بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
مقدمة:
تقترب الثورة من عامها التاسع، وقد أثخنت روسيا وحلفها ومن ورائها المجتمع الدولي في إيلام السوريين، ومحاربة حريتهم وكرامتهم ومعتقداتهم، مع قتامة ملحوظة تحيط بالمشهد السياسي، إثر الإعلان عن "اللجنة الدستورية" في ظل تعدد الأطماع والأهداف المحلية والإقليمية والدولية، وتعمّد إطالة أمد الحرب بالقفز على القرارات الدولية بما يحولها إلى حرب استنزاف مفتوحة لا نهاية لها.
تظهر بصمات روسيا بوضوح على "اللجنة الدستورية" الذي تزامن الإعلان عنها مع محاولة اجتثاث آخر معاقل الربيع السوري, ولأن اللجنة الدستورية أفرزتها المبادرة الروسية في آستانا ومن ثم سوتشي, فلن يكون مستغربا أن يعاد تدوير نظام الأسد، في خيانة رسمية تورطت فيها قيادات عسكرية وسياسية معارضة، بما فيهم نصر الحريري رئيس هيئة التفاوض العليا.
بخطى حثيثة، يحاول الروس ترسيخ احتلالهم لسوريا من خلال شرعنة تثبيت نظام الأسد في المشهد السوري للدرجة التي يصعب معها اجتثاث مشروعهم الطائفي، والإبقاء عليه كأمر واقع لا مناص من القبول به والتعايش معه، ومن ثم يصبح حقيقة مرّة تترسخ في الأذهان.
إن أخطر ما في المشهد السوري، "اللجنة الدستورية" التي تقودنا قبل الدخول في تفاصيلها إلى مسرحية "غربة" التي كتبها الشاعر الكبير محمد الماغوط, وأضحكت السوريين في حقبة الأسد المورّث إثر مشهد درامي حيث يرد أغا "القرية" على المعلم الذي يريد أن يفتح مدرسة ليقضي على الجهل. حين يسأل المعلم "مين حَكّمَك على ها المساكين؟".. فيقول: "الدستور".. فيسأله المعلّم: "أيّا دستور؟ يرد الأغا: "دستور الضيعة". ويطلب من الشّرطي أن يريه الدستور.. يتساءل الشرطي: "وين الدستور؟". يجيب الشرطي الثاني: "بالخرج". الأول يسأل: "وين الخرج؟". الثاني: "على الحمار". الأوّل:" وين الحمار؟". الثاني: "موقوف". الأوّل: "شو عمل؟". الثاني: "أكل الدستور". يلتفت الأغا إلى الشرطي قائلاً: "قلتْ لي الحمار أكل الدستور؟ وكيف انهضم معه هيك دستور؟ وكيف بدّي فهّم الحمار الثاني أنّ هناك شرعية ودستور؟".
القفز على القرارات الدولية
تؤكّد شواهد التاريخ السياسي العسكري السوري، في أكثر من خمسة عقود من عمر حكم آل الأسد، أنّ كل وقائع الاستيلاء على السلطة بالقوة لم تسجل نجاحا لأيّ مسعىً سياسي بين نظام الأسد والشعب السوري، وأن خيار الحسم العسكري كان الفيصل، لتعزيز قبضة المستولي على السلطة، أو تمكين الساعي إلى استردادها كما يفعل الروس مع نظام الأسد الذي خرجت عن نفوذه أغلبية المناطق السورية خلال مراحل الثورة. وعادة ما كان الأسد الأب يعمد إلى هذا الخيار، بواسطة حروب عنيفة كالتي شنها ضد الشعب السوري في ثمانينات القرن العشرين، ترافقها حالات نهب ومصادرة للحقوق بالقوة الغاشمة، سواء كان منافسه على السلطة من طائفته كاجتثاثه قيادات سياسية وعسكرية من طائفته العلوية في انقلابه عام 1970 أو من خارجها. وحاكى الأسد الوريث هذا النهج في ظروف مماثلة من الاستيلاء على السلطة، إثر تعديل الدستور الذي وضعه حافظ الأسد في مسرحية مجلس الشعب خلال دقائق في العام 2000م. وهي المرة الأولى التي يعمل نظام الأسد بالدستور حينما احتاجه لتعديل مادة تسمح لبشار الأسد بالوصول إلى سدة الرئاسة. ومن ذلك ما تعيش البلاد تفاصيل أحداثه في الوقت الراهن بعد العدوان الروسي على الشعب السوري. ومن أبرز الوقائع المؤكدة على هذا المذهب، "اللجنة الدستورية"؛ إذ تخلّلت إرهاصات تشكيلها مساع متباينة القدر؛ فمنذ مؤتمر جنيف عام 2012م, والكل يتحدث عن وضع دستور جديد لسوريا، وما زالوا مختلفين، مرة على بعض البنود، ومرة على أعضاء اللجنة الدستورية، ومرة على صلاحيات الرئيس الموسعة. إلّا أنّ الظفر بتشكيلها كان حليف الروس الذين قدموا خيار القوة على خيار التسوية السياسية بالقفز على قرارات الأمم المتحدة, من هنا يعتبر تشكيل اللجنة الدستورية قرارا روسيا تم تمريره بالتواطؤ مع جزء من المعارضة وبدعم غير مسبوق من المبعوث الدولي السابق ستيفان ديمستورا, وبعض الدول الغربية والعربية. وفي اتصال أجرته بلدي نيوز مع رئيس المكتب التنفيذي في "الهيئة الوطنية للقانونيين السوريين"، القاضي حسين حمادة، الخميس 26 من سبتمبر/أيلول، اعتبر أن اللجنة التي تكلفت بإعداد مسودة تسمى "جمعية تأسيسية" يتم إنتاج أعضائها عبر انتخابات عامة أو انتخاب جزء منها وتعيين الجزء الآخر من السلطة الشرعية / مجلس نواب - رئاسة جمهورية، أما اللجنة الدستورية فهي اللجنة المؤلفة من أعضاء مجلس النواب في الدساتير المرنة لما يتم طرح تعديل الدستور من قبل رئيس الجمهورية أو من ثلثي أعضاء مجلس النواب.
وأضاف القاضي حمادة "من هنا فإن اللجنة المسماة (لجنة دستورية) التي يسعى المجتمع الدولي لإنتاجها ليس لها أي مرجعية دستورية أو قانونية أو سياسية أو واقعية, وفند القاضي حمادة هذه اللجنة من الناحية الدستورية, بأنه يغلب عليها الطابع العلمي (سياسي – حقوقي) ويكون مرتكزها في بناء الدستور هو إما مرجعية (الدولة الوطنية أو الدولة القومية أو الدولة الدينية) وهي بهذا المعنى لا تخضع -على الغالب- لتوزيع الحصص بين الموالاة والمعارضة وجهات دولية، أو إلى توزيع المقاعد بين مكونات الشعب السوري العرقية والدينية لأن الاخيرة يمكن مراعاتها في مواضع أخرى.
واعتبر القاضي حمادة, أن عملية طرح مسودة دستور جديد للبلاد يتطلب من الناحية القانونية إعادة تصويب القوانين الخاصة التي تعرقل الانتقال السياسي وتكرس الاستبداد, وذكر من تلك القوانين: قانون مجلس النواب (النظام الداخلي رقم 304 تاريخ 6/8/2017), وقانون السلطة القضائية رقم 98 الصادر بعام 1961 وتعديلاته, وقانون الجيش والقوات المسلحة (خدمة العلم) رقم 30 لعام 2007 وتعديلاته, وقوانين قوى الأمن الداخلي والمؤسسات الامنية ومنها المرسوم التشريعي رقم 14 المؤرخ 1511969 المتضمن تأسيس الإدارة العامة للمخابرات والمرسوم التشريعي رقم 549 المؤرخ 1551969 المتضمن النظام الداخلي للإدارة العامة للمخابرات, وقانون السفراء والدبلوماسيين (المرسوم التشريعي رقم 4 لعام 2010, وقانون الإدارة المحلية) المرسوم التشريعي رقم 107 لعام 2011, وقانون الجنسية / المرسوم التشريعي رقم 276 لعام 1969 وتعديلاته, وقانون ضريبة الدخل رقم 24 لعام 2003 والمراسيم المتعلقة به, وقانون الأحزاب السياسية / المرسوم التشريعي رقم /100/ تاريخ 3/8/201 والمرسوم رقم /146/ تاريخ 14/4/2011 والتعليمات التنفيذية رقم /12793/ الصادرة عن رئيس مجلس الوزراء عام 2011, وقانون الانتخابات العامة رقم /5/ تاريخ 24 - 3 - 2014 وتعليماته التنفيذية, وقانون الإعلام والمطبوعات رقم /108/ لعام 2011, والمرسوم التشريعي رقم 40 المؤرخ 251966 الذي منح حصانة لبعض الموظفين الحكوميين, والمرسوم التشريعي رقم 109 المؤرخ 1781968 المتضمن تشكيل المحاكم العسكرية, والقانون رقم 49 المؤرخ 771980 المتعلق بالإخوان المسلمين, والمرسوم التشريعي رقم 69 المؤرخ 3092008 المتضمن حصانة للشرطة والجمارك والأمن السياسي من الملاحقة وتعديلاته وخاصة المرسوم رقم 55 المؤرخ 2142011, والقانون رقم 19 المؤرخ 2862012 المتضمن مكافحة الإرهاب, والقانون رقم 22 المؤرخ 1572012 المتضمن تشكيل محاكم الإرهاب.
تواطؤ المحسوبين على المعارضة
يعيش السوريون، اليوم، حالةً من الذهول والاندهاش إزاء ما جرى في الأيام الماضية، من إعلان تشكيل اللجنة الدستورية, التي وصفها رئيس الهيئة العليا للمفاوضات نصر الحريري، بأنه "إنجاز حقيقي وانتصار للشعب السوري وجزء من القرار 2254، ولا أحد يستطيع أن يُنكر ذلك", وأبدى طيف واسع من السياسيين والقانونيين السوريين، موقفهم من اللجنة الدستورية ومخاوفهم منها ومن مخرجاتها، معتبرين أنها إجهاض كامل لمقررات جنيف1 عام 2012 التي تصر على تشكيل هيئة حكم انتقالي تتولى السلطة في سوريا وتعد لانتخابات. وفي اتصال أجرته بلدي نيوز مع المحامي والسياسي عيسى إبراهيم, الذي قال "اللجنة الدستورية محكومة بآلية عملها غير الواضحة، وبمآل وسياق، سيغلب حكما إرادة أعضائها مهما كانت طيبة افتراضا، فما بالك أن كثيرا من أعضاء اللجنة المحسوبين على "المعارضة" بما في ذلك "المنصات" متقاطع مع "النظام" تماما، وكذلك الجزء الأكبر من حصة "المجتمع المدني" مصطلح ليس له دلالة في سوريا، المعينين افتراضا من الأمم المتحدة، هم بأكثريتهم من ممثلي "النظام". إضافة لعدم وجود غطاء قانوني للجنة الدستورية الا الدستور الحالي, فسوريا الآن ليست تحت الوصاية الدولية ولا الانتداب كمفهومين حقوقيين حتى يمكن للأمم المتحدة التدخل بهذا الأمر السيادي وتغطيته قانونيا، وبذلك أصبحت اللجنة خارج مفهوم العملية الدستورية كسلّة من السلال الأربعة، التي تتحدث عن هيئة حكم انتقالي وفق مرجعية جينيف، وتحولت لإجراء تعديل دستوري تحت رعاية "النظام" وبالتالي إعادة "شرعنته" كجهة محايدة تجاه السوريين!".
وأضاف إبراهيم "كما أن الكارثة السورية المستمرة منذ سنوات، ليست دستورية، وإن كان لها جانب دستوري تجب معالجته".
بدوره، يشدد رئيس اتحاد السوريين في المهجر الأستاذ ثابت عبارة على أنّ غرض تشكيل اللجنة الدستورية الإطاحة بفكرة هيئة الحكم الانتقالي الواردة في القرار 2254 والإجهاز على مبدأ "الانتقال السياسي"، ويقول "لا معنى لأي عملية إصلاح دستوري دون وجود تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية، تحقق الحد الأدنى من العدالة الانتقالية، وتُحدث تغييرا حقيقيا في سوريا، وهذا مرتبط بوقف العمليات العسكرية على الأرض، وتحقيق توافقات بين القوى الدولية الفاعلة".
ويتوقع أن تتعثر أعمال اللجنة وتصل إلى طريق مسدود عند أول عقبة جدية أو خلاف حقيقي. ذلك أن اللجنة بتركيبتها الحالية وفقدانها للصلاحيات وخضوعها للتوازنات الإقليمية والدولية، لم توجد من أجل تشكيل دستور جديد يكون الأساس لتحوّل سياسي ذي معنى، وإنما لترحيل الخلافات وللتغطية على غياب الاتفاق الإقليمي والدولي حول مستقبل النظام السياسي في سوريا، وأغلب الظن أن يقوم النظام السوري ومن خلفه الروس باستثمار هذه اللجنة لكسب الوقت حتى يحين موعد انتخابات 2021، حيث النتيجة المضمونة!.
المحامي ميشال شماس استغرب في حديثه مع بلدي نيوز من أن نظام الأسد أعلن عن أسماء ممثليه في اللجنة الدستورية, فيما باقي أعضاء اللجنة ممن يصنفون أنفسهم من المعارضة والمجتمع المدني لم يعلنوا عن أنفسهم أنهم أعضاء في هذه اللجنة. يقول شماس "يبدو أنهم خجلون".
وأضاف المحامي "لمن التبس عليه أمر اللجنة الدستورية فهي ليست مخولة على الإطلاق لا من بعيد أو قريب بمناقشة وقف القتال ومنع الاعتقال وإطلاق سراح المعتقلين. اللجنة مهمتها محددة بصياغة دستور أو تعديل دستور ولا يجوز لها الخروج عن هذا". وهذا ما أكده وليد المعلم وزير خارجية نظام الأسد في مقابلة مع قناة الإخبارية التابعة لنظام الأسد، يوم الثلاثاء الماضي عندما قال "إن انطلاق أعمال اللجنة الدستورية لا يعني وقف العمليات العسكرية في سوريا، والحرب لا تزال قائمة في سوريا، وسنستمر حتى تحرير كل أراضينا، وهذا لا يتعارض مع العمل على الدستور". وهذا يعني الاجهاز على إدلب تحت غطاء اللجنة الدستورية.
خاتمة
تحاول روسيا كسب الحرب السورية والقضاء على مطالب الشعب السوري على مستويات مختلفة، عسكرية وسياسية وقانونية، لتبدو "اللجنة الدستورية" أخطر منعطف في المشهد السوري برمته، بحيث برز الدور الروسي جليا في استقطاب جزء من المحسوبين على المعارضة لتمرير هذه اللجنة من خلال القفز على القرارات الأممية على أن توظيفا روسياً لهذه الجماعة من المعارضة أخذت تؤديه، عمليا، وفق تفاهمات سرية أو علنية مع النظام، أو في الاستثمار الروسي لها وبالأخص فيما يسمى "منصة موسكو"، ذات التوجهات السياسية المغايرة لمطالب السوريين، ويشترك كثيرون مع هذه المنصة, مثل بعض أعضاء "منصة القاهرة" التي تتقاطع تماما مع نظام الأسد، وكذلك الجزء الأكبر من حصة المجتمع المدني هم تابعون بشكل واضح للنظام، وإن ادعت أنها "معارضة" فهذا مجرد مزايدة إعلامية خادعة، تقوم بها، إلا أنها تتبنى الشعار الذي أطلقه الشبيحة "الأسد أو نحرق البلد"، ويُنادى بذلك في كل محافلهم.