بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
عرف العرب المسرح قديمًا في الألعاب الرياضية وتجري ضمن مضمار للقيام بتمارين الفروسية وترويض الخيول من قبل أصحابها، وكأن كل من في المضمار يدورون في حلقة لا نهاية لها, كما لا بداية لها.
تمامًا كالذي يجري في جنيف بين الوفد المحسوب على المعارضة السورية, ووفد نظام الأسد، فلقد بدا جليًا أن ما جرى ويجري في جنيف يأتي ضمنيًا في سياق الاستراتيجية الروسية, يجسده التباين بين أهداف القرار الدولي 2254 الصادر عن جنيف واللجنة الدستورية المنبثقة عن سوتشي الروسية, وأوسع من ذلك فإن ما يجري في جنيف عرّى الأعضاء المحسوبين على المعارضة، الممثلين لمصالحهم وقناعاتهم الشخصية، ولمآرب الممول الخارجي ومخرج أحداث جنيف الدرامية.
لقد عرف السوريون ما يريده هؤلاء الممثلون، فهم سعاة مناصب، يركضون خلفها من عاصمة إلى أخرى، لا يهمهم الشعب السوري ولا مطالبه المشروعة، واتضح ذلك خلال المفاوضات الجارية في جنيف، فبدلا من الشروع في عملية الانتقال السياسي، فقد رضخت المعارضة للضغوط تحت مبدأ الواقعية السياسية، مما جعلها تطوي مبدأ الانتقال السياسي لتدخل في انتخابات مع نظام الأسد وفق الدستور الجديد، ما يعني بقاء الوضع في سورية على ما كان عليه في مارس/آذار 2011، على الرغم من المجازر وتهجير ملايين السوريين.
وبالتالي إن ما يجري في جنيف الآن مخالف للقرارات الدولية, ومن أبرز الوقائع المؤكدة على هذا المذهب، "اللجنة الدستورية"؛ إذ تخلّلت إرهاصات تشكيلها مساع متباينة القدر؛ فمنذ مؤتمر جنيف عام 2012م, والكل يتحدث عن وضع دستور جديد لسوريا، وما زالوا مختلفين، مرة على بعض البنود، ومرة على أعضاء اللجنة الدستورية، ومرة على صلاحيات الرئيس الموسعة.
إلّا أنّ الظفر بتشكيلها كان حليف الروس الذين قدموا خيار القوة على خيار التسوية السياسية بالقفز على قرارات الأمم المتحدة, من هنا يعتبر تشكيل اللجنة الدستورية قرارا روسيا تم تمريره بالتواطؤ مع جزء من المعارضة وبدعم غير مسبوق من المبعوث الدولي السابق ستيفان ديمستورا, وبعض الدول الغربية والعربية.
حتى باتت اللجنة الدستورية, تشكل مسرحية سياسية بامتياز، تلعب فيها الأطراف سجالات التفاوض، والذين جعلوا صورة سوريا تصبح باهتةً أكثر من أي وقت مضى رغم تاريخها العريق.
بذاءة المعارضة
من جديد تسقط المعارضة السياسية السورية, وتتلاشى وتنهار، وتسيطر جماعات انتهازية لا تمتلك أي مشروعية شعبية، وتتسلق على ثورة لم يشهد التاريخ السوري مثيلاً لها.
كانت الخطابات التي شهدتها أروقة الأمم المتحدة لممثلي المعارضة أقرب للبيانات الحزبية التي يعقدها البعثيون بشكل دوري, تجسد إلى حدّ بعيد انهيار المعارضة وتمزيقها بأيد خارجية، حيث بالغ ذوو المناصب المعارضة من هادي البحرة وحتى أصغر من التحق منهم بالتأييد لصالح نظام الأسد.
لا يتحدث هؤلاء ولا يشيرون بأي وسيلة للآثار المدمرة على الشعب السوري، وكأنه غير موجود على هذه الأرض، ولا يعنيهم ما يدور من حروب وصراعات وتقسيم وتمزيق.
وكان لافتاً أن خطابات وفود نظام الأسد والمعارضة والمجتمع المدني الـ150، لم تتضمن حديثاً مباشراً عن بشار الأسد.
إذ أشار متحدثون من المعارضة إلى أهمية الإصلاح الدستوري والتغيير وبحث المبادئ الدستورية واللامركزية.
حتى الشخصيات السياسية الممثلة في الائتلاف والتي تستند في وجودها وتعتمد في عملها على الثورة غاب عنها مصطلح الثورة، ولم تعد تهتم إلا بمصالحها المتغولة في المناصب الوهمية.
ازداد طابور المعارضة في جنيف عدة أشخاص سواء تحت مسمى المجتمع المدني أو سواه، ولعل المشاركين في المعارضة يظنون أن تنعمهم في رغد جنيف والتباهي بالغنى المحروس ببطائق الائتمان، يخولهم التصرف بحقوق السوريين كما يريدون.
من هنا لا توجد معركة سياسية في جنيف بين فريقين مختلفين, ولكن هؤلاء لديهم مشروعهم الخاص ويبحثون دائمًا عن سبب لتمديد الحالة السورية الراهنة, حتى ذهب بعض من أعضاء السلة المحسوبة على المعارضة في لجنة الدستور لأعضاء محسوبين على نظام الأسد في سوريا بطلبات خاصة شخصية.
لا شك أن المعارضة الوطنية تعي بأنها أمام تحد كبير؛ لأن قرارها مقيد؛ بفعل عوامل كثيرة، أبرزها التأثير الدولي، ولذلك قد تتريث قليلا إلى أن تتهيأ الظروف للخلاص من المعارضة البذيئة، وقد تحتاج إلى لملمة شتاتها واتخاذ قرار وطني بعزل كل هؤلاء المشاركين بمسرحية جنيف, وليكن بعد ذلك ما يكون.
روسيا والانقلاب على القرارات الدولية
منذ العام الأول للتدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا 2015، وموسكو تسعى إلى تغليب مصالحها، على مصالح السوريين، ومع سبق إصرار وترصد وتعدٍ سافر، داومت على حرق المدن والقرى السورية وتصفية أبرز قادة ومقاتلي الجيش الحر، وقد سبق أن أثرنا ذلك عبر هذا المنبر "بلدي نيوز"، في سياق المقال الموسوم بـ" "اللجنة الدستورية" انقلاب روسي على القرارات الدولية بتواطؤ بعض أطراف المعارضة": "تظهر بصمات روسيا بوضوح على "اللجنة الدستورية" الذي تزامن الإعلان عنها مع محاولة اجتثاث آخر معاقل الربيع السوري, ولأن اللجنة الدستورية أفرزتها المبادرة الروسية في آستانا ومن ثم سوتشي, فلن يكون مستغربا أن يعاد تدوير نظام الأسد، في خيانة رسمية تورطت فيها قيادات عسكرية وسياسية معارضة، بما فيهم نصر الحريري رئيس هيئة التفاوض العليا.
بخطى حثيثة، يحاول الروس ترسيخ احتلالهم لسوريا من خلال شرعنة تثبيت نظام الأسد في المشهد السوري للدرجة التي يصعب معها اجتثاث مشروعهم الطائفي، والإبقاء عليه كأمر واقع لا مناص من القبول به والتعايش معه، ومن ثم يصبح حقيقة مرّة تترسخ في الأذهان.
في هذا المقام سيتذكر الكثيرون استهداف الطيران الروسي لمدينة حلب عام 2016م, وما تلاها من عملية تدمير ممنهج للمناطق السورية الخارجة عن نفوذ نظام الأسد.
لقد كشفت موسكو، بكل وضوح، أنها الداعم الأول لنظام الأسد، والمساند السياسي والعسكري والمادي لنشاطه ولتشكيلاته العسكرية المنتشرة في مختلف المحافظات السورية، والتشكيلات المسلحة الأخرى المرتبطة بروسيا بشكل مباشر، التي كان القصد الحقيقي منها تمكين روسيا من احتلال سوريا, لقد تمكنت روسيا، عمليا، من خداع الجميع، وحفزت الأعضاء المحسوبين على المعارضة من الانسلاخ عن حقوق الشعب السوري، وتقديم نفسها كعدو فاعلٍ على الأرض، مع إصرارها على المشاركة في أي مفاوضات تسوية تقودها الأمم المتحدة، والآن تحاول إنهاء كل ما جرى في سوريا، بخدعة "اللجنة الدستورية"، التي ستعزز بقاء نظام الأسد في السلطة المرتمي في حضن استعمار مخملي, وجهه روسي وجوهره دولي، من خلال "سيرك جنيف" بمشاركة بعض الشخصيات الهزلية المحسوبة على المعارضة, وبالتالي السيطرة التدريجية على كل سوريا.
الأمم المتحدة وابتزاز السوريين
مع نشوب الحرب السورية, لم تبق ذات شأن داخلي بين أطرافها، إذ سرعان ما تدخلت الأمم المتحدة كمنظمة فض وفصل، محاولةً وضع حد لها، وتلك المهمة العظيمة تكفّل بها عدد من الشخصيات الدولية الذين مهدوا الطريق لتكريس حكم نظام الأسد, وحين أوشك النظام على التداعي، وبسطت المعارضة المسلحة سيطرتها الميدانية على أغلبية الأرض السورية، بدأت تقارير المنظمة الدولية تدق أجراس الخطر، عن دولة باتت متهالكة، تنهشها الكلاب من كل جانب، وسخّرت المنظمة الأممية طاقاتها كاملةً؛ لإبراز المعاناة السورية، وتحوّلت منصاتها وقنواتها الإعلامية إلى الشأن السوري؛ لتجني مبالغ ضخمة؛ ولتمويل مشاريعها المقترحة والرامية للحد من التدهور المعيشي الحاصل وإنقاذ القطاعات الخدمية الأساسية، لكن الواقع يقول إلى حد كبير، أن السوريين تعرضوا لحالات ابتزاز، واستخدموا كأداة للحصول على تمويل لم تكن تحلم به الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية.
لم تستطع الأمم المتحدة، بكل إمكانياتها، فعل شيء يُذكر لحلحلة الملف اليمني، ولا حتى فتح الباب أمام أي بوادر حل ممكنة، واكتفى المبعوثون برحلات مكوكية بين جنيف وموسكو وآستانا ودمشق، وكل هذه المدن شهدت العديد من الأحاديث المستمرة للوضع السوري وضرورة وضع حل سياسي وفق قرارات جنيف، ولكن ذلك كان مجرد أحاديث، ولا أساس له على قائمة الفعل الأممي، الذي لا يتعدّى دوره في ابتزاز الدم السوري.
شكّل الهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية، أهم اختبار للأمم المتحدة، ثم تلاه الهجوم الكيماوي على خان شيخون، وفشلت الأمم المتحدة في إيقاف جرائم النظام، ووقفت موقف المتفرج, وظلّت قراراتها حبرًا على ورق، يتجاوزها الأسد ويدوسوها بانتهاكاته المتواصلة على الشعب السوري. وانبثقت فكرة تشكيل اللجنة في إطار محادثات آستانة التي ترعاها روسيا الداعمة للأسد, وفي صفعة للأمم المتحدة أكد الأسد أن "كل ما يحصل هو جزء من سوتشي"، عادّاً أن "جنيف غير موجودة".
خلاصة
تحاول روسيا كسب الحرب السورية والقضاء على مطالب الشعب السوري على مستويات مختلفة، عسكرية وسياسية وقانونية، لتبدو "اللجنة الدستورية" أشبه بمسرحية هزلية، بحيث برز الدور الروسي جليا في استقطاب جزء من المحسوبين على المعارضة لتمرير هذه اللجنة من خلال القفز على القرارات الأممية على أن توظيفا روسياً لهذه الجماعة من المعارضة أخذت تؤديه، عمليا، وفق تفاهمات سرية أو علنية مع النظام، أو في الاستثمار الروسي لها وبالأخص فيما يسمى "منصة موسكو"، ذات التوجهات السياسية المغايرة لمطالب السوريين، ويشترك كثيرون مع هذه المنصة, مثل بعض أعضاء "منصة القاهرة" التي تتقاطع تماما مع نظام الأسد، وكذلك الجزء الأكبر من حصة المجتمع المدني هم تابعون بشكل واضح للنظام، وإن ادعت أنها "معارضة" فهذا مجرد مزايدة إعلامية خادعة، تقوم بها، إلا أنها تتبنى الشعار الذي أطلقه الشبيحة "الأسد أو نحرق البلد"، ويُنادى بذلك في كل محافلهم.