافأة لهم، وفرضا لسلطة المتغلب على المغلوب.
وبالنظر إلى كل ما جرى ويجري من تحركات لهذا المحور، والتي جاءت بالتفاهم والتنسيق مع مراكز القرار الدولي، نجحت إيران كبيرة هذا المحور في استثمار اتفاقها النووي مع الرئيس الأميركي الآفل "باراك أوباما"، واستغلت مع مرتزقتها ظروف التنافس الدولي بين "موسكو وواشنطن" لتعزيز نفوذها في المناطق التي استولت عليها، ورفد قدرات ميليشياتها العسكرية بالمقاتلين والأسلحة والإمدادات اللوجستية حتى باتت تسيطر على طول الحدود الشطرية بين لبنان وسورية المتصلة بفلسطين والجولان المحتلتين، ما عدا شريط ضيق تتقاسم السيطرة عليه فصائل المعارضة وتنظيم "داعش".
وعلى هذه الخلفية يأتي التفاهم بين "تل أبيب" وواشنطن وموسكو وطهران تحضيرا لمستقبل الجنوب، حيث تزامنت التطورات في الجنوب السوري مع مباحثات هاتفية بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ورئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ركزت على الملف السوري، إذ أعرب الطرفان عن استعدادهما لتعزير التنسيق بشأن تسوية الوضع في سورية، وإرساء الأمن على الحدود السورية "الإسرائيلية"، واتفق الجانبان على مواصلة الاتصالات على مستويات مختلفة، وبذلك منح الروس فرصة بلورة الاتفاق وهندسته مع كل الأفرقاء رغم الضربات الجوية الإسرائيلية، والمطالب الإعلامية المتشددة التي تطالب أن يتعهد الروس بإخراج الإيرانيين من المنطقة الحدودية، ولكن موسكو اقترحت إجراء "مصالحة" في المنطقة، وبمعنى آخر تهجير مقاتلي المعارضة مع عائلاتهم إلى مناطق الشمال مقابل دخول قوات النظام، على غرار ما جرى أخيراً في الغوطة الشرقية قرب دمشق.
وبناء على ذلك يمكن قراءة الاتفاق "الروسي- الإسرائيلي" على سحب القوات الإيرانية بعيداً عن حدود الجولان المحتل، من باب المقايضة والابتزاز السياسي بعد الفشل الروسي في احتواء إيران التي تفرض إرادتها العسكرية والسياسية على بشار الأسد ومؤسسته العسكرية، من خلال دمج كل مليشياتها بكيان جديد عرف باسم "أفواج الدفاع المحلي"، بقوام 100 ألف مقاتل من مختلف الجنسيات بقيادة إيرانية يتمركز غالبيتهم في محافظتي القنيطرة ودرعا، وفي محيط العاصمة دمشق، ويمارسون أعمالا سيادية تجسّدت أثناء كتابة هذه الورقة بقيام قائد من مليشيا "حزب الله" بإعدام عشرين عنصرا من قوات الأسد رفضوا المشاركة في معركة درعا.
من هنا يبدو أنّ إخراج إيران من سوريا أمر معقد للغاية، بسبب طبيعة الوجود الإيراني وتغلغله أمنيا وعسكريا داخل سوريا، إضافة لحاجة روسيا التحالف مع إيران كورقة ضغط قوية، ريثما تستكمل تسوية قضاياها العالقة مع الولايات المتحدة، وكذلك حاجتها توظيف مليشياتها لحماية مناطق سيطرة الأسد، وهذا ما سيرسخ الوجود الإيراني في سورياـ وبدل إخراجها من سورية يجري التفاهم على صيغة مشتركة تشرعن وجود المليشيات الإيرانية في منطقة الجنوب باسم قوات الأسد.
من المطالبة بمحو إسرائيل إلى السلام الدائم
يصعّد نظام الأسد مسنودا بـ "حزب الله" والمليشيات الشيعية و"الحرس الثوري الإيراني" عسكريا، رغم التحذيرات الأميركية الإعلامية التي تدخل من باب إعادة تأهيل إيران بعد الرضوخ لمطالبها، واستكمال الحزام الشيعي الآمن حول حدود "إسرائيل" الساعية إلى تفاهم يفضي إلى حدود هادئة وسلام دائم، مع محور لا يعترف بالمواطن والإنسان أو بحقوقهما، ويستند في سلطته على قاعدة المتغلب ويفتقد لدولة المؤسسات والقانون، وفوق ذلك يحكمه ملالي حولوه إلى ايديولوجية تشبه "إسرائيل" في جانبها الديني، عدا عن المغازلة الإيرانية التي وردت بتغريدة خامنئي وتراجعه المفاجىء عن وعده "بمحو إسرائيل من الخريطة"، ومطالبته "بأساليب ديموقراطيّة لحلّ النزاع بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين"، وهو أسلوب براغماتي رخيص يذكرنا بنهج سياسة المخاتلة الإيرانية المتلونة في عهد الخميني الذي تعاون في مراحل حربه ضد العراق مع "الشيطان الأكبر" و"إسرائيل" في الفضيحة الشهيرة "إيران-غيت".
من هنا؛ فنظام الملالي لا يقيم أي وزن للاعتبارات الأخلاقية والدينية التي يتشدق بها من ناحية القدس وتحريرها، المهم عند الإيرانيين، الخروج من مأزقهم السوري والمواءمة بين الرؤية الروسية والإسرائيلية دون حرج لأحد الأطراف، ما دام الهدف البلاد العربية لا "إسرائيل"، التي قامت بدور أساسي في تسليح نظام الملالي في إيران، وكانت أقوى وأهم شريك لها في جهدها العسكري حتى الآن, ولا أدل على ذلك من فضيحة "إيران –غيت " المدوية التي انتشرت شظاياها في كل مكان وتبين أبطالها، وشهدوا حينها على الإعلام الغربي بتفاصيلها.
يستدل مما سبق أن استقراء عميقا لأوضاع الجنوب السوري والمنطقة على ضوء الممارسات الفعلية الإيرانية، وليس من باب الهرطقات اللفظية التي يغرق فيها إعلام محور إيران في عزفهم المتواصل على وتر القدس لتخدير المشاعر العربية والإسلامية، وهم يتسللون بهدوء لتطويق "إسرائيل" بحزام فارسي يحميها من الأغيار العرب، وهذا ما نفهمه من تصريح "خامنئي" الأخير، ودعوته "لحلّ النزاع بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين بالأساليب الديمقراطية"، وليس إزالة إسرائيل التي ارتبطت تاريخيا بمرحلة "المدّ القومي العربي".
نتيجة
يلعب طرفا الصراع في الجنوب السوري "إيران وروسيا" دوراً فاعلاً في تشويه فصائل الجيش السوري الحر، ذات التوجه السني المناوئة للمليشيات الشيعية، ودمغها بالقاعدية والداعشية والتكفيرية، وتدور المعركة السياسية على هذا التشخيص عبر مختلف وسائل الإعلام، وهذا ما انتهجته إيران في العراق بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين، حيث قوَّت الميليشيات الشيعية المسلحة لتتصدر مواجهة ما يسمى "الإرهاب السني" بالإنابة عن الأمريكيين والغرب، وفق أجندات ومنافع مشتركة تحاول إيران التذكير بها لمدّ الجسور بينها وبين "تل أبيب"، على طريق تبريد النزاع القائم كما فعلت في جنوب لبنان من خلال اتفاقية الخط الأزرق، التي أنهت الصراع من جهة مليشيا "حزب الله" منذ العام 2006م، والعمل على إخماده نهائيا بعد التوصل إلى صيغة تخدم المخططات الإسرائيلية، والأحلام الصفوية الإيرانية التي هي التحقيق السياسي للوجه الديني المشترك بين التلمودية والخمينية، فبات النزاع بين "طهران وتل أبيب" كأنّه نزاع حدود بين دولتين متجاورتين، لا نزاع قوى استيطانية على أرض اقتلع منها أصحابها بالحروب والتحالفات بينهما على مدى عقود.
وعلى الرغم من كل الحشود العسكرية الإيرانية التي تصل تباعا إلى الجنوب السوري، فلن تهاجم بها إذا تأكّد لها ثلاثة أمور رئيسية:
- أنّ قيادة فصائل الجبهة الجنوبية السياسية والعسكرية، لديها الإرادة والتصميم على القتال بعناد ونفس طويل.
- أنّ الحشود الإيرانية لن تجد في الجنوب خونة، أو مرتزقة يتحالفون معها في عدوانها.
- أنّ التحالف الذي تقوده واشنطن جاد في مواجهة التغلغل الإيراني في المنطقة.
ولكن إن قعدت الفصائل عن نصرة بعضها، وعملت برأي الداعين إلى التسليم بمشيئة الروسي والإيراني، وبتواطؤ واشنطن وتل أبيب ورفع الرايات البيضاء، فإننا أمام كارثة تاريخية جديدة، نتائجها أدهى وأمرّ وأبعد أثرا في تاريخ الأمّة والأجيال المقبلة، من خلال الحلف الإسرائيلي الإيراني الذي يشهد تحوّلات مثيرة في منطقة أكثر إثارة.