بلدي نيوز - (تركي مصطفى)
مقدمة
بذريعة تطبيق اتفاق سوتشي، الموقع في
أيلول/ سبتمبر العام 2018م بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير
بوتين، وبصرف النظر عن الرواية الروسية؛ يبدو أن فصلاً جديداً من العدوان يجتاح ما
أطلق عليه "منطقة خفض التصعيد الرابعة"، هذه المنطقة التي ظلت طوال سنوات
الحرب التسع الماضية خارج مسرح عمليات روسيا العسكرية، وخارج سيطرة قوات نظام
الأسد وتلك التابعة لإيران؛ حيث تتمتع فصائل المعارضة بالسيطرة الكاملة على هذا الجزء
من المنطقة، وتحت مظلة النفوذ التركي.
هذا العدوان الروسي يأتي في سياق
مصفوفة أحداث أكثر دمويةً تحدث اليوم في إدلب وريفها، امتدادا لأحداث سابقة، في إطار
بعث الصراعات الموجَّهة بذريعة محاربة تنظيمات راديكالية، وصراع النفوذ والسيطرة بين
روسيا وحليفتها إيران من جهة، وبين تركيا وفصائل المعارضة السورية المسلحة من جهة
أخرى، مع أن هذا العدوان هو أحد إفرازات أحداث السنوات التي أعقبت التدخل الروسي
العسكري في سوريا في أيلول/سبتمبر 2015م، والاتفاقات التي أبرمتها مع الجانب
التركي، والتي تهدف روسيا من خلالها للسيطرة على كل المناطق الخارجة عن نفوذ نظام
الأسد.
وبالرغم من أن الاتفاق التركي الروسي
في سوتشي الذي ينص على أن يكون البلدان ضامنين للحفاظ على منطقة خفض التصعيد،
والعمل على إنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب، فاصلة بين فصائل المعارضة وقوات
النظام، ووقف إطلاق النار وأي عمليات عسكرية. إلا أن روسيا ضربت بهذه الاتفاقيات عرض الحائط، وعادت مجددا للتوغل في
محافظة إدلب وفق تكتيك القضم التدريجي للمناطق المحررة؛ بدأ
بريف حماة الشمالي الغربي واحتدم بريف إدلب الجنوبي الشرقي، وتسببت الحملة الحالية على إدلب، بسيطرة
الميليشيات المتعددة الجنسيات بدعم جوي وقوات خاصة روسية على نحو 40 قرية ومزرعة في
أرياف إدلب الشرقية والجنوبية، إضافة لسقوط نحو 120 شهيداً مدنياً، بينهم أطفال ونساء،
وفق توثيقات شبكة "بلدي نيوز". وأشارت منظمة "منسقو الاستجابة"
السورية إلى أن أكثر من 214 ألف مدني نزحوا من ريف إدلب نحو الحدود مع تركيا منذ منتصف
الشهر الماضي.
الخلاف على شرق الفرات
ويبدو أن ما دفع الروس إلى معاودة توغل
ميليشياتهم مجددا في أرياف إدلب، الخلافات العميقة مع تركيا، حيث طفت تلك الخلافات
على السطح مع نشر الروس قوات كبيرة، وبكامل عتادها العسكري مع قوات الأسد وقسد، في
مناطق عين عيسى ومنبج وتل تمر، شرقي وغربي الفرات على التوالي، في أثناء المواجهات
المسلحة التي نشبت في معركة "نبع السلام" بين الجيش التركي ومعه الجيش
الوطني السوري، وبين قوات سوريا الديمقراطية ومعها قوات الأسد المدعومة روسياً؛ حيث
مثّل انتشار القوات التركية في مدينتي تل أبيض وعين عيسى بعد انسحاب القوات
الأميركية منافسة صارخة للروس، وتجلّى كما لو أنه توجه لتأسيس قواعد عسكرية روسية
في تلك المنطقة.
في ظل تنامي التصعيد بين الطرفين
التركي والروسي على خلفية تجاهل اتفاق سوتشي الموقع بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين
والتركي رجب طيب أردوغان، في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، والذي عُلّقت بموجبه عملية
"نبع السلام" التي شنتها تركيا في الثامن من الشهر ذاته، والذي قضى
بانسحاب الوحدات الكردية ابتداء من المنطقة الشطرية مع تركيا مسافة 30 كيلومتراً. فيما
ازدادت فجوة الخلاف حول السيطرة على بلدتي عين عيسى وتل تمر اللتين لا تزالان
فعليا تحت سيطرة وحدات الحماية الكردية بدعم عسكري روسي وانتشار لقوات نظام الأسد في
محيطهما. ومع الإصرار التركي على انسحاب "وحدات الحماية الكردية" من كل المنطقة
المتفق عليها، طرح الروس مشروع بقاء قوات "الأسايش"، الكردية في هذه
المناطق، لكن الأتراك اعترضوا على ذلك، مع قبولهم بانتشار مشترك مع الشرطة العسكرية
الروسية في تلك المناطق.
مصالح ظرفية لا أكثر
الطرف الروسي ازداد توجسا بعد عودة أمريكا
لتولِّي ملفّ شرقي الفرات وعدم إعطاء الدور أو الساحة لروسيا. وتفاقم الأمر مع
إقرار "قانون سيزر" الذي يقضي بفرض عقوبات كبيرة على نظام الأسد وداعميه،
مما شكل تهديدا مباشرا لروسيا، لذلك استعجلت العدوان، قبل نهاية مهلة الـ90 يوماً لتنفيذ
القرار، كي تتمكن من السيطرة على أكبر مساحة من محافظة إدلب، متجاوزة كل المواقف
الدولية المنددة بالعدوان. والأكثر من ذلك أن الروس يرون في علاقتهم المستجدة مع
تركيا بأنها شريك لا يمكن الوثوق بها، وأن العلاقات السائدة حاليا هي عبارة عن مصالح
ظرفية لا أكثر. فيما التحالف بين أنقرة وواشنطن تحالف استراتيجي، وفي هذا السياق،
اعتبر الرئيس الأمريكي، في تغريدة له على تويتر، الخميس الماضي، أن تركيا تعمل جاهدة
على وقف "المذبحة" في إدلب. وذكر حرفياً: "روسيا وسوريا وإيران تقتل،
أو في طريقها إلى قتل آلاف المدنيين الأبرياء في محافظة إدلب. لا تفعلوا ذلك! تركيا
تعمل جاهدة لوقف هذه المذبحة".
الملف الليبي واتساع فجوة
الخلاف
وما يلحظ الآن، أن البعد المباشر للتصعيد
الروسي في منطقة خفض التصعيد بإدلب، جاء عقب إعلان تركيا توقيع مذكرتي تفاهم مع حكومة
الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دوليّاً برئاسة فائز السراج، حول الحدود البحرية
والتعاون الأمني والعسكري. وبما أن روسيا، تدعم قوات الجنرال خليفة حفتر، فقد سارعت
للتصعيد في إدلب، في محاولة للضغط على تركيا، كونها أحد أطراف آستانا الضامنة في هذه
المنطقة، وجاء الضغط الروسي على شكل "ابتزاز"، ضد تركيا وكذلك ضد المجتمع
الدولي، لتحقيق مصالحها السياسية والعسكرية في المنطقة. فأنقرة التي دعمت موقفها الرسمي
بالتفاهمات مع حكومة السراج الشرعية، قابلتها موسكو بالضغط عليها في إدلب وسوريا بشكل
عامّ، وذلك بشَنّ هجوم كاسح على إدلب، تمهيداً لفرض الأمر الواقع في أثناء اللقاء المرتقب
بين الرئيسين بوتين وأردوغان.
إدلب ساحة لتصفية الحسابات
في ظل هذه الظروف تعمل كل أطراف الصراع
في سوريا على إعادة تموقعها، على طول مناطق خفض التصعيد، من "كبانة" في
ريف اللاذقية الشمالي الشرقي، إلى ريف إدلب الجنوبي. وصولا إلى ريفي حلب الجنوبي
والغربي، غير أن الصورة الأبرز للتنافس على أرض الواقع تبدو "روسية – تركية"؛
ومع بدء العدوان الروسي الجاري على إدلب، بدت أنقرة عاجزة عن القيام بدورها كضامن لوقفه، خاصة أن نقطتها الثانية
بعد نقطة مورك، باتت محاصرة في منطقة الصرمان بريف إدلب الشرقي.
عملياً، يبدو التنافس واضحا بين أنقرة وموسكو،
في ريف ادلب الجنوبي والشرقي التي خسرت فصائل المعارضة مؤخراً مساحة واسعة منها، في
أثناء معاركها الجارية مع القوات الخاصة الروسية وميليشيات الأسد وإيران، وباتت
هذه المناطق تمثل جزءاً من مناطق النفوذ المتنافس عليه بين تركيا وروسيا؛ حيث نشرت
فصائل المعارضة، قوات مؤهلة في مناطق خفض التصعيد، وعزّزتها بـمجموعات مقاتلة من "الجيش
الوطني" المدعوم تركيّاً؛ فيما تواصل روسيا جرائمها بشكل فاضح بذريعة مكافحة الإرهاب؛
ذلك أن هذه المناطق مثلت آخر الملاذات الآمنة للمدنيين السوريين الرافضين لنظام
الأسد والاحتلالين الروسي والإيراني، خلال السنوات الماضية.
خلاصة
أمام هذه التفاعلات المتناقضة، فالتصعيد
المتعاظم في منطقة خفض التصعيد الرابعة، وضعت كل هذه الأطراف على خريطة المنطقة،
تزامنا مع حالة التنافس السياسي والعسكري التي يمر بها طرفا "آستانا"؛ بفعل
العدوان الذي تتعرض له منطقة ريف ادلب الجنوبي والشرقي، وما قد يتعرّض له ريفي حلب
الجنوبي والغربي من عدوان روسي، في إطار توسع رقعة الحرب في سوريا، وربما قد نشهد عودة
أميركية سريعة للمنطقة، مما يفاقم من الفوضى، في سياق تنافس متواصل وخلافات عميقة
لتحقيق كل طرف مكتسباته السياسية والعسكرية على حساب الدم السوري.