بلدي نيوز - (تركي مصطفى)
بلغ الصراع على سوريا ذروته في الآونة الأخيرة متسما بالتعقيد الشديد وتضارب استراتيجيات أطراف الصراع فيما بينها، وفق تطور ثلاثة ملفات؛ وباء "كورونا"، و"العقوبات الاقتصادية"، و"الحديث عن تغيير سياسي" في بنية نظام الأسد، وبما أن الصراع الدولي والإقليمي وصل ذروته بعد اكتمال الفرز الديمغرافي، فإن قرع طبول الحرب وما يرافقه من جعجعة ولقاءات مرتقبة بين أطراف الصراع لا تحمل أية نتائج ملموسة في اتجاه تسوية سياسية حقيقية، فالثابت الوحيد هو صراع طويل الأمد بين الشعب المتطلع لحريته وبين نظام الأسد، علاوة على حلقات مختلفة من التداخلات الإقليمية والدولية، فالولايات المتحدة تعمل على استمرار الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية ضد الأسد لعزله عن طهران وتقديم تنازلات سياسية داخلية، فيما بات من الصعوبة على روسيا محاولة تدوير النظام من بوابة "وباء كورونا"، ليبقى الثابت الوحيد هو حرية "إسرائيل" في استهداف القواعد الإيرانية في سوريا دون تحديد الزمان أو المكان، بوصفها الطرف المؤتلف مع استراتيجيات قطبي الصراع (الولايات المتحدة وروسيا).
من هنا، تعتبر هذه الاستراتيجيات المختلفة عاملًا مؤثرًا في المسار الختامي للصراع في سوريا وعلى سوريا، لكنها تمثل أيضًا مصدرًا للاستقطاب والتنافس الإقليمي والدولي، ويتجسد ذلك في أجلى صورة من خلال الصراع السياسي بين اللاعبين الإقليميين والدوليين المتصل بانتشار عسكري في محافظة إدلب والأرياف الإدارية للمحافظات المجاورة، وما يتبع كل الأطراف من مراكز النفوذ المحلي، حيث وصل الصراع مرحلة عض الأصابع (الروسية والايرانية والتركية والأميركية) لتتحول سوريا إلى ساحة عراك لاستنزاف المختلفين والمؤتلفين معا، وهي حال قد تطول وتزيد الوضع تعقيدا كلما زاد الشقاق بين أطراف الصراع الرئيسة التي اتفقت على وأد الثورة بذريعة محاربة الإرهاب، وتتباين عمليا في كيفية وشكل الاحتلال وتقاسم الغنائم، ولكن وباء "كورونا" المتفاقم قد يغير مسار الملفات المطروحة.
طبول الحرب
تنتهج روسيا بوصفها قطب الصراع التي تحتل القسم المفيد من سوريا، وتتحكم فعليًّا في إدارة الحرب ضد فصائل المعارضة السورية، استراتيجية عامة لإدارة معركة إدلب تقوم على "مبدأ القمع والتدمير" من خلال الاستعدادات العسكرية الروسية لمواصلة العدوان على إدلب.
فيما تسعى أنقرة لإفشال التوجه الروسي الداعم للنظام وإيران الذي يجعل من إدلب نسخة أخرى من الجنوب السوري في الهيمنة المطلقة على المناطق المحررة، وبما أن الغموض يكتنف المخطط الذي يستهدف ما تبقى من المناطق المحررة، إلا أن اقتراب الانفجار العسكري على حساب الحلول الأخرى هو المطروح على الطاولة، لذلك يواصل الجيش التركي منذ أيام وبشكل متسارع ومتصاعد إرسال تعزيزات عسكرية كبيرة إلى مناطق تواجده داخل الأراضي السورية، لا سيما داخل حدود محافظة إدلب، وفي مناطق انتشار نقاطه العسكرية في إدلب.
والسؤال المطروح: هل ستنجح الجهود الدبلوماسية التركية في إقناع الروس بحل ملف إدلب سلميا وفق اتفاق سوتشي 2018م وما تلاه في بروتوكول إدلب؟، فروسيا المتعطشة لدماء السوريين يقوم احتلالها على مبدأ "القمع والتدمير" لإخضاع كل المناطق السورية بالقوة الغاشمة، وتدلّ المعطيات الميدانية على أنّ جبل الزاوية يشهد تطورات ميدانية تشي بعمليات عسكرية واسعة النطاق من قبل قوات نظام الأسد ومليشيات إيرانية تساندها، والتي لا تزال تحشد قواها منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين روسيا وتركيا في الخامس من الشهر الماضي حيّز التطبيق.
إذ من المتوقع أن تحاول هذه الميلشيات استكمال السيطرة على المنطقة التي تقع جنوب الطريق الدولي "m4" (حلب-اللاذقية)، انطلاقاً من منطقة شحشبو في ريف حماة الشمالي، ومن هنا يتأهب الجيش التركي لجميع السيناريوهات المتوقعة والتي يطغى عليها الخيار العسكري بشكل كبير.
وتبدو تصفية آخر "مناطق خفض التوتر" الأصعب والأكثر تعقيداً، فلن تقبل أنقرة بانتزاع مناطق نفوذها في شمال سوريا بعد كل ما قدمت وبذلت وتحملت، لذلك بادرت إلى مد كل فصائل المعارضة بما تحتاج إليه من عتاد للتصدي لعدوان قوات نظام الأسد، فيما تستعجل إيران العدوان على جنوب خط "m4" باضطراب واضح، إذ لم يعد لإيران استراتيجية طويلة الأمد لاستمرار الهيمنة على سوريا بعد الاتفاقات "الإسرائيلية" الروسية، وكذلك الأميركية التي قيدت حركتها في الجنوب السوري وتلاحقها إلى أماكن أخرى؛ بل كل ما لديها أنها تتبنى خططًا متفرقة قصيرة المدى تقوم على أشكال متعددة من الاندساس تحت العباءة الروسية وتغذية الخلافات الإقليمية والدولية في إطار خطة أوسع نسبيًّا، أساسها إطالة أمد الحرب للوصول إلى وضع قد تحدثه تحولات داخلية وإقليمية تخدم موقفها وتُعلِي من رصيدها الشحيح في ما تبقى من نفوذ لها في سوريا.
كيماوي الأسد
من بوابة "الكيماوي" أعادت الأمم المتحدة "المائدة السورية الدسمة" إلى الطاولة، بعد أن اتهم محققون دوليون في تقرير قدمه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، نظام الأسد وروسيا بتعمد استهداف مستشفيات ومنشآت طبية وتعليمية في شمال غربي سوريا العام الماضي.
كما وجهت "منظمة حظر السلاح الكيماوي" اتهاماً مباشراً لنظام الأسد بمسؤوليته عن هجمات بالسارين في خان شيخون ودوما بغوطة دمشق في 2017 و2018، وبموجب البيان خلص التقرير إلى النتائج التالية: "في نحو الساعة 06:00 من 24 مارس 2017 أسقطت طائرة عسكرية طراز «سو22» تنتمي إلى «السرية 50» من «الفرقة الجوية 22» من القوات الجوية السورية، كانت انطلقت من قاعدة الشعيرات الجوية، قنبلة جوية طراز «إم4000» تحوي غاز السَّارِين على جنوب اللطامنة، ما أضر بـ 16 شخصاً على الأقل.
وفي نحو الساعة 15.00 من 25 مارس 2017 أسقطت طائرة مروحية تابعة للقوات الجوية السورية كانت انطلقت من قاعدة حماة الجوية، أسطوانة على مستشفى في اللطامنة واخترقت الأسطوانة سقف المستشفى وانفجرت لتطلق غاز الكلورين، ما أضر بـ 30 شخصاً على الأقل.
وفي نحو الساعة 06:00 من 30 مارس 2017 أسقطت طائرة حربية من طراز «سو22» تنتمي إلى «السرية 50» التابعة لـ«الفرقة الجوية 22» من القوات الجوية السورية كانت انطلقت من قاعدة الشعيرات الجوية، قنبلة جوية طراز «إم4000» تحوي غاز السَّارِين على جنوب اللطامنة، ما أضر بـ 60 شخصاً على الأقل.
وفي السياق، أعلن منسق فريق التحقيق التابع للمنظمة سانتياغو أوناتي لابوردي في بيان، أن فريقه خلص إلى وجود أسس معقولة للاعتقاد بأن مستخدمي السارين كسلاح كيميائي في اللطامنة في 24 و30 آذار/مارس 2017، والكلور في 25 آذار/مارس 2017 هم أشخاص ينتمون إلى القوات الجوية لدى نظام الأسد في سوريا.
وبحسب المنظمة، فإن طائرتين من طراز سوخوي-22 أطلقتا قنبلتين تحتويان على غاز السارين في 24 و30 آذار/مارس 2017، فيما ألقت مروحية تابعة للنظام أسطوانة من غاز الكلور على مستشفى اللطامنة.
ورحب الاتحاد الأوروبي، في بيان، بتقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الذي صدر الأربعاء الماضي، وشجب الاتحاد بشدة استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل سلاح الجو التابع لنظام الأسد، معتبرا أن استخدامها يعد انتهاكا للقانون الدولي ويمكن أن يرقى إلى جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية.
وشدد البيان على ضرورة عدم التسامح مع الإفلات من العقاب على هذه "الأعمال الرهيبة"، مطالبا المجتمع الدولي باتخاذ الإجراءات المناسبة، ومؤكدا أن المساءلة ضرورية لمنع عودة استعمال الأسلحة الكيميائية.
وذكّر الاتحاد الأوروبي بالتدابير التقييدية التي فرضها على مسؤولين وعلماء سوريين رفيعي المستوى لدورهم في تطوير واستخدام الأسلحة الكيميائية، وقال إنه على استعداد للنظر في فرض مزيد من العقوبات حسب الاقتضاء.
وفي السياق ذاته، عقد ستيفان دوجاريك المتحدث الرسمي باسم غوتيريش مؤتمرا صحفيا عبر دائرة تلفزيونية، وقال إن الأمين العام أحيط علما بتقرير المنظمة، وإن موقفه لم يتغير، داعيا إلى ضرورة محاسبة جميع المتورطين في استخدام تلك الأسلحة ضد المدنيين.
وعليه، فإن الولايات المتحدة التي تواجه نظام الأسد بمجموعة من أوراق الضغط تؤكد استمرار وجودها العسكري في شرق الفرات وقاعدة التنف ودعم "إسرائيل" بشن غارات على مواقع الميليشيات الإيرانية، واستمرار العقوبات الاقتصادية على نظام الأسد.
خاتمة
إن إعادة طرح الملف السوري من بوابة "السلاح الكيماوي" واتهام نظام الأسد بمسؤولية ذلك، ومخاطر تداعيات وباء "كورونا" قد يجبر الدول الفاعلة على إعادة حساباتها، والتي قد تؤدي إلى قلب موازين القوى ووضع حد للمراهقات العسكرية في سوريا ورسم احتمالات المواجهة وفق خيارات يقف على رأسها توجه واشنطن الجديد بالتأكيد على محاسبة نظام الأسد، وهذا ما سيدعو موسكو إلى التصعيد العسكري في جبل الزاوية، وأما المناورة السياسية لروسيا والتضليل الإعلامي لمحاولة انتشال الأسد من بوابة "كورونا" لصرف الأنظار عن "مجازر الأسد الكيماوية" والتي أظهرتها نتائج تحقيق "منظمة حظر السلاح الكيماوي" مما لن يعفي الأسد من تورطه في تلك المجازر، وبالتالي سيرفع وتيرة الصراع بين موسكو والغرب ويبقى الخيار الأخير استجابة المغامر بوتين إلى تسوية سياسية في سورية تطيح بالأسد وتخرج إيران منها، وهو ما تعمل الولايات المتحدة على التوصل إليه بالضغط على الروس الذين يتجنبون صداما عسكريا هم الطرف الخاسر فيه.