Politico - ترجمة بلدي نيوز
وصلت الشهر الماضي شحنة مساعدات لداريا، وهي ضاحية من ضواحي العاصمة السورية، حيث يسكن 8000 شخص و 1000 ثائر يتضورون جوعاً منذ بدء الثورة، وقد كان عدد سكان داريا قبل بدء الثورة حوالي 80.000 شخص، وذلك قبل حصار قوات الأسد للمنطقة وبدء طائراته بالقصف العشوائي اليومي، الذي حوّل المدينة لاحقاً إلى حطام وركام، وأحرق الحقول التي لبّت حاجة السكان من قبل، فالكثير من الاشخاص الذين قد بقوا هناك الآن يتغذون على الأعشاب وأوراق الأشجار.
وتحاول الأمم المتحدة إدخال شحنات غذائية إلى المدينة المحاصرة، ولكن الأسد يرفض السماح بإدخال تلك المساعدات، وعندما سمح للمساعدات بالدخول لم تكن تحمل أياً من المواد الغذائية أو مواد الإغاثة، فقط بعض مضادات الحشرات والمنظفات، وبعد عشرة أيام وصلت شحنة مساعدات أخرى حملت بعض المواد الغذائية ولكنها لم تكن كافية بالطبع لإطعام الجميع، كانت كافية فقط لتقول بأن الأمم المتحدة قد حاولت المساعدة.
أحد الأشخاص من الأمم المتحدة أخبرني بشكل سري بأنهم غير قادرين على تحديد عدد الأشخاص الموجودين بالداخل بشكل دقيق، ذلك العذر القبيح في مسألة سيموت فيها أشخاص من الجوع دون أن يمكننا عمل أي شيء، ومباشرة وبعد مغادرة المساعدات لضاحية داريا، بدأ القصف من قبل قوى النظام باستخدام البراميل المتفجرة، 28 برميلاً متفجراً عدّهم أحمد، طالب الهندسة والذي تحدثت معه عن طريق السكايب، ذلك الشاب الذي يعمل كمتطوع في الشبكة الإعلامية في مدينة داريا، وحين سألته إن كان قد حصل على أي حصص غذائية أجاب: "لا.. لم أتناول اليوم أي شيء"، وأضاف قائلاً "لا يمكنني في الواقع استيعاب كيف للعالم أن يستطيع مشاهدة ما يحصل، نحن نموت الآن من الجوع"، ولكن في الواقع فإن أغلبية الأمريكيين لا يشاهدون ذلك، إذ أنهم عالقون في سيرك الانتخابات الرئاسية، منقادين ببغضبهم وخوفهم من فقدان عملهم ومن الهجمات الإرهابية التي قد تصيبهم ومن موجات المهاجرين.
إن سوريا ببساطة مجرد قطعة من الشرق الأوسط والذي يعيش حالة مزرية من الفوضى والخراب، وعلى الرغم من أن سوريا عاشت خمس سنين من الحرب، وخسرت أكثر من 400 ألف شخص من سكانها، فإنها على ما يبدو غير قادرة على إثارة عطف العالم، فعندما يتحدث المرشحون الرئاسيون عن سوريا فهم يناقشون فقط سياساتهم في منع المهاجرين المسلمين من الدخول، بغية حماية أنفسهم من الهجمات الإرهابية، بينما لا أحد منهم يتحدث عن داريا أو عن 18 مدينة أخرى في سوريا، التي لا زالت تعاني الظروف ذاتها من فقدان المواد الغذائية.
إن محنة داريا تظهر كيف أننا لا نعلم أي شيء عن سوريا، حيث أن السبب وراء معاناة داريا هي مواقف الأمم المتحدة والدول الأوربية والولايات المتحدة والتي لم تستطع التأثير بالاتجاه الصحيح، ولم تستطع إجبار الأسد على الرحيل وإيقاف جرائمه.
في بداية الخريف الماضي من هذا العام اجتمعت مجموعة أصدقاء سوريا المكونة من 17 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في فيينا وجنيف لتحديد مستقبل سوريا، حيث أعلنت المجموعة سلسلة من المطالبات، أغلبها مباشرة، تطالب فيها بوقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية للمناطق المحاصرة مثل داريا، ولكن إلى حد الآن فإن الأسد لا يزال يخرق كل الوعود، غير مهتم بردود الفعل التي قد تظهر انعكاساً لأفعاله، حيث أن هذا في الواقع يظهر شيئان أساسيان:
أولاً بأن الأمم المتحدة والتي تحاول عقد السلام لأربعة أعوام، خسرت مصداقيتها كاملة، ثانياً بأن الأسد أظهر بأنه فوق القانون الدولي.
إن السؤال الموجه الآن للولايات المتحدة، ماذا سيفعل الرئيس القادم بهذا الصدد؟
أشك بأن الرئيس القادم للبيت الأبيض سيقوم باتخاذ أي قرارات أكثر فعالية، من تلك التي أقدم أوباما عليها، تلك القرارات التي دعمت بخطوط حمراء على استخدام الأسلحة الكيميائية في 2013.
إن أوباما يستمر برفض توجيه أي ضربات مباشرة ضد النظام السوري، بينما يردد بأنه تعلم من السنوات الماضية أن لا قوة قادرة على حل المشاكل على أرض الواقع، إن لم يكن الطرفان المتصارعان قادران على التعايش مع بعضهم، والآن تظهر خطة تقترح تقوية التعاون العسكري ما بين أمريكا وروسيا، وذلك بالقيام بضربات عسكرية ضد ما يسمونهم بـ"الإرهابيين" مقابل إقناع روسيا للأسد بإيقاف ضرباته العسكرية ضد المعارضين المدعومين من قبل أميركا، أمثال أولئك المحاصرين في داريا.
ولكن ما الذي سيفعله كلينتون وترامب بشكل مختلف؟
من العدل القول بأن سلطة كلينتون ستناقش إقامة مناطق آمنة بعيداً عن النشاطات الروسية لتفادي المواجهة، شادي حميد المحلل السياسي الذي يعمل مع مؤسسة بروكينغز قال: "بغض النظر عن التفضيلات، فإن كلينتون ستكون تحت الكثير من الضغوط لتميز نفسها عن أوباما بخصوص السياسة الخارجية ومن المنطقي أن تبدأ في سوريا".
إن منطقة حظر الطيران التي تحدثت عنها كلينتون في الشمال السوري ستؤمن منطقة آمنة لعيش المدنيين السوريين، بينما ستقوم بتخفيف تدفق اللاجئين نحو أوروبا، كيم غطاس والذي كتب السيرة الذاتية لكلينتون يقول: "إن كلينتون ستظهر للروس والايرانيين بأن هناك رئيس جديد في البيت الابيض، وأنهم سيدفعون ثمن تدخلاتهم في المنطقة."
أما ترامب فقد صرح بأنه سيشكل منطقة حظر طيران، ووعد بتدمير تنظيم "الدولة"، كما أنه قد وصف بشار بالسيء، ولكنه لم يعبّر عن نيته في إغضاب بوتين الذي يريد إبقاء بشار الأسد في السلطة، وفيما تملك كلينتون خبرة 4 سنوات من العمل في السياسية الخارجية، فإن ترامب لا يملك أي خبرة، لذلك فلا يمكن توقع ما سيفعله مستقبلاً.
ويمكن القول بأن المرشحين سيتدخلان بشكل أوسع في المشكلة السورية، لكن السؤال الأهم هو هل سيكون التدخل من أجل حل الأزمة الانسانية في سوريا أم من أجل مكافحة الإرهاب؟
لقد عرفت داريا من قبل من خلال عمل حرفييها في تشكيل الأثاث الخشبي من البامبو، لصناعة نوع خاص وفني من الكراسي المستخدمة في كل أنحاء سوريا، وعند وصول الربيع العربي لسوريا عام 2011 كانت داريا إحدى تلك المناطق الساخنة، حيث دخل الجيش وقام بارتكاب مجازر مروعة بحق أهاليها.
ثم تفاقمت الأمور هناك في نهاية آب 2012، في أعقاب أخبار وصلت عن حصول مجزرة في داريا، حيث تم حصار المدينة ليومين ومن ثم قام جيش النظام باقتحام المدينة بيتاً بيتاً واعتقال الناس، وصفِّهم مقابل الجدار ومن ثم قاموا بإعدامهم.
وقد دخلتُ داريا في نهاية آب 2012 متخفية في هيئة امرأة سورية محلية، وذلك قبل أن أتواصل مع مجلة الغارديان في لندن والتي سمت تلك المجزرة في داريا بـ"المجزرة الأبشع في سوريا"، لكن بعض الصحفيين الغربيين المعروفين، دخلوا مع قوات النظام ونفوا حدوث تلك المجزرة، بل قالوا بأن تلك الجثث كانت نتيجة حدوث خطأ أثناء تبادل الأسرى.
لكن وفي اللحظة التي دخلتُ فيها المدينة ولاحظتُ رائحة جثث الموتى المتعفنة، علمتُ بأن هذا لم يكن نتيجة عملية لتبادل الأسرى، لقد عرفتُ شيئا من خلال الأدلة على وجود المجازر والإبادات الجماعية، ويمكنني القول بأنهم اقتيدوا نحو الحائط حيث تم إعدامهم، ولاحظت أيضا وجود العديد من الجثث التي تنبعث منها رائحة مزعجة وقوية، ذكرتني كثيرا بتقاريري عن رواندا، البوسنة، وتيمور الشرقية.
إن بعض الناس الذين تحدثت إليهم هناك، أخبروني بأن قوات الأسد قامت باقتحام شوارعهم ومنازلهم، بينما كان يتبعهم ميليشيات وشبيحة "فرق الموت"، وبعضهم أخبرني بأنهم أخذوا ضحاياهم إلى القبو حيث قاموا باغتيالهم واحداً تلو الآخر، وأما الذين نجوا منهم كانوا قد اختبأوا، أحمد كان واحداً منهم، كان مراهقاً حينها، وعائلته كانت سليمة، هذا ما يتذكره، حيث نقل لي في رسائل على السكايب عندما استطاع أن يجد الكهرباء: "لقد كانت تجربة فظيعة، كنت خائفاً على أختي الصغيرة مارينا، كنا نختبئ في حفرة تحت الأرض، وكانت رائحة الموت والدم التي تغطي المدينة مرعبة بحق".
لقد كانت هناك تحذيرات بأنه من الممكن حدوث هذا، مبكراً في ذلك الصيف، عندما كنت أستطيع أن أكتب تقاريري من مناطق سيطرة النظام في دوما، حمص، البرزة، وبقية المدن المنكوبة، القتال أصبح مكثفاً، في حين أن هليكوبترات النظام قامت بإلقاء مناشير لقوات المعارضة: "الجيش السوري النظامي يعتزم تطهير كل شبر من سوريا وأنتم لديكم خياران إما القاء أسلحتكم أو مواجهة الموت الحتمي"، وربما حتمية الموت لا بد منها نظراً لصعوبة إنقاذ الناس في داريا من الفرقة الرابعة التي يقودها شقيق بشار الأسد "ماهر".
إن الأمم المتحدة قد قامت بقيادة جهود غير فعالة في سوريا، ففي يونيو 2012 أشرف الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان على بيان جنيف الذي يطالب بإنهاء القتال، وحماية المدنيين وإنشاء محادثات سياسية، ولكن كوفي أنان استقال وأبدلوه بالأخضر الإبراهيمي الذي قال علناً بأنه ليس هناك من دولة تضع مصلحة الشعب السوري في أولوياتها، واستقال هو أيضاً، ومن ثم استلم عمله دي مستورا بدلاً عنه عام 2014، ذلك الدبلوماسي الحامل للجنسية الإيطالية والسويدية، والذي يملك خبرة سنوات عديدة إثر عمله في البوسنة والسودان وأفغانستان والعراق، قضى العامين الماضيين على متن الرحلات ما بين موسكو والبيت الأبيض ودمشق وطهران وفيينا ومركز الأمم المتحدة في جنيف، حيث حاول وبشدة إيجاد أي حل للأزمة السورية.
دي ميستورا روع من هول المعاناة السورية كالجميع، ولكن لطالما كان ينقصه الشيء الحاسم، ألا وهو دعم من الجيش الأميركي، في القيام بضربات جوية لإيقاف الحصار، فهو يخوض معركة خاسرة ضد إدارة اوباما والتي لا زالت تريد الخروج من البيت الأبيض دون أن تتلوث يداها بأي دماء كانت.
وتقريباً كل شخص عرفته، وعمل في سوريا يوافقني الرأي في وجوب القيام بضربات جوية بعد الهجوم الكيميائي لقوات النظام على الغوطة في عام 2013، فلقد كان بإمكان الضربات الجوية أن تنهي الحرب بشكل وتوقيت أقرب، وتنقذ حياة مئات الالاف، "إن هذا ما أفضّل أن أراه" كما قال أحد موظفي الأمم المتحدة الذي عمل في سوريا خلال الحرب، فشن ضربات جوية في سوريا بعد المجزرة الكيميائية في الغوطة، كانت سترسل رسالة واضحة وقوية للأسد وداعميه، دون أن تسمح له بالتمادي.
لا أزال كلما أنظر إلى داريا أتذكر آلام أولئك السكان الذين ماتوا جوعاً شرقي البوسنة، الذين حوصروا من قبل الكروات والصرب لأسابيع في نهاية ربيع 1993، لقد ذكرتني داريا بذلك الوقت حين مات الناس من الجوع في وسط أوروبا، هناك حيث يوجد طعام وفير على بعد بضع أميال فقط.
يوجد الآن أشخاص في سوريا لا يملكون كسرة الخبز في أرض مليئة بالحقول وأشجار العنب والخضار، ولكن لا وجود الآن للخضار والفاكهة الطازجة، هناك بعض الأطفال الذين ولدوا في فترة الحرب ولا يعرفون ما هي الفاكهة حتى.
وعندما بدأت بكتابة التقارير عن سوريا وجدت أوجه تشابه عديدة مع البوسنة، لكني لا أظن أن سلام دايتون قد يفلح في سوريا بسبب الدول المشتركة ووجود تنظيم "الدولة"، لذا يجب أن يكون هنالك مفاوضات أخرى، والتي ستكون أحد أهدافها الرئيسية التوصل لأقصى قدر من الشمول والتنوع الديموغرافي، بما في ذلك أصوات من جميع أنحاء البلاد ومن كل الأعراق، وذلك دون أن يتم تقسيم البلاد إلى اتحادات مثلما حدث في البوسنة.
داريا هي عالم صغير من كل ما هو خاطئ في السياسة العالمية في سوريا، حيث يقول نديم شحادة من تونس "إن داريا كانت تحت حصار شديد منذ بداية 2013، وحتى الأمم المتحدة مضطربة من سياسة الأسد، وإذا كان الغرب لن يقوم بفعل أي شيء سوى المشاهدة، بينما تتدخل روسيا وإيران وحلفاء الأسد بشكل قوي، فعلينا أن نتوقع وجود المزيد من التطرف."
في نهاية أيلول سيتم عقد مناظرة رئاسية، ستكون أول فرصة لرؤية اقتراحات كلينتون وترامب لحل الأزمة السورية، ومن المثير للاهتمام بأن موقع عقد المناظرة الرئاسية هو دايتون، ذلك الموقع المشهور حيث اقترح صلح البوسنة، وفي هذه الأثناء فإن شحنة الغذاء القليلة التي وصلت في يونيو إلى داريا، ستنفد لا محالة، ولا أحد يعلم متى ستصل الشحنة التالية، بينما هنالك وقت طويل حتى يقوم الرئيس الأمريكي الجديد بالقسم الرئاسي!