الغارديان – (ترجمة بلدي نيوز)
قبل عشرة أيام رنّ هاتفي، لقد كان زميلي الجرّاح التجميليّ من مستشفى في حلب، يطلب نصحي حول مريض كان يعاني من خلل عميق في حوضه، لقد أخبرني أن حوالي 20 مصاباً قد تم إحصائهم كعدد أولي بعد هجوم يشتبه بأنه سلاح كيميائي باستخدام الكلور، حيث كان قسم الطوارئ مليئاً، كما قال بأنه لا توجد من أقنعة أو أسطوانات أوكسجين كافية لعلاج الأغلبية، ولم يكن قادراً حينها على "تنبيب" أي من المصابين بأمراض خطيرة بسبب نقص المعدات، لقد أخبرني بأن اثنين من المرضى توفّيا في وقت لاحق من جراء إصابتهم بالكلور، والذي تحوّل إلى حمض الهيدروكلوريك مذيباً رئتيهم، لقد كان يشعر بالضيق الشديد.
وواصلنا الحوار في اليوم التالي عندما أخبرني بأنه، ومنذ ال 8:00 صباحاً وحتى منتصف الليل، كان هناك وابلٌ من القنابل التي أسقطتها القوات الجوية الروسية والسورية متزامنة مع سيل مستمر من المصابين، والموتى والمحتضرين.
وبعد أسبوع زميل آخر قام زميل آخر من مستشفى أخرى في حلب بالاتصال بي وإخباري بأنه قام بمعالجة عمران، الصبي الذي ظهرت صورته على وسائل الاعلام الاجتماعية، ولأكن صادقاً، لم أكن حينها قد رأيت الصورة، حيث قال لي بأنه يريد ببساطة أن يخبرني بأن الصبي قد نجا وأنه عالج جرحه العميق في فروة رأسه، وأنه كان على وشك أن يخرج للمنزل.
لقد سألته عمّا إذا كان يريد أن يظهر على شاشات التلفزة، حيث قمت بالاتصال بقنوات البي بي سي والقناة الـ 4، لقد كان على استعداد للقيام بذلك ولكن دون إظهار وجهه، حيث أنه سيكون حينها بالتأكيد مستهدفاً بشكل مباشر من قبل النظام لرؤيته يتحدث على التلفزيون، لقد كان أرحم وألطف إنسان قد عملت معه، لقد كان هناك منذ بداية الحرب، وكانت كلماته الوحيدة على شاشة التلفزيون: "الرجاء مساعدتنا".
إنني أعرف مكانه الحالي وأتمنى حقاً أن أكون معه هناك، لم يقم بفعل أي شيء خاطئ: لقد كان هنالك فقط لمساعدة الناس، وكذلك جميع زملائي وأصدقائي الآخرين الذين يعملون على مدار الساعة، انهم جميعاً مستنفذون ومضغوطون، ولكنهم لن يفكروا بالمغادرة، لأن لديهم الكثير من العمل للقيام به.
إن صورة هذا الطفل الصغير يجب أن تكون نقطة تحول في هذه الحرب، يجب ألّا ينظر إليها ونسيانها في غضون 24 ساعة، هنالك صور على هاتفي وفي جهاز الكمبيوتر الخاص بي لجميع الحالات التي تعاملت معها عندما كنت في حلب، إن هذه الصور هي أسوأ بكثير من صورة عمران، هي لأطفال موتى ومحتضرين، لقد قدمت محاضرات تظهر هذه الصور، وكان الناس من الحضور يبكون، لماذا أصبح العالم بلا قلب؟
وعندما تحدث الرئيس أوباما حول عبور الخط الأحمر بعد قتل أكثر من 400 طفل بأسلحة كيميائية على أيدي نظام الأسد في غوطة دمشق في عام 2013، كان بانتظار نتائج التصويت على اتخاذ الإجراءات في البرلمان البريطاني، في نهاية المطاف كانت النتائج قريبة للغاية، ب 285-272 مصوّتين ضد القيام بعمل عسكري ضد النظام السوري، إن كان الغرب قد أظهر حينها قيادة قوية، ليس لدي أدنى شك في أن القيادة العسكرية السورية ستنهار، لقد قال جورج أوزبورن معقّباً حول نتائج التصويت حينها: "آمل أن لا تصبح هذه اللحظة، تلك اللحظة التي ندير فيها ظهورنا على كل مشاكل العالم"، ليس في كثير من الأحيان عندما يقوم السياسي بقول الحق بشكل واضح، ولكنه قام بفعل ذلك حينها.
لقد وضعت قناع الغاز الخاص بي، وأمضيت ستة أسابيع في حلب بعيد هذا البيان في عام 2013، لقد كانت حلب مدينة معتدلة جداً، حيث سيطر على الجانب الذي يقع تحت أيدي الثوار من قبل الجيش السوري الحر، والذي وُعِد بالمساعدة من قبل الغرب، وكان يتوقع المساعدات الإنسانية والمعدات لإسقاط نظام الأسد، لقد أمضيت معظم وقتي حينها في تعليم الجراحين كيفية إجراء جراحة الحوادث شديدة الصعوبة في أعقاب جروح الأعيرة نارية والجروح المفتّتة إثر الضربات الجوية لسلاح جو الأسد، في المتوسط كنا نعالج حوالي 12 إلى 14 من إصابات الأعيرة النارية في اليوم الواحد، كما كان لدينا فريق دعم احتياطيّ ممتاز في وحدة العناية المركّزة، من الأطباء ذوي الخبرة في واشنطن والذين كانوا يحرسون أجهزة العناية المشدّدة بواسطة السكايب.
لقد كنت محميّاً من قبل المجلس الطبي لمدينة حلب، والذي اعتنا بي كوالد يعتني بطفله، لقد كنت الغربي الوحيد في حلب حينها، وفي الحين الذي سيطر فيه تنظيم الدولة على الشمال جاعلاً من الصّعب جداً عبور نقاط التفتيش، لم يكن هنالك من صحفيين في حلب، لذلك عدت إلى منزلي متحدّثاً بشهادتي عن الفظائع التي رأيتها هناك، بينما يقوم قناصة النظام السوري بلعب مباريات في حياة النساء والأطفال.
وعندما عدت إلى حلب في سبتمبر من عام 2014، كانت طائرات الأسد لا تزال تحلّق في مستوى منخفض حول المدينة، مطلقة النار على أي شخص في الأحياء الشرقية فيها باستخدام الصواريخ، ولكن الأسوأ كانت طائرات الهليكوبتر التي قامت إسقاط القنابل البرميلية التي تحتوي على حوالي نصف طن، من مادة ال TNT المتفجّرة، بشكل عشوائي على المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، لقد جلبت سيارات الإسعاف جحافل من المصابين حينها، وكان كل يوم هناك أشبه بأن يكون حدث جريمة جماعيّة.
لقد تم تصنيف جميع المدنيين الذين يعيشون في المناطق غير التابعة لسيطرة النظام بأنهم إرهابيون، حتى أنا وبكوني عاملاً إنسانياً قمت بمجرد الذهاب هناك للعمل وإنقاذ الأرواح، وما دمت موجوداً في تلك الأحياء فلربما كنت أيضا اعتبرت إرهابياَ، ولربما كنت قد سجنت وعذّبت وقتل على الأرجح على أيدي النظام لو قام بالإمساك بي- كما فعل بعباس خان، زميلي طبيب العظمية البريطاني، والذي تطوع بنفس المستشفى التي قمت بالتطوع للعمل فيها.
لقد كان شهر أكتوبر من عام 2014 فترة فظيعة بشكل خاص، وليس فقط بالنسبة لسكان حلب ولكن أيضاً بالنسبة للرهائن الغربيين، بما في ذلك الصحفيين والعاملين في المجال الإنساني، والذين كانوا يواجهون خطرا أن يتمّ ذبحهم من قبل تنظيم الدولة الإرهابي.
في ذلك الوقت كنت لربما على بعد حوالي 30 ميلاً من مكان آلان هينينج، والذي كان يقوم بتوزيع الإسعاف إلى حلب، والذي كان مصيره من أفظع الأحداث التي لحقت بالأجانب، لقد كان الأمر خطيراً جداً للصحفيين لذهاب هناك، وبالتالي الإبقاء على الرعب بعيداً عن رادارات العالم، والذي سمح لهذا النظام السوري المجرم باستدامة قيامه بأسوأ الفظائع دون وجود أي عوائق.
وجاء التدخّل الروسيّ في سبتمبر من عام 2015، بناء على طلب من نظام الأسد المحاصر، حيث كانت قوات الأسد تنهار بشكل أسرع من أي وقت مضى منذ بدء الصراع، والتي كان لا بد لها من الاستناد على الميليشيات الإيرانية وحزب الله، ممّا قد ناسب روسيا للمشاركة، من خلال وقوفها في وجه الغرب أصبحت لاعباً عالمياً متحدّياً لاحتكار النفوذ في الشرق الأوسط، والذي سيطرت عليه الولايات المتحدة لعقود.
إن النظامين السوري والروسي لم يقدّرا الآثار المترتّبة على صدم وإثارة مقاتلي المعارضة، فقد أدى ذلك الأمر إلى زيادة كبيرة في الضربات الجوية الروسية والسورية الثقيلة، والتي كانت مستمرة دوماً، وكلّما كانت هنالك المزيد من المكاسب للمعارضة، كلّما كانت الاستجابة أثقل، وهذا هو ما نراه الآن، حيث أن صورة الطفل عمران تلخّص الرعب الذي يمكن أن يبثّ على شاشات التلفزة، والتي هي أفضل بكثير من العديد من صور الأطفال القادمة من حلب والتي لا تزال ينبغي لها بأن تشعر قادة العالم بالخزي والعار.
نأمل أن يقوم هذا بدفع الغرب للتوقّف أخيراً عن الجلوس مكتوف الأيدي بينما يراقب ما يجري بسلبيّة كاملة، إن هذه الحرب هي مختلفة لأنها حربنا الخاصة، إن اللّاجئين الذين يصبّون في أوروبا، هم هناك لأننا لم نقم بفعل أي شيء لإيقاف معاناتهم، وإذا انتظرنا لمدة خمس سنوات أخرى، فسيكون هنالك أكثر من مليون مدنيّ قد قُتِل، و 20 مليون لاجئ.
وبالنسبة لنقطة الخلاف عمّا إذا كان الأسد سيبقى أو يرحل، يتوجّبُ عليه الرحيل، فإن اللّاجئين الذين غادروا بلادهم، لن يعودوا مطلقاً إلا إذا كان الأسد قد رحل، ليس هنالك أي بديل آخر.
إن الحكومة البريطانية الآن، لديها رئيسة وزراء جديدة، وهي فولاذية كالسّير جون ميجور، والذي قام بفرض منطقة حظر جوي عندما كان الأكراد في العراق يتعرّضون لهجوم من قبل صدام حسين بالأسلحة الكيميائيّة، إن تيريزا ماي يجب أن تظهر بعض القيادة، حيث أن الأمر الأول الذي يجب أن يحدث هو المطالبة الفورية بفرض منطقة حظر جوي لطائرات الهليكوبتر الأسدية لوقفها عن إسقاط قنابلها البرميليّة، تلك المطالبة التي يجب أن تحظى بدعم المجتمع الدولي للبدء بتنفيذ ذلك الإجراء.
-ديفيد نوت: جرّاح الوعائيّة الويلزي والمقيم في لندن، قضى أكثر من عقدين من الزمن يعمل في بعض أكثر الأماكن صعوبة وخطورة في العالم: البوسنة، ليبيريا، أفغانستان والعراق، بينما إنصبّ تركيزه في الآونة الأخيرة على سوريا، ديفيد نوت لا يعمل فقط كطبيب، حيث إنه يقوم بتعليم المهارات الجراحية المتقدمة للمسعفين والجرّاحين المحلّيين، ودعمهم عن بعد، في عام 2015 قام بتأسيس مؤسسة ديفيد نوت مع زوجته، والتي تدعم الجرّاحين لتطوير مهاراتهم الجراحية الخاصة في مناطق الحرب والبيئات المتقشفة.