سوريا.. ولعنة الجغرافيا - It's Over 9000!

سوريا.. ولعنة الجغرافيا

بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
- مقدمة:
تتمتع سورية بميزات وخصائص جيوبولوتيكية جاذبة جعلتها أخطر بقاع العالم, ومحور رئيسي في الصراع الدولي والإقليمي القائم, تنحدر إليها سهوب آسيا صعودا من مجرى نهر الفرات واصلة أقصى آسيا شرقا بأوروبا غربا, ومن مرتفعات الأناضول شمالا امتدادا على شطآن المتوسط لتنساح في صحراء سيناء جنوبا, مشكلة نقطة التحكم الاستراتيجية الأولى دوليا, كونها ممرا لتدفق التجارة البينية العالمية, وتدفق النفط عبر خطوط ( التابلاين وآرامكو) وخط الغاز العابر باتجاه أوروبا, وكذلك مجالا حيويا لتدفق القوى الدولية والإقليمية عبر المتوسط والبحر الأسود والخليج العربي, ثم أكسبها هذا الموقع تنوعا حضاريا تفاعل عبر انتشار واصطدام الحضارات المتعاقبة المتصارعة المنتجة لكل الرسالات السماوية, والمعتقدات الدينية بما تحويه من طقوس وأساطير أغنت الإنسانية معرفة وفكرا.

هذه الميزات باتت لعنة على السوريين لتشابك العالم في هذه الرقعة الجغرافية, أسيا بما تمثله من البحث عن إطلالة على أوربا عبر شطآن المتوسط, والثانية دول الخليج العربي بما تحويه من نفط مما جعلها موضع تنافس وصراعات دولية ممتدة على طول الخط التاريخي المتعرج بين مختلف القوى الدولية والإقليمية, (الروم، والفرس، واليونان، وفراعنة مصر) قديما, كما شهدت انشطار الإمبراطورية الرومانية, وباتت مركزا أساسيا لشطرها الشرقي, وفي العصر الإسلامي تحولت إلى مركز لإمبراطورية بني آمية التي امتدت من حواف جبال هيمالايا شرقا, حتى جبال البيرنييه الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا غربا, لتصبح دمشق مركز القوة الدولية حيث انطلقت من شطآنها ووهادها جيوش التحرير والفتح بكل الاتجاهات, ومع أفول شمس بني أمية دخلت سورية ومحيطها صراعات داخلية دامية, أنتجت انقلابات متواصلة, وجدلا واسعا حولت الأمة الواحدة إلى طوائف وملل ونحل وممالك وإمارات تستيقظ بين تارة وأخرى على قرع طبول الحرب, وصليل السيوف, لتنهش بعضها بعضا, فتموت دول وتحيا غيرها, فاشتبك البدو بالحضر, والمدن بأخواتها, وبلغ الخلاف منتهاه في اقتتال البيت الواحد.

هذا الموقع, اللعنة, وما يتيحه من وصل وفصل بين آسيا وأوربا, وما يشغله محيطها من مجال حيوي, دفع الصليبيين ثم المغول لاجتياحه على مدار قرنين ونيف, وتواصل الغزو مع ورثتهم الأوربيين في مطلع القرن العشرين ليحتلوا سورية ومحيطها العربي, ويتقاسموا تركة الدولة العثمانية التي اتخذت من سورية مركزا رئيسيا لها بعد عاصمتها (الآستانة) استانبول الحالية.

ثم كانت اتفاقية سايكس بيكو تقطيعا لأوصال سورية إلى أربع دويلات, أضيف إليها جسد غريب هو (إسرائيل) بمقتضى وعد بلفور, تحسبا لما لهذه المنطقة الاستراتيجية من أهمية في حال نهضتها من عثراتها المتراكمة.

لقد أحدث قيام إسرائيل دويا هائلا لا يزال صداه يهز سورية بعنف, باعتبار موقعها الجغرافي ثابت لا يتغير, لترسو سفن الجنرال غورو على شطآن المتوسط باتجاه سورية, واتخذت بريطانيا من بغداد مركزا لها وعينها على دمشق من خلال الحلف الذي أقامته, وقبل ذلك تزاحم العرب للوصول إلى الشام, ولكن مناخ السوريين المتقلب لفظ الجميع, وراح يبحث عن خياراته المحلية بعد ثورة شعبية أجبرت الفرنسيين على توقيع معاهدة الاستقلال, وهنا تحركت الاستراتيجية الغربية لضبط سورية موقعا وحرمانها من الاستقرار, باعتبارها المهدد الرئيسي لإسرائيل, ولوجود النفط في محيطها العربي, فكانت الانقلابات العسكرية الممتدة من عهد الاستقلال إلى انقلاب حافظ الأسد عام 1970م, الذي بات وكيلا للغرب في ضبط الموقع وزلازله بطريقة "رجل الدولة" المنفذ للاستراتيجية الغربية بحذافيرها مع منحه فرصة للمناورة في خطابه الإعلامي باعتبار دمشق منبر العروبة, ومحط أنظار العرب, ولشراسة شعبها المعجون بالجغرافية وبالتاريخ والفكر الحضاري, وفوق ذلك إشرافها بلا فاصل على إسرائيل, ويمكن لنا أن ننظر بدهشة وذهول لحقبة حكم الأسد, كيف استطاع السيطرة على شعب نصفه من الساسة المحترفين, وربعه من القادة والزعماء, والربع الباقي رسل وأنبياء، أو هكذا يتصورون, بحسب ما قاله الرئيس شكري القوتلي لعبد الناصر بعد توقيع اتفاقية الوحدة, وتبقى الدهشة قائمة, والسؤال مستمر, كيف حكم الأسد المتحدر من أقلية هو فيها أقلوي, سوريا قلب العالم الاستراتيجي, ونبض العروبة الدافق, حتى صار اسمها "سوريا الأسد"؟

بعد أربعين عاما من حكمه بنتائجها ومآلاتها, تتبدد الدهشة, وتسهل الإجابة بعيدا عن الاتهامات, لقد عرف حافظ الأسد كيف يتاجر بالجولان وفلسطين ويعادي العروبة, خصوصا بعد قيام الحلف الجديد بين طهران ودمشق مباشرة بعد "الثورة الخمينية" في 1979 وإعلان الحرب ضد العراق, إذ خاض الأسد مع الخميني الحرب من منطلق مذهبي في العمق. حيث الرابط المذهبي أساس هذا الحلف الذي ما زال يعمل على تدمير سورية, وفي لبنان قضى على كلّ أمل لدى الفلسطينيين في تحقيق بعض مطامحهم على صعيد قيام دولة مستقلة لهم. فحـارب القـضية الفـلسطينية عـبر ممثلها الحقيقي ياسر عرفـات، "أسير عقـدة الجغرافيا"، في حروب لبنان رافعا في الوقت ذاته شعار "القرار الفلسطيني المستقلّ" فقتل من الفلسطينيين، هو وأدواته اللبنانية والفلسطينية أكثر بكثير مما قتلت إسرائيل.

وبعد أن انتهى حافظ الأسد سريعاً من حروبه التحريرية وحركاته التصحيحية, التفت إلى معاركه الداخلية ضد الشعب السوري، بعد تصفية كل معارضيه بالقتل والسجن والمنافي, وكانت ذروة مجازره في حماه 1982 التي دمرت ثلثي المدينة وقتلت وشردت 100 ألف من أهلها, فيما بقيت جبهته مع إسرائيل الأكثر هدوءاً بشهادة الإسرائيليين, وهذا ما جعل واشنطن وإسرائيل ودول الغرب توافق على استمرار نظام الأسد المورث لابنه بشار بعد مباركة مادلين أولبرايت وزيرة خارجية الولايات المتحدة التي عزت بالأسد الكبير وباركت للصغير تربعه على عرش السلطة, ومع انفجار  الاحتجاجات الشعبية عام 2011م, واندحار الأسد راح يلعب بنقطة التوازن الإستراتيجية العالمية, ففتح أبواب سورية على مصراعيها للغزاة والمحتلين ومراكز النفوذ العالمي لتحل لعنة الجغرافية على السوريين في موقع لا يمكن المقامرة أو اللعب فيه.

سورية في أجندات القوى المتصارعة على جغرافيتها:

بعد استعراض أهمية سورية الاستراتيجية, يمكننا الوقوف عند كل طرف من الأطراف المتصارعة على الأرض السورية وما تمثله بالنسبة له من أهمية, وذلك عبر المناقشة التالية:

-سورية الجغرافية في أجندة إيران:

بما أن سورية تشكل امتدادا طبيعيا للعراق, فقد رأت إيران بعد إسهامها الكبير في إسقاط حكومة الرئيس صدام حسين, أن سورية بموقعها الجغرافي تعتبر نقطة تحكم وسيطرة ووصل وفصل بين طهران والبحر المتوسط, فاندفعت بقوة باتجاه شطآن المتوسط باعتبار أن مصلحتها تتجاوز حدودها الجغرافية, سعيا منها للتحول من دولة إقليمية قوية إلى دولة تنافس الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل بالإضافة إلى الدول الإقليمية الأخرى ضمن جهود ما يسمى مكافحة الارهاب, وأثار تعاظم النشاط العسكري الإيراني في سورية توجس القوى الدولية (الولايات المتحدة وروسيا) وإسرائيل، كما أثار انتشار ميليشياتها العسكرية في المجال السوري جدلا بين إسرائيل وروسيا أنتج اتفاقية خفض التوتر في الجنوب السوري لإبعاد إيران عن حدود إسرائيل, فيما تشير الوقائع على الأرض إلى سعي إيران للسيطرة على غالبية سورية المفيدة تعكسها تحركاتها العسكرية وقتالها للاستحواذ على ممر عابر للبادية السورية وصولا إلى البحر المتوسط لضمان تدفق أسلحتها وميليشياتها وحركتها الاقتصادية, لتوظيفها عسكريا وسياسيا في ديمومة التوسع الإيراني للالتفاف وتطويق دول الخليج العربي انطلاقا من سورية, وباتت تتقدم عبر ميليشياتها الطائفية الموالية لها في كل من العراق ولبنان وسورية, وبعد هذا التوغل تحولت إيران من تثبيت هلالها الشيعي لتنتقل إلى مرحلة تنذر بخطر تطويق المنطقة بعد انهيار السدود العربية التي مثلت ذروة قوتها فترة الرئيس العراقي صدام حسين, ولعل المملكة العربية السعودية بعد الخطر الذي داهمها من خاصرتها الجنوبية في جيب صعدة اليمني, استشعرت أهمية موقع سورية الجغرافي, فكان لزاما عليها تشكيل جبهة تواجه التوسع الايراني فكانت عاصفة الحزم. وكما الولايات المتحدة التي لا تسمح باختلال التوازن الاستراتيجي على الأرض السورية, فالخلافات الروسية الإيرانية التي تظهر بين آونة وأخرى في هذا السياق الذي يمنع السيطرة الإيرانية على سورية حتى ولو أدى الأمر إلى مجازفة عسكرية للحد من تنامي قوتها وتمددها. ومما سيعزّز الخلاف رؤية إيران العقائدية والأيديولوجية في سوريا، بينما لروسيا مصالح واضحة ولن تكون أداة لتنفيذ مصالح إيران والانجرار إلى مشروعها الأيديولوجي, لذلك تسعى إيران باستمرار لتعقيد الملف السياسي السوري, وفي هذا الإطار جاء تصريح بهرام قاسمي المتحدث باسم الخارجية الإيرانية "إن الحديث عن تقاسم النفوذ في سوريا بين روسيا وتركيا وإيران كلام لا قيمة له، مؤكدا أن بلاده لن تسمح بذلك، وأن موقفها الثابت هو دعم وحدة الأراضي السورية. وشدد المتحدث الإيراني على أن حل الأزمة السورية حل سياسي". في إشارة الى أن ما قامت به إيران في سورية لا يقارن بما قام به الآخرون.

يدرك الإيرانيون أن إبعادهم من سورية بأية طريقة إنما يمثل بداية انهيار كيانهم السياسي في طهران الذي يواجه عقبات كثيرة اقتصادية وسياسية واجتماعية, لذلك تمسكهم بسورية واستدامة الصراع هو تأجيل وترحيل لأزماتهم القابلة للانفجار في كل حين, ومنتهى تطلعات إيران اليوم, الحفاظ على خط إمدادٍ عبر الأراضي السورية لحزب الله في لبنان، وترتيب ضماناتٍ عمليةٍ على الأرض تحميه من أيِّ تطورات سيحملها تشكيل حكومةٍ معاديةٍ له في دمشق, وفي هذا المنحى جاء اتفاق الجنوب لتتلقفه ايران بالدبلوماسية المخاتلة, المعرقلة للتسوية السياسية التي يفهمها الإيرانيون كمقايضة جغرافية منحتهم حرية أوسع في لبنان ومناطق البادية السورية, والقلمون الغربي, بعد إغلاق باب الجولان المحتل ليستمروا في حربهم ضد الثوار في البادية, ويطلقوا عبر ذراعهم حزب الله اللبناني معركة جرود عرسال فاستولوا على مساحة جغرافية واسعة في هذه المنطقة للتنافس مع إسرائيل. بعد تمددهم وسيطرتهم على مفاصل نظام الأسد السياسي، الذي أضحى بيد الإيرانيين, غير أن النفوذ الإيراني في سورية يحتاج توافقا دوليا وإقليميا من الصعب الوصول إليه.

- أهمية موقع سورية في أجندة روسيا:

أكثر النكات شيوعاً في أوروبا في الستينيات كانت تلك التي يسأل فيها مدرس تلميذه سؤالا جغرافياً مباشراً: "من هم جيران الاتحاد السوفيتي؟" وبدلاً من أن يعدد الطالب أسماء الدول المجاورة تأتي إجابته: "جيران الاتحاد السوفيتي هم مَن يرغب هذا الاتحاد في أن يصبحوا جيراناً له"؛ في دلالة تهكمية على أن هذه الحدود متغيرة، وتعتمد على مستوى التوسع والضم الذي تمليه الأطماع الجغرافية السوفيتية, من هنا ترتكز استراتيجية الرئيس بوتين على المواءمة بين روسيا القيصرية والبلشفية في إطار التمدد الجغرافي. فاعتمد استراتيجية احتكار الغاز إنتاجا ونقلا وتسويقا عبر ممرات متعددة من روسيا فأذربيجان وصولا إلى إيران, ومن روسيا إلى ألمانيا, وخط ثالث يمر من روسيا إلى البحر الأسود ويتفرع إلى اليونان وإيطاليا والنمسا.

وبما أن موقع سورية يتحكم بغاز شرق المتوسط, الذي من الممكن أن يمر عبر أراضيها, وفي صحراء الربع الخالي ( قطر والسعودية) الذي من المفترض مروره من سورية باتجاه أوربا, ما جعل سورية منطقة صراع دولي إقليمي, ودافعا للاحتلال الروسي بموافقة أميركية بحجة محاربة الارهاب ليستمر احتكارها للغاز وتحكمها بأسعاره في السوق الأوربية, وهذا هو أهم عوامل تشبث روسيا بسورية ودعمها للأسد عسكريا, وسياسيا, ثم بعد أن قامت باحتلال شبه جزيرة القرم، تحاول الولايات المتحدة فرض عقوبات على روسيا لضرب اقتصادها المتهالك, لذلك وصلت السفن الروسية إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط, وأقامت قاعدة بحرية في طرطوس, وأخرى برية في مطار حميميم بالقرب من اللاذقية منعا لتهديد الولايات المتحدة مصالح روسيا. وبات ديدن روسيا تمييع القرارات الدولية ونقل الملف السوري برمته من جنيف إلى آستانة, لتعزيز حضورها كدولة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأميركية, وشريكة لها في القضية السورية, وعبرت عن ذلك بوحشية بالغة بعد قيام طيرانها بقصف المدن والبلدات والقرى السورية وتدميرها فوق رؤوس ساكنيها من المدنيين, وتمكنت من إعادة رسم المشهد الميداني بتوسيع جغرافية نظام الأسد والميليشيات الإيرانية التي أطلقت يدها في المناطق السورية المحررة, وشاركت معها في التغيير الديمغرافي الذي شمل مناطق واسعة في الريف الدمشقي وحمص وادلب, كما انتزعت حلب المحررة من فصائل الثورة المسلحة.  لتعود وتنتزع الجنوب السوري من الميليشيات الشيعية الإيرانية بحسب اتفاق الشراكة مع الولايات المتحدة, وتمكنت من التغلغل في جنيف, من خلال زعزعة وفد الهيئة العليا للتفاوض كممثل شرعي لمحادثات جنيف كطرف وحيد في تمثيل الشعب السوري الثائر, لتتبنى منصة موسكو الموقف الروسي بحذافيره وتستمد  قيمتهما من حاجة الروس إليها, وقامت روسيا بسحبها من منظومة الأسد كطرف معارض ضمن محورها تكريسا لاحتلالها سوريا, ودأبت روسيا على تشتيت المعارضة عبر المنصات بهدف التحكم بتحديد المعارضة التي تتوافق ومصالحها, واستبعاد المعارضة الخارجة عن إطار رؤيتها, بعدما بات وفد نظام الأسد دمية  إعلامية تعمل موسكو من خلاله تنصيب نفسها وريثا له إثر تحوله لميليشيا كباقي الميليشيات المتوزعة على الأرض السورية, وبالتالي تمكنت روسيا من التلاعب بالملف السوري في كل المحافل الدولية والإقليمية بما يتوافق ومصلحتها كمحور قطبي يحاكي القوة الأميركية, ويشارك في جميع الشؤون الدولية.

- سورية في أجندات الولايات المتحدة:

ارتكزت استراتيجية الولايات المتحدة بعد تحولها كأكبر قوة عالمية على مفهوم جديد للجيوبوليتيك وهو "الحدود الشفافة"، التي يقصد بها الهيمنة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية دون حدود خرائطية للدولة, من هنا جاء تدخلها في سورية بتوظيفها مرتزقة من الأكراد والعرب في الحرب الجارية في سورية, ومع اختلاف الإدارات الأميركية المتعاقبة بين جمهوريين وديمقراطيين, تعتبر سورية بموقعها الجيبولوتيكي نقطة ارتكاز توازن استراتيجي دولي يمنع العبث به, فموقعها المشاطر بشكل مباشر لإسرائيل, وتحكمها بتدفق الحركة التجارية بين الشرق والغرب, وتدفق النفط في محيطها المشرقي, ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011م اعتمدت إدارة أوباما استراتيجية الصراع المفتوح المنضبط, فبينما كانت تبيع المعارضة السورية ومعها الأصدقاء كلاما معسولا, هيأت الأرضية السياسية للتدخل العسكري الروسي, ورغم الخلاف القائم بين واشنطن وموسكو حول قضايا خارج سورية كجزيرة القرم وانتشار منظومة الصواريخ الباليستية في أوربا, والعقوبات الاقتصادية فإن توافقهما بالشأن السوري لا يحتاج إلى تأكيد. 

فمحصلة التدخل الروسي في سورية تصب في صالح الأجندة الأمريكية ووفق ترتيب الأولويات الذي تعتمده وهي لا تتناقض معها على الأقل حتى الآن في منع تنامي أي قوة عربية سنية تحكم دمشق, وبقاء الأسد في السلطة ولو إلى حين من خلال عرقلة تقدم فصائل المعارضة, ومحاربة تنظيم الدولة لإضعافه, ومن ثم التوافق على دحره, وموافقة إسرائيل بالوجود الروسي, والضغط على حلفاء واشنطن في تركيا والخليج لتنفيذ ما تريده الولايات المتحدة بلا شروط, ومع الرهان على تعديل موقف واشنطن لوضع حد لمأساة الشعب السوري, وهو ما لم تفعله إدارة أوباما, الذي شهدت فترة حكمه مساع دبلوماسية مصحوبة باحتجاجات دولية ضد التصعيد العسكري الروسي, لا تتجاوز  الحفاظ على ملف الصراع في سوريا مفتوحاً بانتظار الإدارة الأميركية الجديدة، إذ تمسكت إدارة أوباما بالشرعية الدولية ودخلت  في مساوامات مع الروس في الوقت الذي تدخلت في ليبيا عسكريا  دون الالتفات إلى الشرعية الدولية وفعلت مثل ذلك في قضايا عالمية أخرى.

بعد أفول إدارة أوباما, وتسلّم إدارة دونالد ترامب زمام الحكم، وجه رسالة للروس بلغت أوجها في الضربات الصاروخية التي استهدفت مطار الشعيرات العسكري, ليخبو الزخم الأميركي بعد التصريحات المتكررة لترامب وفريقه حول أولوية محاربة الارهاب وعدم اعتبار تنحي "الأسد الحيوان" كما وصفه رأس الإدارة الأميركية, شرطا للمفاوضات, كما لم يتطرق ترامب في قمة الرياض ولو بالإشارة أو التلميح إلى مصير الأسد, وجاء لقاء هامبورغ الذي جمع بوتين وترامب وما صدر عنه من تفاهم في جنوب سورية, وفي مناطق أخرى, يدلل على تواطؤ أميركي مع الروس حول مستقبل سورية ونظام الأسد الذي تتمسك به روسيا واجهة لاحتلالها.

وتبقى التخبطات السياسية التي تعاني منها  الإدارة الأميركية الحالية تائهة بين مراوغة إيران وحليفها الأسد, وفصل مصالح الروس عنهما, والتطلع نحو تفاهم مع الروس على اقتسام النفوذ والموارد وإعادة الإعمار في عملية انتاج جديدة لإدارة أوباما المتواطئ علنا مع الروس, وفق المصالح الأميركية في سورية.

أهمية سورية في سياق تشابك الأجندات:

بعدما استدعى الأسد إيران وروسيا للتدخل العسكري ضد الشعب السوري الثائر, وضع شرطا أساسيا لفتح أبواب سورية أمام الغزاة يتضمن موافقة نظامه, أي الاحتلال برخصة, ولكن الأسد العابث بالموقع السوري, انحصر استمراره حاكما لإضفاء شرعية وجود المحتلين, فتجاوزت أجندات المتنافسين على سورية مسألة انتصار الثورة وبقاء الأسد إلى أهداف أخرى متصلة بالتنافس الدولي, والإقليمي, مثل روسيا والولايات المتحدة, وإيران وتركيا, على النفوذ في سورية, وبعد اتفاقية منع التصادم الروسي الامريكي وتسوية تقاسم مناطق النفوذ السوري, تبقى تركيا وما يواجه أمنها القومي من تهديد في خاصرتها الجنوبية يشكل قلقا متصاعدا من تنامي قوة ميليشيا حزب العمال الكردستاني بنسخته السورية (ب ي د), وما يحمله من تهديد لها, فجاءت عملية درع الفرات المدعومة من أنقرة لطرد تنظيم الدولة من مثلث جرابلس, الباب, أعزاز, ومنع تواصل كانتونات الـ(ب ي د), ولعل الأجندة المشتركة الوحيدة بين إيران وتركيا, تقوم على منع قيام كيان كردي في سورية يهدد أمن البلدين, لذلك تصر إيران على عدم فدرلة أو تقسيم سورية, والتمسك بالأسد العاجز حاكما باعتباره أحد وكلائها في المنطقة.

في هذا السياق, مثلت عملية نقل الملف السوري من جنيف وآستانة إلى اتفاق الرئيسين ترامب وبوتين إرباكاَ كبيرا لطموحات المتصارعين في سورية, فنظام الأسد وإيران يعملان على  استكمال السيطرة على ما تبقى من الأراضي السورية الواقعة خارج إطار نفوذهما, كما نقلت المواجهة إلى حلبة أخرى أكثر حساسية محليا وإقليميا، تتمايز فيها الجغرافيا والسكان والسياسة، تبدو معها البلاد على شفير حرب ضروس تتمثل بانفجارات داخلية وأخرى إقليمية.

وضعت محطة هامبورغ سورية على كفتي ميزان بين واشنطن كقوة عظمى وموسكو التي تبحث عن زيادة وزنها في الكفة المنخفضة إلى أقل من النصف، مما أفرز كتلا متصارعة في اللوحة السورية, نظام الأسد والايرانيين ويماثلهما في الاتجاه حزب (ب ي د) المسيطر على قسد في مناطق الشمال الشرقي السوري, وكتلة الفصائل المسلحة المصطرعة في المناطق المحررة, وانكماش تنظيم الدولة جغرافيا وانحساره في محافظة دير الزور.

وبدأت المواقف الإقليمية والدولية تميل نحو كتلة الأسد على نحو ما صدر من تصريحات أميركية بتأجيل البحث في عملية الانتقال السياسي, والتركيز على محاربة الارهاب وتثبيت اتفاق مناطق تخفيف التصعيد العسكري.

ووفق التطورات الجارية فإن تشابك الأجندات الدولية هي التي تتحكم في المسار السوري بصرف النظر عن الجرائم المرتكبة يوميا ضد المدنيين في سوريا, ولم يبق أمام الشعب السوري الثائر من خيار سوى مواصلة طريقه في التصدي للاحتلال المركب بعد فشل الإرادة الدولية عبر الأمم المتحدة في التوصل إلى حل استنادا للقرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة ويبقى السؤال مفتوحا كيف نتصدى للمحتلين؟

إن لعنة الجغرافية التي أصابت السوريين قبل غيرهم نتيجة موقع بلدهم ووضعهم في خندق الارهاب, ستلفظ المحتلين الغزاة آجلا أم عاجلا والتاريخ خير شاهد وأصدق دليل.

 

مقالات ذات صلة

إسماعيل بقائي "نؤكد أهمية الجهود المشتركة في ضمان أمن واستقرار المنطقة"

إجراءات جديدة تتخذها العناصر الإيرانية تتعلق بالاتصالات في البو كمال

باجتماع ثنائي جرى في أنقرة.. واشنطن تبلغ تركيا معارضتها لتطبيعها مع النظام

الفرقة الرابعة الموالية لإيران تستولي على مناطق في بادية دير الزور وتدمر

الكتيبة النسائية التابعة لإيران في دير الزور وشبح الاغتيالات

شبكة محلية تكشف وصول قياديين إلى سوريا، ما جنسيتهم، وما مهمتهم؟