بلدي نيوز - (تركي المصطفى)
مدخل
في حيز جغرافي من منطقة "خفض التصعيد" المفترضة، أسراب من الطائرات الروسية مختلفة الأنواع وحوامات تابعة لنظام الأسد، تحمل حاويات متفجرة وتفرغ حمولتها بشكل عشوائي على هذه المنطقة الواقعة على الطريق الدولي حلب - دمشق، فضلا عن راجمات الصواريخ التي تقصف بشكل مستمر، وقبل أن تغادر تلك الطائرات تدخل مكانها طائرات بذات العدد أو أكثر، لا يسمع سوى صوت الانفجارات المرعبة ولا يرى غير الحرائق تلتهم البلدات والقرى، ودوي صفارات الإنذار والإسعاف تتخللها صرخات الأطفال والنساء، وعندما تزول الشمس يغيب الطيران قليلا ليجد الناس فرصة لدفن شهدائهم في مقابر جماعية، والأكثر دهشة هو التغير المستمر لمعالم القرى والبلدات؛ فهناك أحياء كاملة في المدن والبلدات سويت بالأرض وأخرى أخذت أشكالا هندسية مختلفة.
ليست الاستراتيجية التي يتبعها الروس تعني سياسة الأرض المحروقة فحسب، إنما هي دمار شامل لحركة الحياة المستهدف فيها البشر من خلال قصف المشافي والمدارس والمنازل.
تمهيد
تناقش هذه الورقة سياسة خفض التصعيد في المناطق المحررة في إطار مخرجات مؤتمر "آستانا" كنتيجة لانكسار وعثرات الثورة وما حملته من مكاسب لنظام الأسد وروسيا وإيران، ونمهد لهذا النقاش باستعراض سردي موجز للظروف التي أحاطت بهذا الانكسار في بعده العسكري والسياسي والإداري وارتداداته على المشهد الثوري في المناطق المحررة.
ثم نتناول بالتحليل جوانب هذا الانكسار على الأطراف والخطط والنتائج ونقف على الأسباب العميقة لتعثر الفصائل المسلحة المناوئة لنظام الأسد، وتباينات المواقف بينها واختلافات توجّهاتها ومصالحها، والدور الإقليمي والدولي في تشكيل الخارطة العسكرية والسياسية منذ أن قامت موسكو بالالتفاف على القضية السورية ونجاحها في إخراج الملف السوري من أدراج الأمم المتحدة وسط صمت إقليمي ودولي مريب.
ظروف الانكسار العسكري
تنتقل حاضنة الثورة من صدمة إلى أخرى منذ سقوط ريف حماة الشمالي ومدينة خان شيخون بيد قوات الأسد وميليشيات روسيا وإيران، وتتالت الصدمات إثر توسيع دائرة قضم المناطق المحررة في ريفي إدلب الشرقي وريف حلب الجنوبي وتهجير سكانها عبر اتفاقات محلية برعاية روسية، وتعثر الأعمال العسكرية الكبرى في ريف حلب الغربي.
وما زاد من صدمة جمهور الثورة؛ تجاهل أمراء وقادة الفصائل ومعهم القادة في المعارضة السياسية مواجهة الجمهور بشجاعة، للوقوف على أسباب الانكسار العسكري ما عدا بعض التبريرات التي أطلقها عدد من القادة والتي لا ترقى إلى الحفر في الأسباب العميقة للكوارث المتراكمة على المستوى العسكري وانعكاساتها على فئة السياسيين الذين انشغلوا في التحضيرات لمؤتمرات فارغة.
هذا الإرباك والتشظي ازدادت هوته إثر الأخطاء التكتيكية التي أصر القادة العسكريون على ارتكابها، بينما كانت الميليشيات الروسية والإيرانية تعتمد خططا استراتيجية مغايرة كالحصار الكامل للبلدات والمدن الثائرة وتحويلها إلى جزر جرى تجفيفها من ثوارها وأهلها بالقوة المسلحة، قتلا وتدميرا وتشريدا، وكذلك سيطرتها على كامل طرق الإمداد الواصلة بين المدن والقرى الثائرة المتباعدة كالسيطرة على الطريق الدولي نقطة الوصل بين مدينة حلب ودمشق.
هذه التطورات العسكرية جرّت فصائل الثورة إلى الوقوع في أفخاخ وألغام الروس وأحلافهم في التكتيك العسكري، ولم تتمكن من التقاط التوتر الإقليمي والدولي في مراحل التحالف والتباعد والاختلاف، علاوة على الفشل العسكري إذ دخلت الفصائل المسلحة في اشتباك بيني أدى إلى انهيارات كبيرة في الهياكل العسكرية لفصائل الثورة المسلحة.
فجاء اتفاق "سوتشي" كمحصلة للهزائم العسكرية المتتالية وبداية لهزيمة الطريق الدولي "إم 5" المدوية، وكانت مقدمته اتفاق "سوتشي" لتبدأ الماكينة الروسية بالتعاون بعملية وأد الثورة في مقبرة "آستانا"، غير أن التعديلات الروسية على بنود اتفاق "سوتشي" أربك الحسابات التركية، لتأتي الخطوة الاستباقية من أنقرة في حشد الآلاف من جنودها وآلياتهم الثقيلة قطعا للطريق أمام نوايا موسكو في قضم ما تبقى من مناطق محررة، لتحتدم المساومات في موسكو بين روسيا وتركيا لاقتسام مناطق النفوذ، بينما يتفرج عسكر وساسة المعارضة على تقطيع أوصال وطن قدم مليون شهيد ومثلهم من المعتقلين وأضعافهم من المشردين، مما يدفع المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري إلى مراجعة نقدية لانكسارها ورسم استراتيجية جديدة لمجابهة الروس عسكريا والمخططات الدولية سياسيا.
ويمكننا الوقوف على أبرز عوامل الانكسار العسكري:
التشظي الفصائلي وتكريس حكم القادة
إن فشل الكيانات العسكرية الثورية والسياسية بالتوصل إلى برنامج عمل جماعي يتعلق بطبيعة التكوين الاجتماعي للفرد السوري الذي عاش في ظل نظام قمعي استبدادي، أنتج على مدار سنوات القائد الملهم والتاريخي والأول في كل شيء، والذي نجح اجتثاث منظم لأي عمل جماعي على كافة المستويات السياسية والإدارية والاقتصادية، وبعد طرد نظام الأسد من غالبية المناطق السورية وجد الثوار أنفسهم أمام مأزق كبير في إدارة المواجهة ضد الأسد وفي إدارة المناطق المحررة دون امتلاك آلية العمل الجماعي المنظم، في ظل غياب عمل مؤسساتي، فكان الخيار الالتفاف حول الفرد وتكريسه قائدا أو أميرا دون ضوابط تنقله إلى حيز العمل الجماعي.
الدعم الخارجي المتباين وعوامل أخرى
تعاظم التدخل الإقليمي والدولي في الصراع السوري بعد اصطفاف إيران الطائفي وميليشياتها إلى جانب نظام الأسد، ولم تخف السعودية وقطر وتركيا بتباين رؤيتهم حول المشهد السوري، مساندتهم للشعب السوري المناهض لبشار الأسد، وحاولت تلك الدول جمع تلك الفصائل المتشرذمة ونجحت مؤقتا في تشكيل تكتل الجبهة الشامية وغيرها من التكتلات العسكرية التي لم تلبث أن انفرط عقدها نتيجة الخلاف بين الداعمين، وانعكاسات ذلك على الفصائل، كما لعبت غرف "الموم والموك" التي شكلتها دول أصدقاء سورية دورا بارزا في تعميق الهوة بين الفصائل بتحريضها ضد بعضها واقتصر دعمها على أسلحة دفاعية متوسطة، ورغم الحاجة للأسلحة المضادة للطيران إلا أن الولايات المتحدة رفضت ذلك بحجة وقوعها بأيدي الجماعات الإسلامية المتطرفة.
فالداعم الإقليمي وتحوله إلى لاعب أساسي في المشهد الفصائلي رسخ عملية التجزئة في خطوة امتلاك القرار الوطني المستقل.
هذه الأسباب وغيرها كالغلو والتكفير وشيوع مشاريع خارج الإطار الوطني للثورة وغياب المرجعيات القضائية والقيادة المركزية الجامعة، كانت مقدمات لانهيارات وانكسارات الفصائل عسكرياً.
ما الذي أحدثته الثورة؟
بعد شهر من الآن، أي في 15 مارس/آذار تكون ثورة عام 2011 السورية قد أتمت تسع سنوات، كأحد أبرز الأحداث السياسية في تاريخ سوريا الحديث والمعاصر، والتي أطلق عليها "ثورة الكرامة"، ومع أنها لم تستهدف رأس النظام بقدر ما استهدفت بنيته العامة كمرحلة أولى من مراحل التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ظل نظام الأسد قائما مع وضعه في إطار المزادات السياسية الإقليمية والدولية، وكان ضمن هذا التحول أن حلت شخصيات جديدة، فتناهبت أجهزة الأسد السلطوية على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري مجموعة من "الحيتان" المحسوبين على الروس والإيرانيين، واستأثر أمراء الحرب الانتهازيون بقدر كبير من النفوذ، والذين عملوا إلى جانب عوامل أخرى على إحداث هوة واسعة من التمايز الطبقي مما أحدث خللا بالغا في حاضنة الأسد بعد كسر هيمنته الطائفية والأسرية.
لم تسلم الثورة السورية من التلاعب الدولي والإقليمي، متمثلا بالموقف العربي، فيما كان موقف الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي تسيطر على أجزاء من سوريا باسم "التحالف الدولي" داعما للأسد بشكل انتهازي، وأما تركيا فينحصر موقفها ضمن هواجس أمنها القومي، فيما أعلنت موسكو وطهران حربها العلنية ضد الشعب السوري بوقوفها إلى جانب نظام الأسد، وبالتالي عملت كل الأطراف على إجهاض الثورة إقليميا ودوليا، مما سمح لنظام الأسد بالتمدد عسكريا على مساحة واسعة كان قد خسرها في الأعوام الأولى من الثورة.
لم تتوقف الحرب عند مواجهة فصائل المعارضة، بل طالت آثارها كل السكان الذين يعيشون في المناطق التي ثارت على الأسد، حيث تعرضت لعمليات السلب والنهب بعد أن أباحها الأسد لشبيحته كونها "مناطق الإرهابيين"، حسب توصيفه. وعمليات السلب والنهب التي يصفها السوريون بـ "التعفيش"؛ المراد منها الهجمات التي تشنها مجموعات من مختلف الطوائف أطلق عليها اسم "الشبيحة" وبدعم من ضباط الأسد والروس والإيرانيين، هو حدث لا يحتاج إلى مزيد من البحث للتحقق منه لأنه أصاب أغلب السوريين.
فاستهدفت تلك الهجمات ممتلكات الفلاحين من آليات الري والحيوانات والغلال، علاوة على "مقاعد دورات المياه" التي يمتلكها بعض الميسورين، وكذلك أثاث البيوت، ولم يسلم من ذلك حتى المقابر التي نبشها شبيحة الأسد، لذلك نزح كل السكان إلى عمق محافظة إدلب هربا من "نباشي القبور" وفضلوا العيش تحت قصف الطيران ومتابعة رفضهم لهذا النظام المستبد.
خلاصة
على نحو ما تتعرض له أي ثورة شعبية، فقد استهدفت الثورة السورية بمختلف أشكال المواجهة منذ اندلاعها إلى هذا الوقت، وقد وُصفت بـ"الإرهاب"، و"العمالة" وهو توصيف ممنهج نتيجة حملة التضليل التي تصدرها اللوبي الإعلامي الإيراني الذي أراد تحويل الشريحة الأكبر من السوريين الرافضين لنظام الملالي إلى مجرد "مرتزقة" لإسرائيل، وهذه البروبغندا الإعلامية سادت عصر الأسد الأب وطالت من عارضه من "علويين ومسيحيين وشيوعيين" وحولهم إلى "خونة وعملاء" ومنهم من اتُهم بأنه عضو في جماعة الإخوان المسلمين، وليس أدل على ذلك سوى كتاب "القوقعة" للكاتب مصطفى خليفة.
وبالنتيجة: لا تزال الثورة السورية بما أحدثته من مفاهيم وطنية وسياسية واقعا يكشف لنا أن انكسار الفصائل العسكرية ليس نهاية الثورة، فربما بعد حين تتبدل خرائط النفوذ والصراع لا يزال مستمر بين نظام الأسد الذي يشكل أكبر خطر يهدد سوريا والإقليم، وبين ثورة شعبية لا يمكن اجتثاثها مهما بلغ حجم من نصّب نفسه حامياً للعروش المهددة بالسقوط.