بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
مقدمة:
استراتيجيه لا شكّ في أنّ العملية العسكرية التي وجهتها روسيا ضد المناطق المحررة في الأول من أيار/مايو الماضي, جاءت قبل اجتماع قادة حلف "أستانا" لإجراء محادثات حول ملف محافظة إدلب، في الوقت الذي تحشد فيه موسكو قواتها الخاصة وميليشيات الأسد، استكمالا للعمليات العسكرية التي بدأتها قبل ثلاثة أشهر، وكشف هذا المشهد أن موسكو تنتهج استراتيجية "الحرب الدبلوماسية"، أو استراتيجية "المفاوضات" مع الضغط العسكري المتواصل مما يجبر الخصوم على قبول الشروط الروسية والاستسلام للقدر الروسي, ويعتبر لقاء أستانا الذي عقد في العاصمة التركية الأكثر غموضا ضمن سلسلة من الاتفاقات السرية لحلف أستانا التي ينفذها الحلف المذكور منذ بداية العام 2017م، يهدف آخرها إلى اتباع استراتيجية "الضغط الأقصى" التي تعتمدها روسيا لتنفيذ اتفاق سوتشي بنسخته المعدلة, ومن المتوقع أن تستمر العمليات العسكرية طالما تركز روسيا على حسم ملف إدلب عسكريا أو سياسيا؛ ولهذا السبب، من المرجح أن يؤدي قرار الرئيس فلاديمير بوتين بمواصلة العمليات العسكرية إلى جانب ميليشيات الأسد وفق تصريحه في اجتماع أنقرة إلى تفاقم الأمور.
وفي الوقت نفسه، إذا لم تفرض الفصائل المعارضة ثمنا عسكريا على موسكو وميليشياتها بسبب هذه الأفعال، فسيتواصل التصعيد، مع تداعيات سلبية على الأمن القومي التركي، والمصداقية الروسية، والاستقرار الإقليمي. لذلك فإن فهم فصائل المعارضة لاستراتيجية التضليل والخروج من "المنطقة الظلامية"، وتعّلم كيفية العمل في هذه المنطقة ضد روسيا وحلفها أمران ضروريان إذا أرادت المواجهة أو تجنب المزيد من التصعيد العسكري.
إدخال الفصائل في المنطقة الظلامية الروسية
يتسم تعامل موسكو منذ تدخلها في سوريا خلال أربع سنوات وفق خطة استراتيجية ظلامية تجمع بين الحرب والهدن من أجل مواجهة الوضع الراهن وإدارة المخاطر في الوقت نفسه. والقضم التدريجي للمناطق المحررة بعدما كشفت الوقائع والأحداث التي شهدتها وتشهدها المدن والبلدات الثائرة أن نظام الأسد والميليشيات التابعة لإيران ليسا وحدهما من يقف وراء كل هذا الخراب السوري بأحداثه المؤلمة سواء من خلال استخدام القوة المدمرة ضد مناطق نفوذ المعارضة أو بسياسة الاحتواء من خلال القوة الناعمة, وليسا وحدهما أيضا من يقف وراء تفريغ تلك المناطق من مقاتليها وسكانها، بل برعاية روسيا وبمؤازرتها العسكرية الجوية والبرية، وما سوتشي بنسخته المعدلة سوى سلسلة تدور في عجلة عربة كبيرة، هي "عربة الهدن والاتفاقيات" بهدف تصفية الثورة السورية وتفريغها من مضمونها بعد أن تحولت من قضية شعب يطالب بالتحول الديمقراطي إلى مجرد ملف على طاولة "الكبار"، الهدف منه محاربة الإرهاب المتمثل بكل أطياف الثورة السورية، كما ترى موسكو وأحلافها ضمن خطة تضع فيه الجميع في ظلام معلوماتي مع مواصلة النشاط العسكري, لذلك تمكنت روسيا من إدخال المعارضة السورية في هذه المنطقة المظلمة مما جعل قادة الفصائل في الاجتماع الأخير الذي جمعهم بالمسؤولين الأتراك في العاصمة أنقرة يختلفون حول تفسير الطرح التركي إزاء الوضع في إدلب واتفاق سوتشي وهو ما يشير إلى أن كلام المسؤولين الأتراك كان في إطار العموميات، وهذا مرده إلى أن قمة أستانا الأخيرة في أنقرة لم تتوصل إلى اتفاق نهائي يخص منطقة خفض التصعيد الرابعة في إدلب وجوارها، أو أن تركيا لا تريد إخبار قادة الفصائل بتفاهماتها الجديدة عملا بالاستراتيجية الروسية.
استراتيجية وقف إطلاق النار
هذه الاستراتيجية التي تعتمدها موسكو بعض أصولها تعود إلى السنة الأولى من تدخلها في سوريا, فمنذ ذلك الحين، بذلت موسكو جهودا كبيرة لتفادي زج قواتها البرية في المعارك لأنها تدرك مدى الخسائر البشرية والتكاليف الباهظة التي يمكن أن تنتج عنها. على سبيل المثال، حتى في أوج الحرب السورية، قامت موسكو بنشر خمسة آلاف من قواتها البرية في سوريا وحوّلت أعباء المعارك إلى مجموعات من المرتزقة بما فيها ميليشيات الأسد وتلك التابعة لإيران من أجل تقليل خسائرها. ولكن بعد زج قواتها الخاصة في المعارك التي دارت في ريفي حماة وإدلب, أعلنت عن وقف إطلاق النار من طرف واحد لتجس نبض الاتجاهات الدولية والإقليمية, وتختبر مدى فاعلية مواجهة فصائل المعارضة، ثم تتراجع إذا ما واجهت ردا حازما وإن كان تراجعها مؤقتا فقط. وغالبا تعمد إلى إطالة وقف إطلاق النار لاستغلال برودة الفصائل بعد حماسها ثم تعود للانقضاض مجددا لقضم منطقة جديدة.
التهديد لا التصعيد
التهديد وليس التصعيد, هو ما تتبعه روسيا لإحراز مكاسب تدريجية وتراكمية بدلا من اتخاذ خطوات عسكرية سريعة وحاسمة. إذ تكفل المسؤولون الأتراك بمهمة التحذير من انهيار اتفاق سوتشي في حال عدم تنفيذ الإجراءات التالية:
ــ إبعاد الفصائل "الجهادية" من المنطقة منزوعة السلاح بسلاحها الثقيل والخفيف معا بشكل كامل ونهائي، والتي تصفها روسيا بالمتطرفة من المنطقة المحددة بناء على البند الخامس من اتفاق سوتشي (إبعاد جميع الجماعات الإرهابية الراديكالية عن المنطقة منزوعة السلاح). مع فرض عمق 30 كم بحيث تصبح الطرقات الرئيسية الرابطة بين حلب ودمشق وحلب واللاذقية داخل المنطقة منزوعة السلاح، وهو ما سيسهل فتحها على اعتبار أن المجموعات "الراديكالية" ستكون خارج المنطقة تلقائيا حسب نص الاتفاق القديم.
ــ فرض ضغوطات كبيرة على هيئة تحرير الشام, لتنفيذ تعديل الاتفاق الروسي التركي بصيغته الجديدة.
ــ دخول القوات الروسية إلى الطرق الدولية وتسيير دوريات مشتركة مع القوات التركية في المنطقة منزوعة السلاح، بهدف التأكد من إخراج فصائل المعارضة المعتدلة لسلاحها الثقيل من دبابات ومدافع وراجمات الصواريخ.
ـــ تفتيش المقرات العسكرية والتثبت من أنها تضم مقاتلين يتبعون لـ"الجبهة الوطنية للتحرير" وليس للفصائل "الراديكالية"، وفق آلية مشتركة بين موسكو وأنقرة.
وحذر المسؤولون الأتراك من انهيار اتفاق سوتشي في حال لم تطبق الإجراءات السابقة بشكل جدي وتحديدا سحب السلاح الثقيل وخروج الفصائل "الراديكالية" من المنطقة منزوعة السلاح, وتحميل الفصائل الحرج الذي وضعتها فيه مع موسكو كونها لم تنجح بتطبيق الاتفاق بسبب بقاء المجموعات الراديكالية في المنطقة منزوعة السلاح الثقيل أو ما يعرف بمنطقة الـ20 كم. كما حذر الجانب التركي كذلك من استمرار روسيا في عملية القضم التدريجي إذا لم تلتزم الفصائل بتطبيق الاتفاق وتفتح الطرق الدولية أمام حركة الترانزيت.
نتيجة: مواجهة روسيا
الواضح في المشهد الآن, أن روسيا تعتمد استراتيجية فعالة في قضم المناطق المحررة, حيث تنتهج جملة من الضغوطات لتقييد قدرة فصائل المعارضة على المواجهة، حيث لن تتوقف مطالب روسيا عند هذه الاجراءات بل ستتجاوزها إلى فرض مطالب جديدة تتعلق بإدارة منطقة خفض التصعيد, وهذا ما أكده مصدر عسكري -رفض الكشف عن اسمه- لبلدي نيوز، إن "ما وصلنا من لقاء قمة أستانا في أنقرة هو أن هدف روسيا وميليشيا الأسد رفع علم النظام فوق الدوائر الرسمية في أربع مدن، وعودتها للعمل تحت إشراف تركيا وروسيا دون تدخل قوات الأمن والجيش التابعين للنظام". وأضاف، أن هذه المناطق التي طالبت بها روسيا تشمل مراكز أربع مدن كبرى، وهي "معرة النعمان - سراقب - أريحا - جسر الشغور". وبما أن موسكو تسعى إلى تحقيق مصالحها فقط, فهي غير مستعدة للمخاطرة أكثر من ذلك في إدلب في حال قيام كل الفصائل العسكرية بحل نفسها, وتشكيل جسم عسكري موحد، وبالتالي من الأهمية حشر موسكو في الزاوية. مما يقلل من ذرائعها في العدوان ويحرمها من الاستفراد بإدارة الصراع, وبالتالي الخروج من المنطقة الظلامية الروسية.