بلدي نيوز - (تركي المصطفى)
إدلب بين خريطتين
تُعدُّ إدلب المفتاح الرئيسي في عملية السيطرة على "سوريا المفيدة"، حيث لا تزال تحت تهديد الطائرات والصواريخ الروسية وتلك التابعة لميليشيات إيران وقوات النظام، من المناطق الشطرية الواقعة تحت نفوذ الأخير وحلفائه، وبالإمكان الحديث عن الشكل النهائي لمنطقة خفض التصعيد الرابعة بحسب استراتيجية الروس، مما يسهل تفسير ما يجري من تنفيذ بنود اتفاق "سوتشي" الذي يقودنا إلى استنتاج بديهي بأن روسيا في الاتفاق الذي رعته لا تعمل على تحقيق أي تسوية سياسية تفضي إلى سلام في سوريا.
ومن أبرز الوقائع المؤكدة على هذا المذهب، توظيف اتفاق "سوتشي" الذي أبرمته مع تركيا في سبتمبر/أيلول 2018 لقضم مناطق واسعة من أرياف إدلب وحماة وحلب، ومن دواعي دوافع تبني روسيا وأحلافها عدوانها المستمر ضد المناطق المحررة، هو ما يمكن ملاحظته من تصرفات وتصريحات تفيد بتقديم الخيار العسكري على خيار السلام، وهذا ما لوّح به وزير خارجية روسيا "لافروف" الذي أكّد على أن بلاده عازمة على استعادة جميع الأراضي الخارجة عن نفوذ الأسد، رغم ما أنجز في المرحلة الأولى من التوافق مع تركيا الشريك الرئيسي في اتفاق "سوتشي"، ما دفع بطرفي الاتفاق للدخول في لعبة ظاهرها "كسر العظم" يجسدها الحشد العسكري الهائل، وباطنها سياسي يتمحور حول شكل مناطق النفوذ وفق تمسك أنقرة بتنفيذ كامل بنود "سوتشي"، فيما تضع موسكو على الطاولة خارطة اتفاق أضنة العائدة إلى العام 1998م الذي تنازل حافظ الأسد بموجبها عن أراض لصالح النفوذ التركي، وبين الخارطتين، يتفاعل التصعيد العسكري المرتبط بأمور استراتيجية للدفع بالحلول العسكرية نحو اتجاهات توافقية قد تفضي إلى تعديل تلك الخرائط.
استراتيجية بوتين
على نحو يجمع بين الهجوم والهدن، تمثَّلت استراتيجية بوتين العسكرية في مختلف محطات الحرب داخل الأراضي السورية ولوحظ خاصة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، التركيز المتزايد على الطابع الهجومي في عمليات روسيا العسكرية في منطقة خفض التصعيد الرابعة بمحافظة إدلب ومناطق داخلية أخرى، مثَّلت ولا تزال مصادر تهديد للمنطقة، حيث استدعى العدوان المتكرر عليها تحت ذريعة تطبيق اتفاق آستانا وتاليا اتفاق سوتشي، وفرض واقع جديد فيها من خلال إحكام السيطرة على الطريق الدولي وإبعاد فصائل المعارضة عن المدن الرئيسية الواقعة على الطرقات السريعة ومنع أي تهديد قد يطال الروس وحليفيه نظام الأسد والميليشيات الإيرانية في تلك المناطق، ووأد أي محاولة تقدم لفصائل المعارضة المسلحة مما أدى إلى نزوح أكثر من مليون مدني باتجاه حدود تركيا في إشارة صارخة أن موسكو تنتهج استراتيجية "الحرب الدبلوماسية" أو استراتيجية "المفاوضات مع الضغط العسكري المتواصل مما يجبر الخصوم على قبول شروطها والاستسلام لسطوتها".
كل ذلك استباقا لمواجهة الضغوط الأميركية التي يحملها "قانون قيصر" الزاحف إلى نظام الأسد في يونيو/حزيران القادم، ويتصل كذلك مع اقتراب موعد نهاية الولاية القسرية لرئاسة الأسد في النصف الأول من العام 2021م، يرسم مسارها أسلحة الدمار الشامل في استعجال واضح لجر الجميع إلى حظيرة الأسد، بما فيها بعض الأنظمة العربية المتهالكة التي ترى في بوتين حاميا عروشها الآيلة للسقوط.
الشيشان كموذج في إدلب
وبات المشهد الميداني واضحا من خلال خط الطيران الروسي الذي قسم ريف إدلب إلى دوائر يتم تدميرها ومن ثم احتلالها بشكل تدريجي، ولا شك أن أنقرة أدركت اتساع دائرة المعارك الآن وتحولها باتجاه مدن وبلدات ريف إدلب الجنوبي عبر محور مدايا - أرمنايا في ريف معرة النعمان الجنوبي، بهدف التقدم باتجاه مدينة كفر نبل للوصول إلى كفر عويد الواقعة على السفوح الغربية لجبل الزاوية في محاولة إحكام السيطرة على منطقة سهل الغاب، وبالتالي حصار الفصائل المتمركزة في "كبينة" ومحيطها ومن ثم إجبارها على الانسحاب من هذه المنطقة لشرعنتها بخرائط ترسمها موسكو بموجب اتفاق "سوتشي"، أو بالانقلاب على ذلك الاتفاق واتهام أنقرة بعدم "شرعية وجودها" في سوريا، وتتولى موسكو فعليا قيادة العمليات العسكرية لتنفيذ إحكام السيطرة على تلك المنطقة المرسومة إيذانا بتمزيق الخرائط المتفق عليها سابقا في "أستانا وسوتشي" واستبدالها بأخرى تتناسب مع الاستراتيجية الروسية التي تقتفي نموذج "الشيشان" في سوريا، القائمة على تدمير المدن والبلدات والقرى وتفريغها من أهلها.
بدورها استبقت أنقرة الاستراتيجية الروسية بالانتشار في مدن وبلدات جبل الزاوية المحاذية للطريق السريع حلب اللاذقية، ومع بداية الأسبوع الأول من معارك شهر فبراير/شباط الجاري، بدى واضحا أن أردوغان استيقظ على الخطط الروسية بعد مقتل عدة جنود أتراك في محافظة إدلب.
وفي السياق، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حينها إنه لم يعد هناك شيء اسمه "مسار أستانا" بشأن سوريا، في إشارة منه إلى استمرار نظام الأسد في انتهاك اتفاقات وقف إطلاق النار، حيث قال: "لم يتبق شيء اسمه مسار أستانا" وهدّد نظام الأسد ومَن خلفه، أي روسيا وإيران قائلاً: "لولا الأولى جواً، والثانية برّاً، لسقط النظام"، وأمهل الأسد كحدّ أقصى حتى نهاية الشهر الجاري كي تنسحب ميليشياته إلى حدود ما قبل "اتفاق سوتشي"، أي خلف نقاط المراقبة التركية الـ 12 في منطقة خفض التصعيد، كما هدّد بـ "الردّ عسكرياً، براً وجواً، على أيّ عمل عسكري سوري يستهدف الجيش التركي وحلفائه شرق الفرات وغربه"، وأكد أن "تركيا لن تنسحب من سوريا إلا بعد إسقاط نظام الأسد وإقامة نظام ديموقراطي يمثّل كل الشعب السوري وبعد القضاء على الإرهابيين".
ويظهر التوتر العسكري من خلال ارتفاع عدد الشاحنات والآليات العسكرية التركية التي وصلت منطقة "خفض التصعيد" خلال الفترة الممتدة من الثاني من شهر فبراير/شباط الجاري وحتى اليوم، إلى نحو 2400 شاحنة وآلية عسكرية تركية إلى الأراضي السورية، تحمل دبابات وناقلات جند ومدرعات وكبائن حراسة متنقلة مضادة للرصاص ورادارات عسكرية، فيما بلغ عدد الجنود الأتراك الذين انتشروا في إدلب وحلب خلال هذه الفترة أكثر من 10000 جندي تركي.
وفي تصعيد آخر، اتجهت أنقرة لحشد "حلف الناتو" بعد أن أدركت أن الولايات المتحدة لن تتفرج على "نشوة" الروس وسيكون الوضع أكثر تعقيداً، وأكد المبعوث الأميركي جيمس جيفري أن بلاده "تقف إلى جانب حليفتها في الناتو" وتدعم مطالب أنقرة بـ "استعادة خطوط منطقة وقف إطلاق النار التي تم التوصل إليها في سوتشي"، ووعد أنقرة بدعم دبلوماسي واستخباراتي.
من جانبه أبلغ الرئيس دونالد ترمب نظيره التركي أردوغان هاتفياً "بقلقه إزاء العنف في إدلب"، وفي السياق جاءت محادثات وزير الخارجية مايك بومبيو في العاصمة البريطانية لتوحيد الموقف الأوروبي ضد نظام الأسد مع اقتراب موعد تنفيذ إجراءات قانون قيصر، وصدرت مؤخرا قائمة جديدة بأسماء شخصيات وكيانات تابعة لنظام الأسد مشمولة بالعقوبات الأميركية، وفي تطور تصعيدي لافت أوقفت أنقرة الدوريات المشتركة مع موسكو شرق الفرات.
الخيار المتاح
بعد هذا كله، لم يعد هنالك ما يبرّر لأنقرة التمسك بالشراكة مع روسيا في سوتشي، ولكن الحقيقة تبدو وفق التصعيد العسكري الروسي والمسارات السياسية المختلفة أن حجم العلاقات الروسية التركية أكبر من ملف إدلب، سواء في ملف شرق الفرات حيث تحتاج لموسكو للضغط على "وحدات الحماية الكردية" التي تشكل كما تقول أنقرة خطرا يهدد أمنها القومي، فضلا عن حجم التبادل التجاري بين الدولتين ومحطة مرسين النووية التي تبنيها روسيا، وخط السيل الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا، فيما تدرك تركيا بأن حجم دعم "الناتو" لها لا يقترب من الدعم العسكري، وما العقوبات الاقتصادية على نظام الأسد سوى أداة ضغط على الجانب الروسي للجلوس على طاولة المفاوضات ورسم المستقبل السياسي في سوريا، وتعطيل المشروع الإيراني، ومن ثم إخراج إيران من المشهد السوري، كما تدرك روسيا أهمية تركيا كشريك أساسي في أيّة صفقة تتناول سورية مستقبلاً، لهذا يبدو أننا أمام إسقاط خيار الحرب الروسية التركية والذي ظهر من خلال تأجيل التهديد التركي بعملية عسكرية شاملة من نهاية شباط إلى الخامس من آذار واستئناف الدوريات المشتركة شرق الفرات، وفتح موسكو محور هجوم جديد لتجنب الاشتباك مع القوات التركية بغية احتلال منطقة جبل الزاوية التي شكلت تهديدا مباشرا لتواجد القوات الروسية في حميميم.
بالنتيجة: الخيار المتاح أمام موسكو وأنقرة في ظل التطورات السياسية والعسكرية في إدلب تجنبا لانزلاقات عسكرية غير مضمونة التوصل إلى صيغة توافق جديدة أكبر من اتفاق "أضنة" وأقل بكثير من "سوتشي"، بمعنى حصر أربعة ملايين سوري شمال وغرب الطرق الدولية وهذا مرهون بلقاء "بوتين- أردوغان" المرتقب.