بلدي نيوز - (تركي المصطفى)
يناقش هذا الملف في إطار تحليلي استراتيجي، الصراع الدائر على منطقة طريق الـ"m4" الواصل بين مدينتي اللاذقية وحلب، وانعكاساته على الأطراف الفاعلة في الملف السوري، المحلية والإقليمية والدولية، ومن بينها، روسيا وتركيا وإيران.
يبدأ الملف بمدخل تعريفي للمنطقة التي يخترقها هذا الطريق مع توضيح أهميتها الاستراتيجية، وأهداف روسيا فيه، والآليات التي تتبعها للسيطرة عليه، ومستقبل الطريق والمنطقة في ضوء التنافس بين القوى المحلية والإقليمية والدولية.
فعلى مدى السنوات الخمس الماضية من عمر الاحتلال الروسي، وتحديدًا منذ نهاية عام 2015، سعت روسيا وبكل إمكانياتها، إلى السيطرة على الطرقات الدولية الداخلية الخارجة عن نفوذ نظام الأسد، من خلال وجودها كأقوى طرف عسكري في المنطقة، وقد تحقق لها ذلك في فبراير/ شباط 2020، عن طريق ميليشيات إيران والفرقة 25 "ميليشيا النمر"، التي سيطرت عسكريًّا، على كامل الطريق الدولي "m5"، على الرغم من وجود "النقاط العسكرية التركية" التي تعمل في إطار "حلف آستانا".
الأهمية الاستراتيجية لمنطقة طريق الـ "m4":
تكتسب منطقة طريق الـ "m4" أهميتها الحيوية، من وقوعها في دائرة السيطرة على وسط سوريا، وشرايين تدفق التجارة الداخلية والخارجية، مع ما توفره طبيعة المنطقة الهضبية والسهلية، من أهمية استراتيجية، فضلًا عن إمكانية استغلالها عسكريًّا، حيث اتخذت أطراف الصراع الرئيسية (روسيا وتركيا وإيران) قواعد عسكرية متقدمة في المنطقة وعلى حوافها، للدفاع الاستراتيجي عن مناطق نفوذها. ولا شك في أن أطراف الصراع أدركت أهمية موقع المنطقة الاستراتيجي، مما يلبِّي الطموحً العسكريّ لمن يسيطر عليها، من هنا تتسابق روسيا وتركيا لبناء قواعد عسكرية، وسبقتهم إيران في هذا المضمار على حوافها، وذلك لما تقدمه هذه القواعد، من تسهيلات للدفاع والهجوم في هذه المنطقة المضطربة.
عسكريّا، يوفِّر موقع منطقة طريق الـ " m4" الوصل الاستراتيجي بينها وبين ساحل البحر المتوسط، التي تتخذ منه روسيا، قاعدة حميميم للسيطرة العسكرية المتقدمة، مع كونها قاعدة للقاذفات الاستراتيجية "سوخوي " بكافة أصنافها، و"ميغ 29" وتنبع أهمية هذا الوصل ما تتمتع به المنطقة من انفتاح على الدوائر الجغرافية السورية، مثل: الانفتاح باتجاه البادية السورية، وحلب عاصمة التجارة السورية، وجبال العلويين التي تعتبر إحدى أهم حواضن النظام وقوى الاحتلال المختلفة، وفي هذا الاتجاه، استغلتها روسيا لأغراض عسكرية بموجب معاهدة فرضتها على بشار الأسد عام 2015م، فضلًا عن استغلالها بالاشتراك مع إيران، قبل ذلك وفيما بعد، لكامل المنطقة الساحلية ومحيطها. من ناحية أخرى، تتمتع هذه المنطقة بأهمية عالمية في مجال التراث الحضاري؛ حيث تتوزع المواقع التاريخية على كتلة جبل باريشا والأعلى والدويلة والوسطاني وكتلة جبل الزاوية في الشمال السوري، غير أن دمارا كبيرا حدث في تلك المواقع جراء القصف بالطيران الروسي وذاك التابع لنظام الأسد، فضلاّ عن القصف المدفعي المتواصل منذ أكثر من 9 سنوات، على الرغم من إدراج تلك المواقع الحضارية ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، ولعل ما يمكن الإشارة إليه هنا، مملكة "إيبلا" أحد أهم المواقع الأثرية الباقية من العصر البرونزي في غرب سوريا وأكثرها امتداداً، فهي تعود إلى القرن الثالث ق. م، وقد تعرضت لدمار بالطيران الروسي حيث سجل أكثر من سبعين غارة جوية أدت إلى تدمير الأكروبوليس، وتحديداً باحات القصر الملكي، وبالأخص غرفة المحفوظات. كما تعرّضت السلالم المصنوعة من حجر البازلت في الجناح الإداري للقصر لدمارٍ واسع. ومثلها تعرّضت أغلب مواقع المنطقة إلى دمار واسع أو جزئي بفعل القصف الجوي الروسي. كما شمل الخراب، نبش قبور الرموز التاريخية كـ"ضريح الخليفة الأموي" عمر بن عبد العزيز في بلدة دير شرقي.
أهداف روسيا من السيطرة على منطقة الـ"m4"
نظرًا إلى الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الـ"m4" فإنَّ روسيا تسعى إلى السيطرة عليها لإلحاقها ضمن مصفوفة قواعدها العسكرية المستحدثة في ريفي إدلب الجنوبي والشرقي، بما يحقق لها إحكام السيطرة العسكرية، والاقتصادية، على طول الخط التجاري الممتد من حلب شمالا، حتى الحدود السورية الأردنية، وصولًا إلى اللاذقية، فالبحر المتوسط. ويأتي أيضًا في سياق حرص روسيا على جعل المنطقة التي تحتلها عقدة مواصلات، محلية وإقليمية.
عسكريّا، تعمل روسيا على بناء قاعدة عسكرية في منطقة "m4"، لتدعيم مشروعها الاحتلالي، الذي لم يعد خافيًا على أحد، ولعل ما يشير إلى ذلك قيامها، منذ يناير/كانون الثاني 2020، بنشر نحو 6000 مرتزق من الفرقة 25 وميليشيات إيران وفي مقدمتها "حزب الله اللبناني" في المنطقة، فيما تشير مصادر أخرى إلى وصول عشرات المدرعات والدبابات إلى هذه المنطقة. ورغم كل المساعي الروسية لتكبير دورها الدولي من خلال توسيع احتلالها لآراض سورية أخرى، فإنَّ من المهم الإدراك بأن أهدافها الاستراتيجية في إدلب، أهداف مقيَّدة بالحدود المسموح بها من قبل القوى الدولية كـ"الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة"، وإن تذرعت بمحاربتها "الإرهاب" في المنطقة.
التداعيات على أنقرة
على الرغم من الشراكة بين أنقرة وموسكو في سوريا إلا أنه في حال تقدم روسيا داخل هذه المنطقة سيحدث اختلال جيوسياسي لمصلحة روسيا، ولذلك سعت أنقرة إلى زيادة عدد قواتها ومعداتها العسكرية مؤخرًا، للحؤول دون تقدم الروس إلى هذه المنطقة وإدراجها ضمن مناطق سيطرتها ونفوذها. ومما يلفت الانتباه في هذا السياق، ذلك التصعيد المتنامي في التوتر الذي شهدته المنطقة، وبالأخص بعد التطورات التي شهدتها ليبيا، والمرتبطة مع إدلب بوشائج كثيرة، في إطار التنافس الحاد بين الشريكين، ويمكن أن يؤدي خروج منطقة طريق "m4" من سيطرة القوات التركية، دون اتخاذ موقف حاسم إزاء الأطماع الروسية إلى تكرار سيناريو شرق السكة فيما تبقى تحت نفوذ أنقرة في ريف إدلب الجنوبي، كما يشكِّل نفوذ وسيطرة روسيا على هذه المنطقة، تحديًا للدور التركي في إدلب، الذي يعد دعامة شديدة الحساسية لأمنها القومي، الاقتصادي والعسكري، وكل ذلك يشكِّل أسباباً لعلاقة متوترة بين أنقرة وموسكو، خاصة بعدما شهدته تلك العلاقة مؤخراً من توتر على خلفية الاصطفافات العسكرية بين أطراف الصراع الليبي، وهو ما يفرض تحديًا على أنقرة فقد تواجه صعوبة في الاستمرار على نهج الشراكة الراهنة مع روسيا التي تفتح فمها على اتساعه لابتلاع ما يمكن ابتلاعه من هذه المنطقة، كما يفرض عليها نهجًا جديدًا في التعامل مع أية تحولات إقليمية ودولية. في ظل تصاعد التنافس الإقليمي والدولي في المنطقة، وما يثار بشأن تضاؤل فرص تحقيق الانتقال السياسي في سوريا.
التداعيات على إيران
تدخل إيران في تنافس علني مع عدد من الخصوم الدوليين والإقليميين، بينهم الولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى نحو أقل التنافس الخفي مع روسيا، ويمكن أن يكون لسيطرة روسيا على المنطقة تداعيات أمنية على الوجود الميليشياوي الإيراني، ومنها حرمانها من ممارسة أنشطتها الأمنية والتبشيرية في هذه المنطقة، التي تزايدت وتيرتها خلال الفترة الأخيرة وبالأخص في ريف حلب الجنوبي المعقل العسكري الرئيسي لإيران في سوريا، ومما يزيد من أهمية ما يحدث في منطقة الـ"m4" بالنسبة لطهران ما لوحظ مؤخرًا من سعي روسيا إلى إقامة قواعد عسكرية لها في المنطقة المواجهة لمناطق نفوذ الميليشيات الإيرانية في ريف إدلب الشرقي، وفي ريف حلب الجنوبي من أجل تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة، بأسلوب تدريجي.
مستقبل منطقة الـ"m4"
تزداد فرص أنقرة في استمرار نفوذها على محافظة إدلب ومحيطها المحرر، إن تمكنت من مواجهة الميليشيات التي تدعمها روسيا، فضلا عن مقدرتها ونجاحها في عملية دمج فصائل الثورة المسلحة، وقد يتعزز موقف أنقرة أكثر بدعم الفصائل عسكريا في حال نشوب صراع ظهرت ملامحه مع تزايد التوتر الذي يجسده قصف مكثف براجمات الصواريخ من قوات نظام الأسد، ترافق مع استهداف جوي روسي لمنطقة طريق الـ"m4"، على محور تل الحدادة في جبل الأكراد بريف اللاذقية الشمالي، مما يعتبر خرقا لاتفاق وقف إطلاق النار الموقع بين تركيا وروسيا مطلع شهر آذار الماضي. ومع ذلك تسعى كل من موسكو وأنقرة للتمسك بتنفيذ "اتفاق موسكو الهش" وتمكين كل منهما "حلفاءه المحليين" القدر الأكبر من النفوذ، عند الحدود الراهنة في منطقة خفض التصعيد، وفق اتفاق "موسكو" الذي لا يمثل سوى الحد الأدنى لطموحها وطموح أنقرة، فضلًا عن كونه غير قابل للتنفيذ لأنه بُني على قناعات هشة، فرضتها الظروف الإقليمية والدولية وفقًا لأجندات تتعلق بالتقاسم المبكر لمكاسب الحرب.