بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
مقدمة:
ثمة إطار يمكن فيه ربط نشاط تنظيم "داعش" في البادية السورية، بالتطورات المحمومة بين أطراف المواجهة، نتيجة تشابك قواعد الصراع، وتعاظم الخلافات بين الحلفاء، وتباعد الفجوات بين المتصارعين في تمدد وانحسار للتنظيم الذي التهم قبل أيام، عشرات القتلى من روسيا وميليشيات متعددة الجنسيات.
وفي تطور لافت؛ يواصل التنظيم هجومه على الطريق الممتدة بين دير الزور وتدمر، وصولا إلى أطراف السويداء، وعلى أطراف حواضر ضفة الفرات اليمنى، حيث يوسّع التنظيم عملياته العسكرية في كافة الاتجاهات، بالتزامن مع تراجع الميليشيات الإيرانية، وقوات الأسد وانحسارها باتجاه نقاط ارتكازها على أطراف "تدمر والسخنة ودير الزور"، بعد مقتل المئات منها، وهذا يفتح احتمالات متنوعة أمام نشاط التنظيم، وخاصة بعد توغله في عمق التواجد العسكري الروسي، واعتراف موسكو بمصرع ستة من جنودها (المستشارين)، إضافة إلى مقتل العشرات من "ميليشيا فاغنر"، مما خلط الأوراق وصدم موسكو من استفاقة التنظيم المفاجئة، وهي التي استعجلت وحلفاؤها إعلان "النصر المؤزّر" في المنطقة الشرقية.
تناقش هذه الورقة، كيف استعاد تنظيم "داعش" نشاطه في مناطق واسعة من سوريا، "البادية وأطراف تدمر ودير الزور"، وهو في حالة انحسار كبير في كل من سوريا والعراق، وكيف سمحت الميليشيات الإيرانية للتنظيم التقدم باتجاه القاعدة الروسية على أطراف مدينة الميادين؟
وتطرح الورقة سؤالا متصلا، أين الغطاء الجوي الروسي الذي دمّر المناطق الشرقية من سوريا، فيما عجز عن متابعة مئات من عسكر التنظيم الذين ينشطون في البادية السورية، وتتوقف الورقة في محطتها الأخيرة عند تركيز الماكينة الإعلامية الإيرانية، باعتبارها المصدر شبه المنفرد لما يجري في المنطقة الشرقية، عبر مراسلي "حزب الله" وغيرهم من مراسلي الميليشيات، على الرسالة السياسية الإيرانية الموجهة للقوى الفاعلة من خلال نشاط " التنظيم" الأخير.
نشاط تنظيم "داعش" واستراتيجية التواطؤ
أعاد تنظيم "داعش" نشاطه في البادية السورية، وعلى الحدود الشطرية لحواضر المناطق الشرقية، وهو في حالة انهيار وتقهقر، لينحصر في جيوب صحراوية متباعدة، وذلك إثر قصف جوي روسي عنيف مهّد لتقدم عشرات الآلاف من الميليشيات الإيرانية المتعددة الجنسيات، التي تمكنت من بسط سيطرتها على المنطقة، وعبّرت عن انتصارها بإقامة حفلات موسيقية روسية، ولطميات شيعية أشرف عليها قاسم سليماني شخصيا في مدينة البوكمال.
وفيما تواجه إيران مأزقها السياسي بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي المقترن بالقصف الإسرائيلي، بغية طردها من سوريا؛ فاجأ التنظيم العالم بمذبحة طالت الجنود الروس بالقرب من مدينة "الميادين"، رغم الرقابة الإيرانية الدائمة على حركة التنظيم، وتنقلاته في البادية السورية ذات السهول المستوية الواسعة، حيث عبر نقاط حراسة تابعة لـ "حزب الله" وللحرس الثوري الإيراني، وهاجم الحامية الروسية قرب "الميادين" بمختلف أنواع الأسلحة، وقتل 6 جنود روس، بالإضافة إلى 20 عنصرا من قوات نظام الأسد، إضافة إلى تدمير ثلاث شاحنات، وآلية عسكرية، وإعطاب راجمة صواريخ، وعربة مصفحة، وناقلة جند.
كما اقتحمت مجموعة أخرى من مقاتلي التنظيم، ثلاث ثكنات لقوات النظام بالقرب من السخنة، واشتبكت مع عناصرها، ما أسفر عن مقتل ثمانية منهم، وأسر خمسة آخرين، وتدمير واغتنام ثلاث آليات متنوعة، إحداها مزودة برشاش ثقيل.
العملية التكتيكية التي تطورت سريعا تفسّر سياسياً، بأنّ الإعلام الحربي الشيعي الإيراني هو المصدر شبه الوحيد من جهة محور النظام ، إضافة إلى وكالة " أعماق" الناطقة باسم التنظيم، فالمتتبع لنشاط التنظيم الأخير يكتشف الضلوع المخابراتي الإيراني، وربما الروسي أيضا في غض الطرف عن صولة التنظيم ونشاطه العسكري في منطقة تقع تحت نفوذ الاحتلال الإيراني، وهي عبارة عن صحراء مترامية المساحة، تجعل من التقدم لوحدات المشاة مكشوفة أمام مراقبة طيران الاستطلاع الإيراني والروسي، عدا عن القوات البرية المحصنة التي تملك عتادا متطورا، والتي تجاوزها التنظيم بسرعة فائقة، وقتل في شهر أيار، وعلى عدة جبهات مالا يقل عن 200 عنصر من "شبيحة" الأسد، علاوة على مقتلة الجنود الروس.
الهجوم المكثف والمتواصل لعناصر التنظيم على عدة محاور، يحمل أسئلة دقيقة عن تواطؤ ملحوظ في نشاط التنظيم الأخير، يتقاسم مسؤوليته إيران وحلفاؤها في رسالة للعالم، لصرف الأنظار عن المأزق السياسي الإيراني الذي يحاكي في ظروفه ودلالاته، تسليم الإيرانيين تدمر لتنظيم "داعش" في كانون الثاني/يناير عام 2016م، لحرمان روسيا حينذاك من قاعدتها العسكرية في تدمر، حيث أجبرت الحامية الروسية على إخلاء قاعدتها، بالتزامن مع تقدم التنظيم من الجهة الشمالية للمدينة.
ورغم ما يبدو بين روسيا وإيران من تحالف في الحرب السورية، فالتنافس بينهما يتجلى في تحديد من هو صاحب اليد العليا في سوريا، وتزيد من حدّته عوامل دولية مجتمعة على طرد إيران من سوريا، ورغبة روسيا بالتخلي عن حليفها المختلف عنها استراتيجيا وإيديولوجيا.
أسباب نشاط التنظيم
مع استمرار المعارك في بادية دير الزور وصحراء تدمر، وأطراف الحواضر السورية في وادي الفرات، طرأت تغيرات على نمط القتال وخططه وإمكانياته، ومواقف الأطراف في التحالفات والتكتلات، وما شكل من مؤشرات تصدع في صفوف الحلفاء، استغلها التنظيم؛ فأعطته قوة دفع لعجلة المعركة، حاول استثمارها في إعادة الوضع الميداني إلى حالة من التوازن، تمكنه من اعتماد حرب الاستنزاف الطويلة الأمد في صحراء تتبدل تشكلاتها التضاريسية حسب مناخ العلاقات الدولية والإقليمية، في السباق المحموم للسيطرة على منطقة وادي الفرات الغنية بنفطها وثرواتها، ويمكن إجمال نشاط التنظيم الأخير بالأسباب التالية:
أسباب سياسية:
ربطت الولايات المتحدة قرار انسحابها من الاتفاق النووي، بالعبث الإيراني في سوريا خاصة، وفي المنطقة عموما، فطالبت، موسكو بالضغط على إيران لإخراجها من سوريا.
ولاقت المطالبة استحسانا روسيا، فدعا الرئيس فلاديمير بوتين إلى إخراج كل القوات الأجنبية من سوريا، والمقصود بذلك أولا وأخيرا الميليشيات الإيرانية، لانتفاء مصالح روسيا في حاجتها لإيران وميليشياتها في أي معركة قادمة، وانتهاء مهمتها القذرة في إطار مشروعها الامبراطوري، وإنفاقها مليارات الدولارات وسقوط الآلاف من قتلاها، علاوة على المصلحة الروسية في محاباة الكيان الإسرائيلي، كحليف محوري في المنطقة، وترحيبها الضمني بالقصف الجوي لقواعد إيران وميليشيا "حزب الله"، وإعطاء "إسرائيل" فرصة استنزاف الوجود العسكري الإيراني في سوريا.
من هنا، فالضرورة الاستراتجية التي تخدم الإيرانيين، إحياء تنظيم "داعش" في سوريا، مما يعطي الفرصة لديمومة الاحتلال الإيراني للمنطقة، وكذلك للذين يدافعون عن ذريعة وجوده في سوريا.
أسباب عسكرية:
إن نشاط التنظيم في هذه المنطقة، التي باتت المجال الحيوي لحركته، تفرض عليه القيام بعمليات عسكرية في إطار استراتيجية "الكمائن والإغارة ثم الانسحاب"، معتمدا على مرونة مقاتليه وسهولة حركتهم، من خلال استخدامه عربات رباعية الدفع تحمل أسلحة مختلفة وتتحرك في كل الاتجاهات، والطرق، والظروف، في منطقة صحراوية مترامية الأطراف، يركز من خلالها على عدة محاور، كمحور "حميمة" والمحطة الثانية -t2، ومحور ريف منطقة البوكمال من الزاوية الجنوبية الغربية، وهو مجال عمل ميليشيا "حزب الله" اللبناني، وقوات نظام الأسد، والمحور الأخير باتجاه أطراف تدمر مما أدى لخلق وضع ميداني وسياسي يخدم مصالح التنظيم باستنزاف الميليشيات عسكريا، بحيث باتت الميليشيات تتكبّد يوميا ما بين 30- 50 قتيلا، ويزيد في اتساع تصدع الحلفاء.
ولعل عملية التنظيم الأخيرة في "الميادين" ضد النقطة العسكرية الروسية، ستعمق الخلاف الروسي – الإيراني، وفي هذا الصدد أشارت معرفات قاعدة حميميم العسكرية الروسية، إنّ تنامي قدرات تنظيم "داعش" الإرهابي في دير الزور وامتداده نحو مناطق وسط البلاد، يعود إلى تقديم الدعم المادي واللوجستي من قبل إحدى الدول التي تدعي محاربة الإرهاب في سوريا، ضد القوات الحكومية السورية.
علاوة على ذلك، تدرك إيران أن الروس أمام استحقاقات داخلية يأتي على رأسها بطولة كأس العالم لكرة القدم الشهر القادم، لذلك فإن ديمومة التغني الروسي بالنصر على تنظيم "داعش"، رسالة إلى الداخل والخارج في قدرتها على تأمين الاستقرار، والقضاء على البعبع الذي يخيف العالم.
من هنا أسهمت كل من إيران وروسيا في إبرام اتفاق "مخيم اليرموك"، الذي قضى بنقل المئات من مقاتلي تنظيم "داعش" إلى البادية شرقا، فإيران تربط استمرار وجودها في سوريا ببقاء التنظيم حيّا، فيما ترى روسيا أن وجود التنظيم يدخل في حسابات استنزاف الميليشيات الإيرانية التي تزاحمها على النفوذ في مناطق سيطرة نظام الأسد، لذلك تغيب طائراتها بشكل ملحوظ عن مناطق نفوذ التنظيم.
نتيجة
في المحصلة، تستغل أطراف الصراع نشاط تنظيم "داعش" المتعاظم، وخاصة بعد سلسة الهجمات الأخيرة التي أدّت إلى مصرع 6 من الجنود الروس، ومئات من الميليشيات الأخرى، لتحقيق أهداف استراتيجية متباينة يمكن رصدها بما يلي:
- صرف أنظار المجتمع الدولي عن المطالبة بإخراج الميليشيات الإيرانية من سوريا، باعتبار رؤية إيران أن خطر التنظيم أكبر من خطرها على السلم والاستقرار الدوليين.
- تعميق الصراع الروسي – الإيراني، نتيجة الاتهامات المتبادلة بينهما عن مسؤولية سقوط قتلاهم في هجمات التنظيم المستمرة.
- استثمار طهران نشاط التنظيم كرسالة موجهة لواشنطن، ردّا على إصرار واشنطن على أن تعديل الاتفاق النووي، يأتي في مقدمته إخراج الميليشيات الإيرانية من سوريا، باعتبارها ميليشيات إرهابية، تهدد الأمن الدولي.
- إتاحة المجال للتنظيم فتح طرق إمداد جديدة على محاور واسعة، تمنحه فرصة التمدد بكافة الاتجاهات، والتركيز على السخنة وتدمر كنقطتي وصل مع معاقله في البادية السورية، لذلك لن يتوقف بمعاركه عند هذه الجغرافية، ما دام الطريق مفتوحة أمامه عبر القوى المتصارعة.
وبالتالي، طالما بقيت الأسباب التي أنجبت التنظيم قائمة، كأحد محركات الصراع في المنطقة، والمتمثلة في إطلاق يد الميليشيات الإيرانية، وما تفعله من جرائم، وأخرى تعمل بأحلامها القومية عبر الصورة الصادمة القادمة من مناطق سيطرة تنظيم "ب ي د"، واستمرار بقاء نظام "الأسد" الديكتاتوري في سدة الحكم، مع كل جرائمه الشنيعة، وتغليب الغرب مصالحه الخاصة على مصلحة الشعوب الأخرى، بدوافع تاريخية ثأرية نفعية، بات الفصل في الصراع القائم تتحكم به القوة، لا إجراءات العدالة، في وقت تراجعت فيه سلطة ما يسمى بـ"الشرعية الدولية"، يجسدها تواطؤ دولي للعبث بالملف السوري، بنقله من أدراج جنيف إلى (آستانة ثم سوتشي)، وفق تفاهمات ثنائية، أدت عمليا إلى تقسيم سوريا، لـ"كانتونات" لا يمكن ضبطها بما تشتهي الدول التي تحتل سورية، لاستكمال نهبها بعد أن دمرت غالبية حواضرها.