بلدي نيوز - ريف دمشق (طارق خوام)
وصل إلى المشفى في حالة يرثى لها، قلبه يخفق وأنفاسه تتقطع، أتى ليسأل عن طفله جلس في غرفة الانتظار، لا يكل ولا يمل عن السؤال عن حالة طفله وكأن جمراً يغلي في صدره، يحاول أن يهدّئ من أعصابه وهو يعرف أنه في موقف صعب حسبما وصف له جيرانه الذين رأوا ابنه عند إسعافه.
بعد ساعة من الوقت خرج توفيق ذو الثلاثة عوام بن الغوطة الشرقية بريف دمشق من غرفة العمليات وصوت أنينه يسمع في أرجاء المشفى.
تعجز الجبال عن سماع شكواه، أصابته شظية في ظهره بالقرب من منزله، نظر الاب إلى طفله نظرة حزينة، وأخبره الممرض أنه يجب على طبيب العصبية متابعة وضعه، صُعق الأب عند سماع هذا الخبر ووضع يده على رأسه، اختُصرت الدنيا أمام عينه بإصابة طفله وكأن الجبال نزلت على ظهره، وانسلت عبرة من عينيه.
كان يوماً عصيباً على الغوطة الشرقية شبيهاً بسائر أيامها، الصواريخ تنهال على المدنيين وكأنها زلزال، ودوي سيارات الإسعاف يسمع في أرجائها، حركات سريعة، بكاء وعويل وأشلاء متناثرة تملأ جنباتها، تنهش في جسدها كل يوم دون اهتمام من أحد.
أُدخل توفيق إلى الإسعاف كملاك لا غبار على جسده، ولا أثار قصف ولا جروح ولا دم، دخلت الشظية ولم تترك إلا أثراً لجرح بسيط في ظهره، بدأ الإرهاق على وجهه، كان غائباً عن الوعي دون حراك.
نقل بعدها إلى العمليات، وبدأ الطبيب الجراح بتعقيم مكان الجرح حيث كانت ملابس الطفل داخل الجرح، وبعد عمل طويل استخرج الشظية من ظهره.
بدأ بالبكاء كأي طفل يستيقظ عندما لا يرى أمه أو أباه أمامه، بدأ بالبكاء دون أي حركة سوى ثقلٌ برأسه، والدموع تزرف من عينيه كأنها شلال، ليست دموع الألم لأنه كان تحت تأثير التخدير، ربما كانت دموع البعد والخوف الذي عاشه منذ ولد بسبب القصف.
دخل الأب إلى الغرفة التي يوجد فيها توفيق بعد خروجه من غرفة العمليات وسأل عن وضع طفله، هنا الطبيب تلعثم وغرغرت عيناه وتكلمتا عنه بصمت، ولكن سرعان ما تدارك الموقف وأخبره أنه نزع الشظية من ظهر الطفل، ولكن لديه إصابة عصبية ويجب متابعة وضعه، هنا الأب أصيب بصعقه كادت تغيبه عن الوعي، ونظر إلى طفله بحزن وألم، لا يعرف ماذا يفعل؟!!
نقل الطفل إلى أحد المشافي التخصصية لمراقبة حالته، لقد أصيب بشلل رباعي بسبب إصابته في العامود الفقري.
بينما يفرح الأهل بالحركات الاولى لطفلهم وتنقله ومشيته، يُحكم على توفيق بالشلل لكل حركاته أمام أعين أبيه، وبقي أربعة أيام في العناية المركزة، لكن روحه كانت سباقه للصعود إلى خالقها، أبت العيش بلا حركة كأي طفل يحرم من اللعب فآلة الإجرام حرمت قبله العديد من الأطفال أرواحهم وأعضائهم.
توفيق ليس الطفل الوحيد في هذه الغوطة المحاصرة هو وردة من مئات الورود التي (تقتل) كل يوم بأيدي نظام لا يعرف الحياة، نظام لا يعرف إلا القتل والدمار، همه الوحيد إفناء من يتوقع أن يقف في وجهه يوماً ما.
عشرة أطفال قتلوا في الغوطة الشرقية بحسب الدفاع المدني منذ بدأ اتفاق خفض التوتر، استشهدوا بقصف قوات النظام لمنازلهم.
قبل الأب طفله توفيق من رأسه، وردم التراب بحنان على جسد أتعبه الحصار والجوع والقصف والتهجير، فتوفيق هو ابن بلدة المليحة المهجرين قسراً منها، قدره أن يدفن في مدينة سقبا وكأن قوات النظام توجه رسالة أنها لن تترك طفلاً يعيش ليكون يوماً ما ثائراً في وجهها.